الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 287 ] نسخ ذلك

أخبرني أبو مسلم محمد بن محمد بن الجنيد ، أخبرنا أبو نصر محمد بن أحمد بن محمد الصيرفي في كتابه ، أخبرنا محمد بن يونس بن شاذان ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا مالك بن أنس ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في مرضه فأتى أبا بكر وهو قائم يصلي ، فاستأخر أبو بكر ، فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن كما أنت ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب أبي بكر ، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يصلون بصلاة أبي بكر .

ورواه الشافعي أيضا عن الثقة يحيى بن حسان ، عن حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة موصولا .

قرأت على أبي طالب الكتاني بواسط العراق ، أخبرك أحمد بن الحسن بن أحمد في كتابه ، أخبرنا الحسن بن محمد بن شاذان ، أخبرنا دعلج بن أحمد ، أخبرنا محمد بن علي ، حدثنا سعيد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس - وذكر الحديث - قالت : فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نفسه خفة ، قالت : فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد ، [ ص: 288 ] فلما سمع أبو بكر حسه ذهب ليتأخر ، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن قم كما أنت ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس عن يسار أبي بكر ، قالت : فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس جالسا ، وأبو بكر قائما ، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر .

هذا حديث صحيح ثابت متفق عليه ، أخرجه البخاري في الصحيح عن قتيبة ، عن أبي معاوية أيضا ، عن مسدد ، عن عبد الله بن داود الخريبي ، عن الأعمش ، وقال في حديثه : قام أبو بكر ، وقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنبه يصلي .

وأخرجه أيضا من حديث حفص بن غياث عن الأعمش ، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى ، عن أبي معاوية ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع ، وأبي معاوية ، وأخرجه أيضا من حديث عيسى بن يونس ، وعلي بن مسهر عن الأعمش بمعناه دون ذكر اليسار .

ومن ذهب إلى هذا الحديث قالوا : فهذا الفعل الذي رويناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحيح عنه ، ويكون ناسخا للحكم المتقدم ، وإليه أشار الشافعي ، قال : المستحب للإمام إذا لم يستطع القيام في الصلاة أن يستخلف ولا يؤم قاعدا ، ولما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مرض استخلف في أكثر الصلوات ، وإنما صلى بنفسه دفعة واحدة .

[ ص: 289 ] قرأت على روح بن بدر بن ثابت الرازي ، أخبرك أبو الفتح أحمد بن محمد بن أحمد إذنا ، عن كتاب محمد بن موسى الصيرفي ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي قال : وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما قلت شيء منسوخ وناسخ ، فذكر حديث أنس وحديث عائشة ، وقد مضى ذكرهما ، ثم قال : وهذا ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منسوخ بسنته ، وذلك أن أنس بن مالك يروي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى جالسا من سقطة فرس ، وعائشة تروي ذلك ، وأبو هريرة يوافق روايتهما ، وأمر من خلفه في هذه العلة بالجلوس إذا صلى جالسا ، ثم يروى عن عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مرضه الذي مات فيه جالسا ، والناس خلفه قياما ، قال : وهي آخر صلاة صلاها بالناس ، بأبي وأمي - صلى الله عليه وسلم - حتى لقي الله تعالى ، وهذا لا يكون إلا ناسخا ، وفي الحديث دلالة على ذلك ، حيث أم عليه السلام وهو قاعد ، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث : فأم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وهو قاعد ، وأم أبو بكر الناس وهو قائم ، وليس المراد به أن أبا بكر كان إماما في تلك الصلاة على الحقيقة ؛ لأن الصلاة لا تصح بإمامين ، وإنما النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الإمام ، وأبو بكر كان يبلغ الناس التكبير ، فسمي لذلك إماما .

وقال الشافعي أيضا في الرسالة : فلما كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه قاعدا والناس خلفه قياما ، استدللنا على أن أمره للناس بالجلوس في سقطته عن الفرس قبل مرضه الذي مات فيه ، [ ص: 290 ] وكانت صلاته في مرضه الذي مات فيه قاعدا والناس خلفه قياما ناسخة لأن يجلس الناس بجلوس الإمام .

وكان في ذلك دليل بما جاءت به السنة وأجمع عليه الناس ؛ من أن الصلاة قائما إذا أطاقها المصلي ، وقاعدا إذا لم يطق ، وأن ليس للمطيق القيام منفردا أن يصلي قاعدا .

فكانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن صلى في مرضه قاعدا ، ومن خلفه قياما ، مع أنها ناسخة لسنته الأولى قبلها ، موافقة سنته في الصحيح والمريض ، وإجماع الناس : أن يصلي كل واحد منهما فرضه ، كما يصلي خلف الإمام الصحيح قاعدا والإمام المريض قائما .

وهكذا نقول : يصلي الإمام جالسا ، ومن خلفه من الأصحاء قياما ؛ فيصلي كل واحد فرضه ، ولو وكل غيره كان حسنا .

وقد أوهم بعض الناس فقال : لا يؤمن أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا ، واحتج بحديث رواه منقطع عن رجل مرغوب الرواية عنه ، لا يثبت بمثله حجة على أحد فيه : لا يؤمن أحد بعدي جالسا .

[ ص: 291 ] [ ص: 292 ] وأخبرني أبو المحاسن محمد بن علي الزاهد ، أخبرنا زاهر بن أبي عبد الرحمن ، أخبرنا أبو بكر البيهقي ، أخبرنا الحاكم أبو عبد الله ، أخبرنا الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي قال : وقد روى في هذا الصنف - يعني الصلاة خلف من يصلي جالسا - يغلط فيه بعض من ذهب إلى الحديث ، وذلك أن عبد الوهاب الثقفي ، أخبرنا عن يحيى بن سعيد ، عن أبي الزبير ، عن جابر : أنهم خرجوا يشيعونه وهو مريض فصلى جالسا ، وصلوا خلفه جلوسا .

قال : وأخبرنا الثقفي ، عن يحيى بن سعيد ، أن أسيد بن حضير فعل مثل ذلك .

قال الشافعي : وفي هذا ما يدل على أن الرجل يعلم الشيء عن رسول [ ص: 293 ] الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم خلافه عنه ، فيقول بما علم ، ثم لا يكون في قوله بما علم وروى حجة على أحد ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال قولا أو عمل عملا ينسخ العمل الذي قال به غيره وعمله ، وبسط الكلام في هذا ، وأراد أنهما إنما فعلا ذلك لأنه لم يبلغهما النسخ ، قال : وفي هذا دليل على أن علم الخاصة يوجد عند بعض ويغرب عن بعض ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية