فصل
nindex.php?page=treesubj&link=19290_29416ومن أقوى أسباب السكر ، الموجبة له سماع الأصوات المطربة ، لا سيما إن كانت من صورة مستحسنة ، وصادفت محلا قابلا ، فلا تسأل عن سكر السامع ، وهذا السكر يحدث عندها من جهتين :
إحداهما : أنها في نفسها توجب لذة قوية ينغمر معها العقل .
الثانية : أنها تحرك النفس إلى نحو محبوبها وجهته ، كائنا من كان ، فيحصل بتلك الحركة والشوق والطلب مع التخيل للمحبوب ، وإحضاره في النفس ، وإدناء صورته إلى القلب ، واستيلائها على الفكر لذة عظيمة تقهر العقل ، فتجتمع لذة الألحان ،
[ ص: 290 ] ولذة الأشجان ، فتسكر الروح سكرا عجيبا ، أقوى وألذ من سكر الشراب ، وتحصل به نشوة ألذ من نشوة الشراب .
ومن هاهنا استشهد الشيخ على السكر بقول
موسى عليه السلام لما سمع كلام الرب جل جلاله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=143رب أرني أنظر إليك وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وغيره : أن الله سبحانه وتعالى يقول يوم القيامة
لداود : " مجدني بذلك الصوت الذي كنت تمجدني به في الدنيا ، فيقول : يا رب ، كيف ؟ وقد أذهبته المعصية ؟ فيقول الله تعالى : أنا أرده عليك ، فيقوم عند ساق العرش فيمجده ، فإذا سمع أهل الجنة صوته استفرغ نعيم أهل الجنة " وأعظم من ذلك إذا سمعوا كلام الرب جل جلاله وخطابه لهم منه إليهم بلا واسطة ، وقد ذكر
عبد الله بن أحمد في كتاب السنة أثرا في ذلك : كأن الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن إذا سمعوه من الرحمن جل جلاله .
فإذا انضاف إلى ذلك : رؤيتهم وجهه الكريم الذي تغنيهم لذة رؤيته عن الجنة ونعيمها فأملا لا تدركه العبارة ، ولا قليلا من كثير ، فهذا صوت لا يلج كل أذن ، وصيب لا تحيا به كل أرض ، وعين لا يشرب منها كل وارد ، وسماع لا يطرب عليه كل سامع ، ومائدة لا يجلس عليها طفيلي .
فلنرجع إلى ما نحن بصدده ، فنقول :
nindex.php?page=treesubj&link=28683_29416_17222السكر سببه اللذة القاهرة للعقل ، وسبب اللذة إدراك المحبوب ، فإذا كانت المحبة قوية ، وإدراك المحبوب قويا ، كانت اللذة بإدراكه تابعة لقوة هذين الأمرين ، فإذا كان العقل قويا مستحكما لم يتغير لذلك ، وإن كان ضعيفا حدث السكر المخرج له عن حكمه ، فقد يضاف إلى قوة الوارد ، وقد يضاف إلى ضعف المحل ، وقد يجتمع الأمران .
قال صاحب المنازل : وعيون الفناء لا تقبله ، ومنازل العلم لا تبلغه .
لما كان الفناء يفني من العبد كل ما سوى مشهوده ، ويفني معاني كل شيء ، وكان السكر كما حده بأنه سقوط التمالك في الطرب كان في السكران بقية طرب بها ، وأحس بها بطربه ، بحيث لم يتمالك في الطرب ، والفناء يأبى ذلك ، فحقائقه لا تقبل السكر ،
[ ص: 291 ] والحاصل : أن الفناء استغراق محض ، والسكر معه لذة وطرب لا يتمالك صاحبها ، ولا يقدر أن يفنى عنها .
والمقصود : أن السكر ليس من أعلى مقامات العارفين الواصلين ؛ لأن أعلى مقاماتهم هو الفناء عنده ، فمقامهم لا يقبل السكر .
قوله : " ومنازل العلم لا تبلغه " صحيح ، فإن علم المحبة والشوق والعشق شيء وحال المحبة شيء آخر ، والسكر لا ينشأ عن علم المحبة ، وإنما ينشأ عن حالها ، فكأنه يقول : السكر صفة وحالة نقص لمن مقامه فوق مقام العلم ، ودون مقام الشهود والفناء ، وهو مختص بالمحبة ؛ لأن المحبة هي آخر منزلة يلتقي فيها مقدمة العامة وهم أهل طور العلم وساقة الخاصة وهم أهل طور الشهود والفناء فالبرزخ الحاصل بين المقامين : هو مقام المحبة ، فاختص به السكر .
فَصْلٌ
nindex.php?page=treesubj&link=19290_29416وَمِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ السُّكْرِ ، الْمُوجِبَةِ لَهُ سَمَاعُ الْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مِنْ صُورَةٍ مُسْتَحْسَنَةٍ ، وَصَادَفَتْ مَحَلًّا قَابِلًا ، فَلَا تَسْأَلُ عَنْ سُكْرِ السَّامِعِ ، وَهَذَا السُّكْرُ يَحْدُثُ عِنْدَهَا مِنْ جِهَتَيْنِ :
إِحْدَاهُمَا : أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا تُوجِبُ لَذَّةً قَوِيَّةً يَنْغَمِرُ مَعَهَا الْعَقْلُ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّهَا تُحَرِّكُ النَّفْسَ إِلَى نَحْوِ مَحْبُوبِهَا وَجِهَتِهِ ، كَائِنًا مَنْ كَانَ ، فَيَحْصُلُ بِتِلْكَ الْحَرَكَةِ وَالشَّوْقِ وَالطَّلَبِ مَعَ التَّخَيُّلِ لِلْمَحْبُوبِ ، وَإِحْضَارِهِ فِي النَّفْسِ ، وَإِدْنَاءِ صُورَتِهِ إِلَى الْقَلْبِ ، وَاسْتِيلَائِهَا عَلَى الْفِكْرِ لَذَّةٌ عَظِيمَةٌ تَقْهَرُ الْعَقْلَ ، فَتَجْتَمِعُ لَذَّةُ الْأَلْحَانِ ،
[ ص: 290 ] وَلَذَّةُ الْأَشْجَانِ ، فَتَسْكَرُ الرُّوحُ سُكْرًا عَجِيبًا ، أَقْوَى وَأَلَذَّ مِنْ سُكْرِ الشَّرَابِ ، وَتَحْصُلُ بِهِ نَشْوَةٌ أَلَذُّ مِنْ نَشْوَةِ الشَّرَابِ .
وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَشْهَدَ الشَّيْخُ عَلَى السُّكْرِ بِقَوْلِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=143رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ وَقَدْ ذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
لِدَاوُدَ : " مَجِّدْنِي بِذَلِكَ الصَّوْتِ الَّذِي كُنْتَ تُمَجِّدُنِي بِهِ فِي الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، كَيْفَ ؟ وَقَدْ أَذْهَبَتْهُ الْمَعْصِيَةُ ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا أَرُدُّهُ عَلَيْكَ ، فَيَقُومُ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ فَيُمَجِّدُهُ ، فَإِذَا سَمِعَ أَهْلُ الْجَنَّةِ صَوْتَهُ اسْتَفْرَغَ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ " وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَخِطَابَهُ لَهُمْ مِنْهُ إِلَيْهِمْ بِلَا وَاسِطَةٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ أَثَرًا فِي ذَلِكَ : كَأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ إِذَا سَمِعُوهُ مِنَ الرَّحْمَنِ جَلَّ جَلَالُهُ .
فَإِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ : رُؤْيَتُهُمْ وَجْهَهُ الْكَرِيمَ الَّذِي تُغْنِيهِمْ لَذَّةُ رُؤْيَتِهِ عَنِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا فَأَمَلًا لَا تُدْرِكُهُ الْعِبَارَةُ ، وَلَا قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ ، فَهَذَا صَوْتٌ لَا يَلِجُ كُلَّ أُذُنٍ ، وَصَيِّبٌ لَا تَحْيَا بِهِ كُلُّ أَرْضٍ ، وَعَيْنٌ لَا يَشْرَبُ مِنْهَا كُلُّ وَارِدٍ ، وَسَمَاعٌ لَا يَطْرُبُ عَلَيْهِ كُلُّ سَامِعٍ ، وَمَائِدَةٌ لَا يَجْلِسُ عَلَيْهَا طُفَيْلِيٌّ .
فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ ، فَنَقُولُ :
nindex.php?page=treesubj&link=28683_29416_17222السُّكْرُ سَبَبُهُ اللَّذَّةُ الْقَاهِرَةُ لِلْعَقْلِ ، وَسَبَبُ اللَّذَّةِ إِدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ قَوِيَّةً ، وَإِدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ قَوِيًّا ، كَانَتِ اللَّذَّةُ بِإِدْرَاكِهِ تَابِعَةً لِقُوَّةِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ الْعَقْلُ قَوِيًّا مُسْتَحْكَمًا لَمْ يَتَغَيَّرْ لِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا حَدَثَ السُّكْرُ الْمُخْرِجُ لَهُ عَنْ حُكْمِهِ ، فَقَدْ يُضَافُ إِلَى قُوَّةِ الْوَارِدِ ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَى ضَعْفِ الْمَحَلِّ ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْأَمْرَانِ .
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ : وَعُيُونُ الْفَنَاءِ لَا تَقْبَلُهُ ، وَمَنَازِلُ الْعِلْمِ لَا تَبْلُغُهُ .
لَمَّا كَانَ الْفَنَاءُ يُفْنِي مِنَ الْعَبْدِ كُلَّ مَا سِوَى مَشْهُودِهِ ، وَيُفْنِي مَعَانِيَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَكَانَ السُّكْرُ كَمَا حَدَّهُ بِأَنَّهُ سُقُوطُ التَّمَالُكِ فِي الطَّرَبِ كَانَ فِي السَّكْرَانِ بَقِيَّةُ طَرَبٍ بِهَا ، وَأَحَسَّ بِهَا بِطَرَبِهِ ، بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَالَكْ فِي الطَّرَبِ ، وَالْفَنَاءُ يَأْبَى ذَلِكَ ، فَحَقَائِقُهُ لَا تَقْبَلُ السُّكْرَ ،
[ ص: 291 ] وَالْحَاصِلُ : أَنَّ الْفَنَاءَ اسْتِغْرَاقٌ مَحْضٌ ، وَالسُّكْرَ مَعَهُ لَذَّةٌ وَطَرَبٌ لَا يَتَمَالَكُ صَاحِبُهَا ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْنَى عَنْهَا .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ الْوَاصِلِينَ ؛ لِأَنَّ أَعْلَى مَقَامَاتِهِمْ هُوَ الْفَنَاءُ عِنْدَهُ ، فَمَقَامُهُمْ لَا يَقْبَلُ السُّكْرَ .
قَوْلُهُ : " وَمَنَازِلُ الْعِلْمِ لَا تَبْلُغُهُ " صَحِيحٌ ، فَإِنَّ عِلْمَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ وَالْعِشْقِ شَيْءٌ وَحَالَ الْمَحَبَّةِ شَيْءٌ آخَرُ ، وَالسُّكْرُ لَا يَنْشَأُ عَنْ عِلْمِ الْمَحَبَّةِ ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْ حَالِهَا ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ : السُّكْرُ صِفَةٌ وَحَالَةُ نَقْصٍ لِمَنْ مَقَامُهُ فَوْقَ مَقَامِ الْعِلْمِ ، وَدُونَ مَقَامِ الشُّهُودِ وَالْفَنَاءِ ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَحَبَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ آخِرُ مَنْزِلَةٍ يَلْتَقِي فِيهَا مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ وَهُمْ أَهْلُ طَوْرِ الْعِلْمِ وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ وَهُمْ أَهْلُ طَوْرِ الشُّهُودِ وَالْفِنَاءِ فَالْبَرْزَخُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ : هُوَ مَقَامُ الْمَحَبَّةِ ، فَاخْتُصَّ بِهِ السُّكْرُ .