الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المهم السادس ما يكون وسيلة إلى هذه الخمسة وهو المال والجاه أما الجاه فمعناه ملك القلوب بطلب محل فيها ليتوصل به إلى الاستعانة في الأغراض والأعمال ، وكل من لا يقدر على القيام بنفسه في جميع حاجته وافتقر إلى من يخدمه افتقر إلى جاه لا محالة في قلب خادمه لأنه إن لم يكن له عنده محل وقدر لم يقم بخدمته وقيام القدر والمحل في القلوب هو الجاه وهذا له أول قريب ولكن يتمادى به إلى هاوية لا عمق لها ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإنما يحتاج إلى المحل في القلوب إما لجلب نفع أو لدفع ضر أو لخلاص من ظلم فأما ، النفع فيغني عنه المال ، فإن من يخدم بأجرة يخدم وإن لم يكن عنده للمستأجر قدر وإنما يحتاج إلى الجاه في قلب من يخدم بغير أجرة ، وأما دفع الضر فيحتاج لأجله إلى الجاه في بلد لا يكمل فيه العدل أو يكون بين جيران يظلمونه ولا يقدر على دفع شرهم إلا بمحل له في قلوبهم أو محل له عند السلطان وقدر الحاجة فيه لا ينضبط لا سيما إذا انضم إليه الخوف وسوء الظن بالعواقب ، والخائض في طلب الجاه سالك طريق الهلاك بل حق الزاهد أن لا يسعى لطلب المحل في القلوب أصلا فإن اشتغاله بالدين والعبادة يمهد له من المحل في القلوب ما يدفع به عنه الأذى ولو كان بين الكفار فكيف بين المسلمين فأما ، التوهمات والتقديرات التي تحوج إلى زيادة في الجاه على الحاصل بغير كسب فهي أوهام كاذبة إذ من طلب الجاه أيضا لم يخل عن أذى في بعض الأحوال فعلاج ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه فإذا ، طلب المحل في القلوب لا رخصة فيه أصلا واليسير منه داع إلى الكثير وضراوته أشد من ضراوة الخمر فليحترز من قليله وكثيره .

وأما المال فهو ضروري في المعيشة أعني القليل منه فإن كان كسوبا فإذا اكتسب حاجة يومه فينبغي أن يترك الكسب كان بعضهم إذا اكتسب حبتين رفع سفطه وقام هذا شرط الزهد فإن جاوز ذلك إلى ما يكفيه أكثر من سنة فقد خرج عن حد ضعفاء الزهاد وأقويائهم جميعا وإن كانت له ضيعة ولم يكن له قوة يقين في التوكل فأمسك منها مقدار ما يكفي ريعه لسنة واحدة فلا يخرج بهذا القدر عن الزهد بشرط أن يتصدق بكل ما يفضل عن كفاية سنته ولكن يكون من ضعفاء الزهاد فإن شرط التوكل في الزهد كما شرطه أويس القرني رحمه الله فلا يكون هذا من الزهاد وقولنا إنه خرج من حد الزهاد نعني به أن ما وعد للزاهدين في الدار الآخرة من المقامات المحمودة لا يناله وإلا فاسم الزهد قد لا يفارقه بالإضافة إلى ما زهد فيه من الفضول والكثرة وأمر المنفرد في جميع ذلك أخف من أمر المعيل وقد قال أبو سليمان لا ينبغي أن يرهق الرجل أهله إلى الزهد بل يدعوهم إليه ، فإن أجابوا وإلا تركهم وفعل بنفسه ما شاء ، معناه أن التضييق المشروط على الزاهد يخصه ولا يلزمه كل ذلك في عياله نعم لا ينبغي أن يجيبهم أيضا فيما يخرج عن حد الاعتدال وليتعلم من رسول الله : صلى الله عليه وسلم إذ انصرف من بيت فاطمة رضوان الله عليها بسبب ستر وقلبين لأن ذلك من الزينة لا من الحاجة فإذا ما يضطر الإنسان إليه من جاه ومال ليس بمحذور بل الزائد على الحاجة سم قاتل والمقصر على الضرورة دواء نافع وما بينهما درجات متشابهة فما يقرب من الزيادة وإن لم يكن سما قاتلا فهو مضر وما يقرب من الضرورة فهو وإن لم يكن دواء نافعا لكنه قليل الضرر والسم محظور شربه والدواء فرض تناوله وما بينهما مشتبه أمره فمن احتاط فإنما يحتاط لنفسه ومن تساهل فإنما يتساهل على نفسه ومن استبرأ لدينه وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ورد نفسه إلى مضيق الضرورة فهو الآخذ بالحزم ، وهو من الفرق الناجية لا محالة .

والمقتصر على قدر الضرورة والمهم لا يجوز أن ينسب إلى الدنيا بل ذلك القدر من الدنيا هو عين الدين لأنه شرط الدين ؛ والشرط من جملة المشروط .

ويدل عليه ما روي أن إبراهيم الخليل عليه السلام : أصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرضه شيئا فلم يقرضه فرجع مهموما فأوحى الله تعالى إليه لو سألت خليلك لأعطاك فقال يا رب عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها شيئا فأوحى الله تعالى إليه ليس الحاجة من الدنيا فإذا قدر الحاجة من الدين وما وراء ذلك وبال في الآخرة وهو في الدنيا أيضا كذلك يعرفه من يخبر أحوال الأغنياء وما عليهم من المحنة في كسب المال وجمعه وحفظه واحتمال الذل فيه وغاية سعادته به أن يسلم لورثته فيأكلون وربما يكونون أعداء له وقد يستعينون به على المعصية فيكون هو معينا لهم عليها ولذلك شبه جامع الدنيا ومتبع الشهوات بدود القز لا يزال ينسج على نفسه حيا ثم يروم الخروج فلا يجد مخلصا فيموت ويهلك بسبب عمله الذي عمله بنفسه فكذلك كل من اتبع شهوات الدنيا فإنما يحكم على قلبه بسلاسل تقيده بما يشتهيه حتى تتظاهر عليه السلاسل فيقيده المال والجاه والأهل والولد وشماتة الأعداء ومراءاة الأصدقاء وسائر حظوظ الدنيا فلو خطر له أنه قد أخطأ فيه فقصد الخروج من الدنيا لم يقدر عليه ، ورأى قلبه مقيدا بسلاسل وأغلال لا يقدر على قطعها ولو ترك محبوبا من محابه باختياره كاد أن يكون قاتلا لنفسه وساعيا في هلاكه إلى أن يفرق ملك الموت بينه وبين جميعها دفعة واحدة .

فتبقى السلاسل في قلبه معلقة بالدنيا التي فاتته وخلفها فهي تجاذبه إلى الدنيا ومخالب ملك الموت قد علقت بعروق قلبه تجذبه إلى الآخرة ، فيكون أهون أحواله عند الموت أن يكون كشخص ينشر بالمنشار ويفصل أحد جانبيه عن الآخر بالمجاذبة من الجانبين والذي ينشر بالمنشار إنما ينزل المؤلم ببدنه ويؤلم قلبه بذلك بطرق السراية من حيث أثره فما ظنك بألم يتمكن أولا من صميم القلب مخصوصا به لا بطريق السراية إليه من غيره ، فهذا أول عذاب يلقاه قبل ما يراه من حسرة فوت النزول في أعلى عليين وجوار رب العالمين ، فبالنزوع إلى الدنيا يحجب عن لقاء الله تعالى وعند الحجاب تتسلط عليه نار جهنم إذ النار غير مسلطة إلا على محجوب .

قال الله تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم فرتب العذاب بالنار على ألم الحجاب وألم الحجاب كاف من غير علاوة النار فكيف إذا أضيفت العلاوة إليه فنسأل الله تعالى أن يقرر في أسماعنا ما نفث في روع رسول الله : صلى الله عليه وسلم : حيث قيل له : أحبب من أحببت فإنك مفارقه وفي معنى ما ذكرناه من المثال قول الشاعر .

كدود كدود القز ينسج دائما ويهلك غما وسط ما هو ناسجه ولما انكشف لأولياء الله تعالى أن العبد مهلك نفسه بأعماله واتباعه هوى نفسه إهلاك دود القز نفسه رفضوا الدنيا بالكلية حتى قال الحسن رأيت سبعين بدريا كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم .

وفي لفظ آخر كانوا بالبلاء أشد فرحا منكم بالغصب والرخاء لو رأيتموهم قلتم مجانين ولو رأوا خياركم قالوا ما لهؤلاء من خلاق ولو رأوا أشراركم قالوا ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب وكان أحدهم يعرض له المال الحلال فلا يأخذه ويقول أخاف أن يفسد علي قلبي ، فمن كان له قلب فهو لا محالة يخاف من فساده والذين أمات حب الدنيا قلوبهم فقد أخبر الله عنهم إذ قال تعالى : ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون وقال عز وجل : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .

وقال تعالى فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم فأحال ذلك كله على الغفلة وعدم العلم ولذلك قال رجل لعيسى عليه السلام : احملني معك في سياحتك فقال : أخرج مالك والحقني .

فقال : لا أستطيع فقال عيسى : عليه السلام : بعجب : يدخل الغني الجنة ! أو قال بشدة وقال بعضهم : ما من يوم ذر شارقه إلا وأربعة أملاك ينادون في الآفاق بأربعة أصوات ملكان بالمشرق وملكان بالمغرب يقول أحدهم بالمشرق : يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر ويقول الآخر : اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا ويقول اللذان بالمغرب أحدهما : لدوا للموت وابنوا للخراب .

ويقول الآخر : كلوا وتمتعوا لطول الحساب .

التالي السابق


(المهم السادس ما يكون وسيلة إلى هذه الخمسة)

من المهمات المذكورة (وهو المال والجاه أما الجاه فمعناه ملك القلوب بطلب محل فيها ليتوصل به إلى الاستعانة في الأغراض والأعمال، وكل من لا يقدر على القيام بنفسه في جميع حاجاته وافتقر إلى من يخدمه وافتقر إلى جاه لا محالة في قلب خادمه) ليتوصل به إلى قضاء حاجاته (لأنه إن لم يكن عنده محل وقدر لم يقم بخدمته) بل لم يعتن به أصلا (وقيام القدر والمحل في القلوب هو الجاه) كما سبق بيان ذلك في كتاب ذم الجاه (وهذا له أول قريب ولكن يتمادى) أي: ينجر (إلى هاوية لا عمق لها) أي: لا آخر (ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) كما في الخبر، (و) هذا إن طلبه بالعبادات حرم قليله وكثيره، وكان كطالب المال بسبب محرم والقدر المباح منه (فإنما يحتاج إلى المحل في القلوب) لإحدى ثلاث (إما لجلب نفع أو لدفع ضرر أو الخلاص من ظلم، أما النفع فيغني عنه المال، فإن من يخدم بأجرة يخدم وإن لم يكن عنده للمستأجر قدر وإنما يحتاج إلى الجاه في قلب من يخدم غيره بغير أجرة، وأما دفع الضرر فيحتاج لأجله إلى الجاه في بلد لا يكمل فيه العدل أو يكون بين جيرانه أن يظلموه فلا يقدر على دفع شرهم إلا بمحل له في قلوبهم أو بمحل له عند السلطان) فهو كالحش من البيت يراد لغيره لا لذاته بل يراد لدفع الأذى لا لأنه صفة الكمال .

(وقدر الحاجة فيه لا ينضبط لا سيما إذا انضم إليه الخوف وسوء الظن بالعواقب، والخائض في طلب الجاه سالك طريق الهلاك) بل حق الزاهد أن لا يسعى (لطلب المحل في القلوب) أصلا (فإن اشتغاله بالدين والعبادة) من ذكر ومراقبة وعزلة (يمهد له من المحل في القلوب ما يدفع عنه به الأذى ولو كان بين) أظهر (الكفار فكيف بين المسلمين، وأما التوهمات والتقديرات التي تحوج إلى زيادة في الجاه على الحاصل بغير كسب فهي أوهام كاذبة) وتقديرات باطلة (إذ من طلب الجاه أيضا لم يخل عن أذى في بعض الأحوال ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه، فإذا طلب المحل في القلوب لا رخصة فيه أصلا واليسير منه داع إلى الكثير وضرواته أشد من ضرواة الخمر) في عسر الانفكاك منه (فليحترز من قليله وكثيره، وأما المال فهو ضروري [ ص: 369 ] في المعيشة أعني القليل منه فإن كان كسوبا فإذا اكتسب حاجة يومه) مما يكتفي به (فينبغي أن يترك الكسب) في ذلك اليوم .

(كان بعضهم) أي: المكتسبين الزاهدين (إذا اكتسب حبتين رفع سفطه وقام) والسفط محرك وعاء المتاع (هذا شرط الزاهد فإن جاوز ذلك إلى ما يكفيه أكثر من سنة فقد خرج عن حد ضعفاء الزهاد وأقويائهم جميعا وإن كانت له ضيعة) مثل أرض يستغلها (ولم تكن له قوة يقين في التوكل فأمسك منها مقدار ما يكفي ريعه) وهو ما يفيض من غلال الضيعة (لسنة واحدة فلا يخرج بهذا المقدار عن الزهد بشرط أن يتصدق بكل ما يفضل عن كفاية سنة لكن يكون من ضعفاء الزهاد) لا من أقويائهم (فإن شرط التوكل في الزهد) بأن لا يكمل إلا به (كما شرطه أويس القرني) رحمه الله تعالى فيما فهم من كلامه السابق ذكره (فلا يكون هذا من الزهاد) لفقد وصف التوكل فيه (وقولنا إنه خرج عن حد الزهاد نعني به أن ما وعد للزاهدين في الدار الآخرة من المقامات المحمودة لا يناله وإلا فاسم الزهد قد لا يفارقه بالإضافة إلى ما زهد فيه من الفضول والكثرة) فإطلاق الزهد بهذا الاعتبار فقط، وعلى الجملة فللزهد ثواب مخصوص موعود عند الله فمتى ما نال شيئا أخذ من ذلك الثواب بقسطه (وأمر) الأعزب (المنفرد في جميع ذلك أخف من أمر المعيل) أي: ذي العيال كما قيل:


ما للمعالي والمعيل وإنما يسعى إليهن الفريد القادر



(وقد قال أبو سليمان) الداراني - رحمه الله تعالى - (لا ينبغي أن يرهق الرجل أهله) أي: يكلفهم (إلى الزهد بل يدعوهم إليه، فإن أجابوا وإلا تركهم وفعل بنفسه ما شاء، معناه أن التضييق المشروط على الزاهد يخصه ولا يلزمه كل ذلك في عياله) هذا ما فهم من كلامه (نعم لا ينبغي أن يجيبهم أيضا فيما يخرج حد الاعتدال وليتعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من بيت فاطمة - رضي الله عنها - بسبب ستر) كانت علقته في ناحية البيت (وقلبين) في يدها أو يد الحسن أو الحسين كما تقدم الكلام عليه قريبا (لأن ذلك من الزينة لا من الحاجة) .

وكذلك لما تزينت أم سلمة بخرص من ذهب قالت: فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفعت قناعي عن أذني رجاء أن ينظر إلى زينتي، قالت: فأعرض ولم يلتفت، فقلت: يا رسول الله إنما تزينت لك فقال: عن زينتك أعرض ما ضرك لو جعلتيه من فضة لطختيه بالزعفران فكان كأنه ذهب فأمرها بفعل من لا يحب الدنيا لعينها وإنما يدخل فيها الظاهر مرافقها; لأن الفضة والزعفران وإن أشبهت الذهب في اللون فإنما هو متاع في الوقت; لأن لها قيمة الذهب وقدره لا وجود حلاوته في قنيته، فكذلك حال الزاهد في حلاوة الدنيا لعينها فيستعمل الدنيا فيما قرب ودنا دقيقا منها ذا قيمة بيسير دونه .

(فإذا ما يضطر الإنسان إليه من جاه ومال ليس بمحذور بل الزائد على الحاجة سم قاتل والمقصر على الضرورة دواء نافع وما بينهما درجات متشابهة فما يقرب من الزيادة وإن لم يكن سما قاتلا فهو مضر وما يقرب من الضرورة فهو وإن لم يكن دواء نافعا ولكنه قليل الضر والسم محظور به والدواء فرض تناوله ما بينهما مشتبه أمره فمن احتاط لنفسه ومن تساهل على نفسه ومن استبرأ لدينه وترك ما يريبه ورد نفسه إلى مضيق الضرورة فهو الآخذ بالحزم، وهو من الفرقة الناجية لا محالة) وهم الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عنهم ما أنا عليه وأصحابي (والمقتصر [ ص: 370 ] على قدر الضرورة و) على (المهم لا يجوز أن ينسب إلى الدنيا بل ذلك القدر من الدنيا هو عين الدين; لأنه شرط الدين والشرط من جملة المشروط .

ويدل عليه ما روي أن إبراهيم الخليل - عليه السلام - أصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرضه شيئا فلم يقرضه) ولفظ القوت فتوارى عنه (فرجع مهموما فأوحى الله إليه لو سألت خليلك لأعطاك) ولفظ القوت: لو بخليلك أنزلت حاجاتك لقضاها لك يعني نفسه تعالى (فقال يا رب عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها شيئا) فتمقتني (فأوحى الله إليه) أما علمت أنه (ليس الحاجة من الدنيا) وفي لفظ القوت: ليس هو من الدنيا. نقله صاحب القوت وقد روي مرفوعا نحوه: من نظر إلى زهرة الدنيا أصبح ممقوتا في ملكوت السماء، ومن صبر على القوت نزل في الفردوس حيث أحب. فدل ذلك على أن القوت ليس هو من الدنيا; لأنه استثناء منها بمدحه على الصبر عليه بعد ذمها، وفي خبر آخر: لا يعذب الله مؤمنا جعل رزقه في الدنيا قوتا.

(فإذا قدر الحاجة من الدين وما وراءه وبال في الآخرة وهو في الدنيا أيضا كذلك يعرفه من يختبر أحوال الأغنياء وما عليهم من المحنة) والتعب (في كسب المال وجمعه وحفظه واحتمال الذل فيه) في معاملاته (وغاية سعادته به أن يسلم لورثته) إذا مات (فيأكلونه وهم أعداؤه) إذ كانوا يتمنون موته وينتظرونه (وربما يستعينون به على المعصية فيكون هو معينا لهم عليها) إذ ورثهم ما أطغاهم فهو جمع مالا لذريته يغنيهم في الدنيا بفقره وينجيهم به من الذل الذي بذل نفسه وهلكته في عاقبته فصار نعيمه لهم وشقاؤه عليه، ترفهوا فيه بعده وهلك هو به .

(وكذلك يشبه جامع الدنيا ومتبع الشهوات بدود القز إذ لا يزال ينسج على نفسه) لجهله وعدم معرفته بنفسه (حتى يقتلها ثم يروم الخروج فلا يجد مخلصا فيموت ويهلك بسبب عمله الذي عمله بنفسه) فصار عمله وكدحه لغيره متنعما به ومات هو فيه (فكذلك كمن اتبع شهوات الدنيا فإنما يحكم على قلبه بسلاسل تقيده بما يشتهيه حتى تتظاهر عليه السلاسل) أي: تتفاوت (فيقيده المال والجاه والأهل والولد وشماتة الأعداء ومراياة الأصدقاء وسائر حظوظ الدنيا فلو فطن له أنه قد أخطأ فيه بقصد الخروج من الدنيا لم يقدر عليه، ورأى قلبه مقيدا بسلاسل وأغلال لا يقدر على قطعها) عنه (ولو ترك محبوبا باختياره كاد يكون قاتلا لنفسه وساعيا في هلاكه إلى أن يفرق ملك الموت بينه وبين جميعها دفعة واحدة) .

فمن حرص على الدنيا بالباطل فقد قتل نفسه، وقد قيل: بعدا وسحقا لقتيل الدنيا لا يقاد له منها، فإن قوي حرصه عليها واشتد عشقه لها قتل غيره لغلبة هواه وقلة مبالاته لمن صحبه ووالاه واطراحه لأحكام مولاه (فتبقى السلاسل في قلبه معلقة بالدنيا التي فاتته وخلفها) وراء ظهره (فهي) أي: تلك السلاسل (تجاذبه إلى الدنيا ومخالب الموت قد علقت بعروق قلبه تجذبه إلى الآخرة، فيكون أهون أحواله عند الموت أن يكون كشخص ينشر بالمنشار ويفصل أحد جانبيه من الآخر بمجاذبة من الجانبين والذي ينشر بالمنشار إنما ينزل المؤلم ببدنه ويألم قلبه بذلك بطريق السراية من حيث أثره فما ظنك بألم يتمكن أولا من صميم القلب مخصوصا به لا بطريق السراية إليه من غيره، فهذا أول عذاب يلقاه قبل ما يراه من حسرة فوت النزول في أعلى عليين وجوار رب العالمين، فبالنزوع إلى الدنيا يحجب عن لقاء الله تعالى وعند الحجاب تتسلط عليه نار جهنم إذ النار غير مسلطة إلا على محجوب) ولذا قالوا [ ص: 371 ] أشد العذاب الحجاب (قال الله تعالى: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) أي: عن رؤيته ولقائه ( ثم إنهم لصالو الجحيم فرتب العذاب بالنار على ألم الحجاب وألم الحجاب كاف من غير علاوة النار فكيف إذا أضيف العلاوة إليه) فيكون أشد فأشد (فنسأل الله أن يقذف) وفي نسخة يقرر (في أسماعنا ما نفث في روع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له: أحبب ما أحببت فإنك مفارقه) رواه الطيالسي والشيرازي والبيهقي من حديث جابر قال لي جبريل: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من أحببت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وقد تقدم (وفي معنى ما ذكرناه من المثال قال الشاعر)


ألم تر أن المرء طول حياته معني بأمر لا يزال يعالجه
كدود كدود القز ينسج دائما ويهلك غما وسط ما هو ناسجه



والكدود: فعول من الكد وهو التعب (ولما انكشف لأولياء الله تعالى أن العبد مهلك نفسه بأعماله واتباعه هوى نفسه إهلاك دود القز نفسه) بنسجه على نفسه (رفضوا الدنيا بالكلية) حلالها وحرامها ولم يتعلقوا بأعراضها (حتى قال الحسن) البصري - رحمه الله تعالى - (رأيت سبعين بدريا) أي: ممن شهد بدرا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كانوا) والله (فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم عليكم) كذا في القوت مع أنهم ممن قد اطلع الله عليهم فغفر لهم (وفي لفظ آخر كانوا بالبلاء) والشدة تصيبهم (أشد فرحا منكم بالخصب والرخاء لو رأيتموهم قلتم مجانين)

إلا إن سر جنونهم عزيز لدى أبوابه يسجد العقل

(ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خلاق) أي: من نصيب (ولو رأوا أشراركم قالوا ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب) كذا في القوت، وتقدم ذكره أيضا في كتاب عجائب القلب قال (وكان أحدهم يعرض له المال الحلال فلا يأخذه ويقول) لا حاجة لي به (أخاف أن يفسد علي قلبي، فمن كان له قلب فهو لا محالة يخاف من فساده) ومن تغيره وإبعاده ويعمل في أسباب صلاحه ورشاده (والذين أمات حب الدنيا قلوبهم) فهم يتقلبون في ظلمات الهوى فربما انقلبوا على وجوههم فهم ممن خسر الدنيا والآخرة، أو يكونون من أهل الرضا بالدنيا وأهل الغفلة عن آيات الله فهم ممن رضي بلا شيء (فقد أخبر الله تعالى عنهم) في كتابه العزيز (إذ قال تعالى: ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون وقال تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) أي: مجاوزا لما نهي عنه مقصرا عما أمر به وقيل: مقدما إلى الهلاك فهؤلاء يستحقون الإعراض من الحبيب ويستوجبون المقت من القريب كمثل من أمر الله تعالى بالإعراض عنهم (و) ترك القبول منهم إذ (قال تعالى: فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم فأحال ذلك كله على الغفلة وعدم العلم ولذلك قال رجل لعيسى - عليه السلام - : احملني معك في سياحتك فقال: أخرج مالك والحقني فقال: لا أستطيع فقال - عليه السلام - بعجب: يدخل الغني الجنة! أو قال بشدة) نقله صاحب القوت، وتقدم قوله: بعجب يدخل الغني الجنة قريبا .

(وقال بعضهم: ما من يوم ذر شارقه) أي: طلعت شمسه (إلا وأربعة أملاك ينادون في الآفاق بأربعة أصوات ملكان بالمشرق وملكان بالمغرب يقول أحدهم بالمشرق: يا باغي الخير) أي: يا طالبه (هلم) أي: أقبل (ويا باغي الشر) أي: طالبه (أقصر ويقول الآخر: اللهم أعط منفقا خلفا) أي: عوضا (وأعط ممسكا) أي: بخيلا (تلفا) أي: هلاكا (ويقول اللذان [ ص: 372 ] بالمغرب أحدهما: لدوا للموت وابنوا للخراب ويقول الآخر: كلوا وتمتعوا لطول الحساب) هكذا عزاه المصنف لبعضهم تبعا لصاحب القوت .

وقد روي ذلك مرسلا من حديث عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس رواه البيهقي في الشعب ولفظه: ما من يوم طلعت شمسه إلا يقول: من استطاع أن يعمل في خيرا فليعمله فإني غير مكر عليكم أبدا، وما من يوم إلا ينادي مناديان من السماء يقول أحدهما: يا طالب الخير أبشر يا طالب الشر أقصر، ويقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا، ورواه الديلمي عن عثمان بن محمد المذكور عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس مرفوعا وزاد بعد قوله أبدا: وكذلك يقول الليل. وروى الحاكم في المستدرك من حديث أبي سعيد: ما من صباح إلا وملكان يناديان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا، وملكان موكلان بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان، وملكان يناديان: يا باغي الخير هلم، ويقول الآخر: يا باغي الشر أقصر، وملكان يناديان: يقول أحدهما ويل للرجال من النساء، ويقول الآخر: ويل للنساء من الرجال. وقد صححه الحاكم وتعقب .

وروى البيهقي من حديث الزبير: ما من صباح يصبحه العباد إلا وصارخ يصرخ: يا أيها الناس لدوا للتراب، واجمعوا للفناء، وابنوا للخراب. وروى الديلمي من حديث أبي هريرة: أن لله تعالى ملكا بباب من أبواب السماء يقول: من يقرض اليوم يجاز غدا، وملك آخر ينادي: اللهم أعط منفقا خلفا، وعجل لممسك تلفا.




الخدمات العلمية