الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : قال الله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قال : والأقراء عنده الأطهار والله أعلم بدلالتين بمولاهما : الكتاب الذي دلت عليه السنة والأخرى اللسان ( قال ) قال الله تعالى : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وقال عليه الصلاة والسلام في غير حديث لما طلق ابن عمر امرأته وهي حائض : يرتجعها ، فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك وقال صلى الله عليه وسلم : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن أو في قبل عدتهن

                                                                                                                                            الشافعي شك ، فأخبر صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى أن العدة الأطهار [ ص: 164 ] دون الحيض وقرأ " فطلقوهن لقبل عدتهن " وهو أن يطلقها طاهرا ؛ لأنها حينئذ تستقبل عدتها ، ولو طلقت حائضا لم تكن مستقبلة عدتها إلا من بعد الحيض ، والقرء اسم وضع لمعنى ، فلما كان الحيض دما يرخيه الرحم فيخرج ، والطهر دما يحتبس فلا يخرج ، كان معروفا من لسان العرب أن القرء الحبس ، تقول العرب : هو يقري الماء في حوضه وفي سقائه ، وتقول : هو يقري الطعام في شدقه ، وقالت عائشة رضي الله عنها : " هل تدرون ما الأقراء ؟ الأقراء : الأطهار " وقالت : " إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه والنساء بهذا أعلم " وقال زيد بن ثابت وابن عمر : إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها ( قال الشافعي ) : والأقراء والأطهار والله أعلم ، ولا يمكن أن يطلقها طاهرا إلا وقد مضى بعض الطهر وقال الله تعالى : الحج أشهر معلومات وكان شوال وذو القعدة كاملين وبعض ذي الحجة ، كذلك الأقراء طهران كاملان وبعض طهر .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اختلف أهل اللغة فيما ينطلق عليه اسم القرء على أربعة أقاويل : أحدها : ينطلق على الحيض حقيقة ، ويستعمل في الطهر مجازا ؛ لأنه لا تسمى المرأة من ذوات الأقراء إلا إذا حاضت واستشهادا بقول الراجز :

                                                                                                                                            يا رب ذي ضغن علي فارض له قروء كقروء الحائض

                                                                                                                                            يعني أن نفوذ حقده كنفوذ دم الحيض .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أنه اسم ينطلق على الطهر حقيقة ، ويستعمل في الحيض مجازا ، لما ذكره الشافعي من أن القرء الجشم واستشهادا بقول الشاعر :

                                                                                                                                            أفي كل عام أنت جاشم غزوة     تشد لأقصاها غريم عزائكا
                                                                                                                                            مورثة مالا وفي الحي رفعة     لما ضاع فيها من قروء نسائكا

                                                                                                                                            والقول الثالث : وهو قول أكثرهم أنه اسم مشترك ينطلق على الطهر حقيقة وعلى الحيض حقيقة ؛ كالأسماء المشتركة التي تقع على متضادين متعاقبين كالصريم : اسم الليل والنهار ، والناهل : اسم للعطشان والريان ، والمسحور : اسم للفارغ والملآن ، والحور : اسم لجميع الألوان ، والشفق اسم للحمرة والبياض ، والدلوك : اسم للزوال والغروب .

                                                                                                                                            [ ص: 165 ] والقول الرابع : إنه اسم ينطلق على الانتقال من معتاد إلى معتاد فيتناول الانتقال من الحيض إلى الطهر ، والانتقال من الطهر إلى الحيض ، كما يقال : أقرأ النجم إذا طلع ، وأقرأ إذا غاب قال الشاعر :

                                                                                                                                            إذا ما الثريا وقد أقرأت     أحس السما كان منها أفولا

                                                                                                                                            ويقال : قرأت إذا انتقلت من شمال إلى جنوب أو من جنوب إلى شمال ، قال الشاعر :

                                                                                                                                            كرهت العقر عقر بني شليل     إذا هبت لقارئها الرياح

                                                                                                                                            وأما الفقهاء فقد اتفقوا على أن أقراء العدة أحد الأمرين من الحيض أو الطهر ، وإنما اختلفوا في مراد الله تعالى منها ، فقال أبو حنيفة : المراد بالأقراء الحيض دون الطهر ، وبه قال من الصحابة : عمر وعلي وابن مسعود وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم وحكاه الشعبي عن ثلاثة عشر من الصحابة ، ومن التابعين : الحسن البصري والشعبي .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء : الأوزاعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وأهل العراقين البصرة والكوفة . وقال الشعبي : الأقراء الأطهار : وبه قال من الصحابة : زيد بن ثابت ، وابن عمر ، وعائشة ، والقاسم بن محمد ، ومن الفقهاء : الزهري ، وابن أبي ذؤيب ، ومالك ، وربيعة ، وأبو ثور ، وحكى الزهري ، عن أبي بكر بن عمر ، وابن حزم : أنه قال : ما أجد أحدا من أهل المدينة في الأقراء خلافا لما قالته عائشة رضي الله تعالى عنها .

                                                                                                                                            وقال أحمد بن حنبل : أنا أعلم فيها بقول زيد بن ثابت ، ثم قال : أنا لا أحسن أن أفتي فيها بشيء فتوقف . وتأثير هذا الاختلاف في حكم المعتدة أن من جعل الأقراء الأطهار قال : إن طلقت في طهر كان الباقي منه ، وإن قل قرءا ، فإذا حاضت وطهرت الطهر الثاني كان قرءا ثانيا ، فإذا حاضت وطهرت الطهر الثالث حتى برز دم الحيضة الثالثة كان قرءا ثالثا ، وقد انقضت عدتها .

                                                                                                                                            وإن طلقت في الحيض ، فإذا برز دم الحيضة الرابعة انقضت عدتها . ومن قال : الأقراء : الحيض ، قال : إن طلقت في طهر أو حيض لم تعد بما طلقت فيه [ ص: 166 ] من الطهر والحيض ، وتنقضي عدتها بدخولها في الطهر الرابع ، واستدل من جعل الأقراء الحيض بقول الله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] فاقتضت الآية استيفاء ثلاثة أقراء ، ومن جعلها الأطهار ، لم يستوفها إذا طلقت في طهر وجعل عدتها منقضية بقرأين وبعض ثالث ، ومن جعل الحيض استوفاها كاملة فصار بالأطهار أخص ؛ لأنه لما تنقض الأقراء الثلاثة كما لم تنقض الشهور الثلاثة .

                                                                                                                                            ثم قال عقيبه : ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن [ البقرة : 228 ] يعني ما تنقضي به العدة من حمل وحيض ، فدل على أن الأقراء المعتد بها هي الحيض وقوله تعالى : ( فطلقوهن لعدتهن ) [ الطلاق : 1 ] ولم يقل : في عدتهن ، والطلاق لها غير الطلاق فيها ، ومن جعل الأقراء الأطهار قد جعل الطلاق في العدة إذا طلقت في طهر ، ومن جعلها الحيض استقبل بها العدة فكان بالظاهر أحق ، وبقوله تعالى : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر [ الطلاق : 4 ] فنقلها عما يئست منه إلى بدله ، والبدل غير المبدل ، فلما كان الإياس من الحيض دل على أن الأقراء هي الحيض ، واستدلوا من السنة برواية مظاهر بن أسلم ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : طلاق الأمة طلقتان وعدتها حيضتان وهذا نص في الاعتداد بالحيض دون الطهر ، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لفاطمة بنت أبي حبيش : اقعدي عن الصلاة أيام أقرائك يعني : أيام حيضتك ، فكان ذلك أيضا قضاء على الحيض في الأقراء ، واستدلوا من الاعتبار بأن الإجماع منعقد على أن انقضاء العدة يكون بالحيض ؛ لأن من يجعلها الأطهار جعل عدتها متقضية بدخولها في الحيض ، ومن جعلها الحيض جعل عدتها متقضية بخروجها من الحيض ، فقاسوا الطرف الأول على الطرف الثاني فقالوا : أحد طرفي العدة فوجب أن يكون حيضها الثاني .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن العدة إذا انقضت بخروج كامل وقت انقضائها على انفصال جميعها كالحمل لا ينقضي بخروج بعضه ، كذلك بالحيض الأخير لا ينقضي العدة بخروج بعضه حتى يستكمل .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن مقصود العدة يراد براءة الرحم عن الحمل ، وذلك يكون بالحيض دون الطهر ، فكان اعتبار الأقراء بما يرى أولى من اعتبارها بما لا يرى ، ولأن موضوع العدة الاستبراء في الحرة والأمة ، ثم ثبت أن استبراء الأمة بالحيض دون الطهر ، فكذلك الحرة ؛ لأن الاعتداد بالأقراء عند فقد الحمل فكانت بدلا منه ثم ثبت أن الاعتداد [ ص: 167 ] للحامل بخروج ما في البطن ، فاعتداد ذات الأقراء يجب أن يكون بخروج ما في البطن وهو الحيض دون الطهر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية