الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وقد روي عن المتقدمين في هذا اختلاف فيما روي في ذلك ما :

                  943 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو أنس قريش بن أنس ، عن أشعث ، عن الحسن ، " في الرجل يوصي أن عليه حجة الإسلام ، أو عليه زكاة ، قال الحسن : نقول : " يعطيان من جميع المال ، أوصى بذلك أو لم يوص به إذا علم أنه عليه " .

                  944 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن زياد الأعلم ، عن الحسن ، مثله .

                  945 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حماد ، عن الأعلم ، عن الحسن ، قال : " هو من جميع المال يعني : الحج " ، قال : والزكاة كذلك .

                  946 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال أخبرني قيس ، عن عطاء ، " في رجل أوصى أن يحج عنه ولم يكن حج الفريضة ، قال : " يحج عنه من جميع المال ، والزكاة مثل ذلك " .

                  947 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حماد ، عن قيس ، عن عطاء ، في الرجل يموت وعليه الحجة ، والنذر ، أنه قال : " هو من جميع المال " .

                  948 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، في الرجل يموت وعليه الحج والنذر ، قال : " لا يقضى عنه إلا أن يوصي به ، فإن أوصى به فمن الثلث " . [ ص: 431 ]

                  949 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حماد ، عن حماد ، وداود ، والليثي ، وحميد ، أنهم قالوا : " هو من الثلث " .

                  ولما اختلفوا فيما ذكرنا نظرنا فيما اختلفوا فيه منه ، فأما من قال : إنه لا يجب في مال الميت إلا أن يوصي به فيكون في ثلثه مبدأ على سائر وصاياه ، فلا معنى لقوله عندنا ، لأنه كان في ماله واجبا كان واجبا فيه ، أوصى به أو لم يوص به ، وكان واجبا في جميعه ، لا في ثلثه كما تجب الديون سواه ، وإن كان غير واجب في ماله حتى يوصي به كان في ثلث تركته كسائر وصاياه ، فانتفى بذلك هذا القول ، وثبت أحد القولين الآخرين .

                  وكان من حجة من جعله من جميع المال ، وجعله دينا في جميعه كسائر الديون سواه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للذي سأله عن الحج عن أبيه : " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه " ، أكان ذلك يجزئ ؟ وسنذكر ذلك في موضعه من كتاب المناسك إن شاء الله تعالى .

                  فجعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالدين ، فلا شيء أشبه بشيء من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدهما بالآخر .

                  فكان من الحجة عليه للآخرين ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شبهه بالدين كما ذكر ، ولم يقل إنه دين ، وفي تشبيهه إياه بالدين ما يدل على أنه غير دين ، لا يشبه الشيء بنفسه ، وإنما يشبه بغيره مما عليه موجوده فيه ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر لما قال له : أتيت اليوم أمرا عظيما ، قبلت امرأتي وأنا صائم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم أكان به بأس ؟ " فقال لا ، قال : " ففيم ؟ " .

                  وكما قال للأعرابي الذي أنكر ولده لما جاءت به امرأته أسود : " هل لك من إبل ؟ " فقال : نعم ، فقال : " فما ألوانها ؟ " فقال : كذا ، فقال : " هل فيها من أورق ؟ " قال : إن فيها لورقاء ، قال : " من أين ترى ذلك جاءها ؟ " فقال : من عرق نزعها ، فقال : " ولعل هذا من عرق نزعه " .

                  وكان تشبيهه - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرنا إنما هو تشبيهه شيئا بخلافه مما يشبهه الأشياء بنفسه ، وكذلك تشبيهه الحج بالدين دليل على أن الحج غير دين ، ولكنه فرض الله - عز وجل - في الأبدان كالديون المفروضة في الأموال ، فأعلمه أن قضاء الحق الذي لله - عز وجل - على أبيه في بدنه ، كقضائه للحق الذي عليه في ماله .

                  ولما كان الرجل الذي عليه الديون لأناس شتى مأخوذا بها ، مصروفا ماله فيها ، وكان [ ص: 432 ] من خوضهم في ديون عليه ، ولم يحج حجة الإسلام ، فوجب أن يخاض بين غرمائه في ماله لم يخض بين الحجة وبينهم فيه ، دل ذلك على أن الحجة ليست بموجبة دينا على من هي عليه كديون الآدميين ، وكذلك ما سواها من حقوق الله - عز وجل - ، ومن كفارات الأيمان ، وأسباب الصيام ، وجزاء الصيد ، ودماء التمتع والقران .

                  وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي يطعم عن الصيام الذي كان على المفطرين في شهر رمضان ممن لم يقضه حتى توفي ، وأوصى بقضائه بعد وفاته عن المؤيس لهم من الطاقة على الصيام من الأجناس ، قال ذلك إيجابا ، وممن قاله استحبابا ، وقد ذكرنا ذلك ، وما قاله كل واحد فيما تقدم من كتابنا ، فأغنانا ذلك عن إعادته هاهنا ، غير أنا لم نكن ذكرنا في ذلك الأولى مما قالوه في المقدار الذي يطعم عنه ، فاحتجنا إلى ذكره هاهنا ، فوجدنا الله - عز وجل - قد ذكر الإطعام في غير موضع من كتابه ، فمن ذلك ما ذكره في كفارات الأيمان بقوله - عز وجل - : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ) الآية .

                  فكان أهل العلم في مقدار ذلك الإطعام مختلفين ، فطائفة منهم تجعله من الحنطة مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتجعله من التمر والشعير مثل ضعف ذلك وهو أربعة أمداد ، ويروون ذلك عن عمر بن الخطاب ، وعن علي بن أبي طالب .

                  وطائفة منهم تجعله مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، ويروون ذلك عن عبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، فلم يكن في هذا دليل في مقدار الإطعام عن الصيام الذي ذكرنا ، ومنها الإطعام عن الظهار لمن لم يجد رقبة ، ولم يستطع صوم شهرين متتابعين بقوله - عز وجل - : ( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ) .

                  فكان أهل العلم مختلفين في مقدار ما يطعم عن ذلك كاختلافهم في مقدار ما يطعم عن كفارة الأيمان ، فلم يكن في ذلك دليل على مقدار الإطعام عن الصيام الذي ذكرنا .

                  ومنها الإطعام في جزاء الصيد بقوله - عز وجل - : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين ) فكان أهل العلم مختلفين في مقدار ما يطعم كل مسكين منهم من ذلك كاختلافهم في مقدار ما يطعم كل مسكين في كفارات الأيمان ، وفي كفارات الظهار ، فلم يكن في ذلك دليل على مقدار الإطعام عن الصيام الذي ذكرناه [ ص: 433 ] .

                  ومنها الإطعام في الحلق في الإحرام من المرض ، ومن الأذى بقوله : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) .

                  فكان أهل العلم مجمعين في هذا على أنه مدان ، وبذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كعب بن عجرة لما أذاه هوام رأسه ، وأنزل الله - عز وجل - هذه الآية فأمره أن يحلق رأسه ويذبح شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام ، أو يطعم ستة مساكين كل مسكين مدين .

                  فكان هذا مقدارا من الطعام ، متفقا عليه ، غير حرف واحد منه ، وهو أن حديث كعب هذا يقول فيه عبد الله بن معقل ، عن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، " مدين من بر " .

                  ويقول فيه أبو قلابة ، عن ابن أبي ليلى ، عن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، " مدين من تمر " .

                  ويقول فيه الشعبي ، عن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما يحدث يزيد بن ذريع ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، " مدين من تمر " ، غير أن حماد بن سلمة قد رواه ، عن داود ، عن الشعبي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعاد الاختلاف في هذا عن كعب ، ولم نجد في شيء من الإطعام عن غير حلق للرأس في الإحرام من مرض أو من أذى ، " مدين من تمر " أصلا ، إنما وجدنا فيه " مدا من تمر " في كفارات الأيمان ، وفيما سواها في قول وأربعة أصلا ، ومن التمر في قول آخرين .

                  فلما كان ذلك كذلك لم نجعل للمدين من التمر معنى يعطف عليه غيره ، وجعلنا المدين من البر أولى ، لأن الذي حلق رأسه في إحرامه من المرض أو من الأذى أجمع أن عليه كفارة ما ، وكان إذا أطعم كل مسكين مدين من تمر لم يجزئه ذلك عند بعضهم ، وأجزأه عند [ ص: 434 ] بعضهم ، وكان أولى الأشياء بنا ألا تبطل عن رجل كفارة ، فقد أحطنا علما بوجوبها عليه إلا بعد إحاطتنا علما بزوالها عنه .

                  ولما وجب أن يكون مقدار الإطعام في حلق الرأس في الإحرام من أذى أو من مرض كما ذكرنا ، وجب أن يكون كذلك مقدار الإطعام في سائر الكفارات من البر ، وإذا وجب ثبوت قول أهل هذا المذهب أن الزبيب في قولهم فيما سوى البر ، أنه أربعة أمداد ، وهكذا كان أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد يقولونه في هذا إلا في الزبيب خاصة فإن محمدا حدثنا ، عن علي ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، أنه " عدل الزبيب في ذلك بالحنطة ، وجعله مدين " . وقد روى الحسن بن زياد ، عن أبي حنيفة خلاف ذلك ، وأنه عدل الشعير بالتمر فجعله كهما وهذا قول أبي يوسف ، ومحمد من رأيهما وهو أحب القولين إلينا .

                  وأما السويق والدقيق فإن القياس عندنا فيهما أن لا يكونا كالبر فيما يجزئ منه دخول الصنعة إياهما ولإجماعهم على أنه لا يجوز بيعهما بالحنطة .

                  وقد ذكرنا أقوال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مقدار الإطعام وقد ذكرنا حديث كعب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مقدار الإطعام فيما وصفنا ، ولم نأت بأسانيدها لأنها أخرناها إلى مواضعها التي يحتاج إليها فيها فيما بعد من كتبنا هذه إن شاء الله تعالى .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية