الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 288 ] [ ص: 289 ] الفصل الثاني : في حد الأمر بمعنى القول

                        اختلف في حد الأمر بمعنى القول ، فقال القاضي أبو بكر ، وارتضاه جماعة من أهل الأصول إنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به . قال في المحصول : وهذا خطأ لوجهين :

                        أما أولا : فلأن لفظي المأمور والمأمور به ، مشتقان من الأمر ، فيمتنع تعريفهما إلا بالأمر ، فلو عرفنا الأمر بهما لزم الدور .

                        وأما ثانيا : فلأن الطاعة عند أصحابنا موافقة الأمر ، وعند المعتزلة موافقة الإرادة ، فالطاعة على قول أصحابنا لا يمكن تعريفها إلا بالأمر ، فلو عرفنا الأمر بها لزم الدور .

                        وقال أكثر المعتزلة في حده : إنه قول القائل لمن دونه افعل ، أو ما يقوم مقامه .

                        قال في المحصول : وهذا خطأ من وجوه :

                        الأول : أنا لو قدرنا أن الواضع ما وضع لفظة ( افعل ) لشيء أصلا ، حتى كانت هذه اللفظة من المهملات ، ففي تلك الحالة لو تلفظ الإنسان بها مع دونه لا يقال فيه إنه أمر ، ولو أنها صدرت عن النائم ، أو الساهي ، أو على سبيل انطلاق اللسان بها اتفاقا ، أو على سبيل الحكاية ، لا يقال فيه : إنه أمر ، ولو قدرنا أن الواضع وضع بإزاء معنى الأمر لفظ افعل ، وبإزاء معنى الخبر لفظة افعل ، لكان المتكلم بلفظ افعل آمرا ، وبلفظ افعل مخبرا ، فعلمنا أن تحديد ماهية الأمر بالصيغة المخصوصة باطل .

                        الوجه الثاني : أن تحديد ماهية الأمر من حيث هو أمر ، وهي حقيقة لا تختلف باختلاف اللغات ، فإن التركي قد يأمر وينهى ، وما ذكروه لا يتناول إلا الألفاظ العربية .

                        فإن قلت : قولنا أو ما يقوم مقامه احتراز عن هذين الإشكالين الذين ذكرتهما .

                        قلت : قوله أو ما يقوم مقامه يعني به كونه قائما مقامه في الدلالة ، على كونه طلبا للفعل ، أو يعني به شيئا آخر ، فإن كان المراد هو الثاني ، فلابد من بيانه ، وإن كان المراد هو الأول صار معنى حد الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل أو ما يقوم مقامه في [ ص: 290 ] الدلالة على طلب الفعل ، وإذا ذكرناه على هذا الوجه كان قولنا : الأمر هو اللفظ الدال على طلب الفعل كافيا ، وحينئذ يقع التعرض بخصوص صيغة افعل ضائعا .

                        الوجه الثالث : أنا سنبين أن الرتبة غير معتبرة ، وإذا ثبت فساد هذين الحدين ، فنقول : الصحيح أن يقال : الأمر طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء ، ومن الناس من لم يعتبر هذا القيد الأخير . انتهى .

                        ولا يخفاك أن ما أجاب به من هذه الوجوه الثلاثة لا يرد على ذلك الحد . أما الوجه الأول فتقدير الإهمال أو الصدور ، لا عن قصد ليس مما يقتضي النقض به لخروجه عن الكلام المعتبر عند أهل اللغة ، وأما النقض بغير لغة العرب فغير وارد ، فإن مراد من حد الأمر بذلك الحد ليس إلا باعتبار ما يقتضيه لغة العرب لا غيرها ، وأما عدم اعتبار الرتبة فمصادرة على المطلوب ، ويرد على الحد الذي ارتضاه آخر ، وقال : إنه الصحيح ، النهي ، فإنه طلب الفعل بالقول ; لأن الكف فعل ، ويرد على قيد الاستعلاء قوله تعالى حكاية عن فرعون فماذا تأمرون والأصل الحقيقة .

                        وقد أورد على الحد الذي ذكرته المعتزلة أنه يرد على طرده قول القائل : " لمن دونه افعل " تهديدا أو تعجيزا أو غيرهما ، فإنه يرد لمعان كثيرة كما سيأتي ، ويرد في طرده أيضا قول القائل لمن دونه افعل ، إذا صدر عن مبلغ لأمر الغير ، أو حاك له ، ويرد على عكسه " افعل " إذا صدر من الأدنى على سبيل الاستعلاء ، ولذلك يذم بأنه أمر من هو أعلى منه .

                        وأجيب عن الإيراد الأول : بأن المراد قول افعل مرادا به ما يتبادر منه عند الإطلاق .

                        وعن الثاني : بأنه ليس قولا لغيره افعل .

                        وعن وعن الثالث : بمنع كونه أمرا عندهم لغة ، وإنما سمي به عرفا .

                        وقال قوم في حده : هو صيغة افعل مجردة عن القرائن الصارفة عن الأمر .

                        واعترض عليه : بأنه تعريف الأمر بالأمر ، ولا يعرف الشيء بنفسه ، وإن أسقط هذا القيد بقي صيغة " افعل " مجردة فيلزم تجرده مطلقا ، حتى عما يؤكد كونه أمرا .

                        وأجيب عنه : بأن المراد القرائن الصارفة عما يتبادر منها إلى الفهم عند إطلاقها .

                        [ ص: 291 ] وقيل في حده : هو اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء .

                        واعترض على عكسه باكفف ، وانته ، واترك ، وذر ، فإنها أوامر لا يصدق عليها الحد ; لعدم اقتضاء الفعل غير الكف فيها .

                        واعترض على طرده بلا تترك ، ولا تنته ، ونحوهما ; فإنها نواه ويصدق عليها الحد .

                        وأجيب : بأن المحدود هو النفسي ، فيلتزم أن معنى لا تترك معنى الأمر النفسي ، ومعنى اكفف وذر وذر النهي ، فاطرد وانعكس .

                        وقيل في حده : هو صيغة افعل بإرادات ثلاث ، وجود اللفظ ، ودلالتها على الأمر ، والامتثال .

                        واحترز بالأولى عن النائم ، إذ يصدر عنه صيغة افعل من غير إرادة وجود اللفظ ، وبالثانية عن التهديد والتخيير والإكرام والإهانة ونحوها ، وبالثالثة عن الصيغة التي تصدر عن المبلغ والحاكي ، فإنه لا يريد الامتثال .

                        واعترض عليه : بأنه إن أريد بالأمر المحدود اللفظ ، أي أي الأمر الصيغي ، فذلك الحد إرادة دلالتها ، أي أي الصيغة على الأمر ; لأن اللفظ غير مدلول عليه ، وإن أريد بالأمر المحدود المعنى النفسي أفسد الحد جنسه ، فإن المعنى ليس بصيغة .

                        وأجيب : بأن المراد بالمحدود اللفظ ، وبما في الحد المعنى الذي هو الطلب ، واستعمل المشترك الذي هو لفظ الأمر في معنييه اللذين هما الصيغة المعلومة ، والطلب بالقرينة العقلية .

                        وقيل في حده : أنه إنه إرادة الفعل .

                        واعترض عليه : بأنه غير جامع لثبوت الأمر ، ولا إرادة ، كما في أمر السيد لعبده بحضرة من توعد السيد على ضربه لعبده بالإهلاك ، إن ظهر أنه لا يخالف أمر سيده ، والسيد يدعي مخالفة العبد في أمره ، ليدفع عن نفسه الإهلاك ، فإنه يأمر عبده بحضرة المتوعد له ليعصيه ، ويشاهد المتوعد عصيانه ، ويخلص من الهلاك ، فها هنا قد أمر ، وإلا لم يظهر عذره ، وهو مخالف الأمر ، ولا يريد منه العمل ; لأنه لا يريد ما يفضي إلى هلاكه ، وإلا كان مريدا هلاك نفسه وإنه محال .

                        [ ص: 292 ] وأجيب عنه : بأنه مثله يجيء في الطلب ; لأن العاقل لا يطلب ما يستلزم هلاكه ، وإلا كان طالبا لهلاكه ، ودفع بالمنع ; لجواز أن يطلب العاقل الهلاك لغرض إذا علم عدم وقوعه .

                        ورد هذا الدفع : بأن ذلك إنما يصح في اللفظي ، أما النفسي ، فالطلب النفسي كالإرادة النفسية ، فلا يطلب الهلاك بقلبه كما لا يريده .

                        وقال الآمدي : لو كان الأمر إرادة لوقعت المأمورات بمجرد الأمر ; لأن الإرادة صفة تخصص المقدور بوقت وجوده ، فوجودها فرع وجود مقدور مخصص ، والثاني باطل ; لأن إيمان الكفار المعلوم عدمه عند الله تعالى لا شك أنه مأمور به ، فيلزم أن يكون مرادا ، ويستلزم وجوده مع أنه محال .

                        وأجيب عن هذا : بأن ذلك لا يلزم من حد الأمر بإرادة الفعل ; لأنه من المعتزلة ، والإرادة عندهم بالنسبة إلى العباد ميل يتبع اعتقاد النفع أو دفع الضرر وبالنسبة إليه سبحانه وتعالى العلم بما في الفعل من من المصلحة .

                        إذا تقرر لك ما ذكرنا وعرفت ما فيه ، فاعلم أن الأولى بالأصول تعريف الأمر الصيغي ; لأن بحث هذا العلم عن الأدلة السمعية ، وهي الألفاظ الموصلة من حيث المعلوم بأحوالها من عموم وخصوص وغيرهما إلى قدرة إثبات الأحكام . والأمر الصيغي في اصطلاح أهل العربية صيغته المعلومة ، سواء كانت على سبيل الاستعلاء ، أو لا ، وعند أهل اللغة في صيغته المعلومة المستعملة في الطلب الجازم مع الاستعلاء هذا باعتبار لفظ الأمر الذي هو ألف ميم راء ، بخلاف فعل الأمر نحو اضرب ، فإنه لا يشترط فيه ما ذكر بل يصدق مع العلو وعدمه ، وعلى هذا أكثر أهل الأصول .

                        ولم يعتبر الأشعري قيد العلو ، وتابعه أكثر الشافعية ، واعتبر العلو المعتزلة جميعا جميعا إلا أبا الحسين منهم ووافقهم أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وابن السمعاني من الشافعية .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية