الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        الوجه الثالث من النقل ما جاء عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في ذم البدع وأهلها :

                        وهو كثير .

                        فما جاء عن الصحابة :

                        ما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه خطب الناس ، فقال : " أيها الناس ! قد سنت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا " .

                        وصفق بإحدى يديه على الأخرى ، ثم قال : " إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ، أن يقول قائل : لا نجد حدين في كتاب الله ، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا " إلى آخر الحديث .

                        وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه : أنه قال : " يا معشر [ ص: 106 ] القراء ! استقيموا; فقد سبقتم سبقا بعيدا ، ولئن أخذتم يمينا وشمالا ، لقد ضللتم ضلالا بعيدا .

                        وروي عنه من طريق آخر : أنه كان يدخل المسجد ، فيقف على الحلق ، فيقول : " يا معشر القراء ! اسلكوا الطريق ، فلئن سلكتموها; لقد سبقتم سبقا بعيدا ، ولئن أخذتم يمينا وشمالا ، لقد ضللتم ضلالا بعيدا " .

                        وفي رواية ابن المبارك : فوالله لئن استقمتم; لقد سبقتم سبقا بعيدا . الحديث

                        وعنه أيضا : " أخوف ما أخاف على الناس اثنتان : أن يؤثروا ما يرون على ما يعملون ، وأن يضلوا وهم لا يشعرون " . قال سفيان : وهو صاحب البدعة .

                        وعنه أيضا : أنه أخذ حجرين ، فوضع أحدهما على الآخر ، ثم قال لأصحابه : " هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور " ؟ قالوا : يا أبا عبد الله ، ما نرى بينهما من النور إلا قليلا .

                        قال : " والذي نفسي بيده; لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور ، والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء; قالوا : تركت السنة " .

                        وعنه أنه قال : " أول ما تفقدون من دينكم الأمانة ، وآخر ما تفقدون الصلاة ، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ، وليصلين نساؤكم وهن حيض ، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، وحذو النعل بالنعل ، لا تخطئون طريقهم ، ولا تخطئ بكم ، وحتى تبقى فرقتان من [ ص: 107 ] فرق كثيرة تقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس ؟ ، لقد ضل من كان قبلنا إنما قال الله : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ) ، لا تصلون إلا ثلاثا . وتقول الأخرى : إنما المؤمنون بالله كإيمان الملائكة ، ما فيها كافر ولا منافق . حق على الله أن يحشرهما مع الدجال .

                        وهذا المعنى موافق لما ثبت من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : لألفين أحدكم متكئا على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ; فإن السنة جاءت مفسرة للكتاب ، فمن أخذ بالكتاب من غير معرفة بالسنة ; زل عن الكتاب كما زل عن السنة ، فلذلك يقول القائل : " لقد ضل من كان قبلنا " إلى آخره .

                        وهذه الآثار عن حذيفة من تخريج ابن وضاح .

                        وخرج أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : " اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا; فقد كفيتم " .

                        وخرج عنه ابن وهب أيضا : أنه قال : " عليكم بالعلم قبل أن يقبض ، وقبضه بذهاب أهله . عليكم بالعلم; فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده . وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم ، فعليكم بالعلم ، وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق ، [ ص: 108 ] وعليكم بالعتيق " .

                        وعنه أيضا : " ليس عام إلا والذي بعده شر منه ، لا أقول : عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهاب علمائكم وخياركم ، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم ، فيهدم الإسلام ويثلم .

                        وقال أيضا : " كيف أنتم إذا ألبستم فتنة ، يهرم فيها الكبير ، وينشأ فيها الصغير ، تجري على الناس ، يحدثونها سنة ، وإذا غيرت ، قيل : هذا منكر ؟ ! .

                        وقال أيضا : " أيها الناس ! لا تبتدعوا ، ولا تنطعوا ، ولا تعمقوا ، وعليكم بالعتيق ، خذوا ما تعرفون ، ودعوا ما تنكرون " .

                        وعنه أيضا : " القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة " .

                        وقد روي معناه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة .

                        وعنه أيضا خرجه قاسم بن أصبغ أنه قال : أشد الناس عذابا يوم القيامة : إمام ضال يضل الناس بغير ما أنزل الله ، ومصور ، ورجل قتل نبيا أو قتله نبي .

                        وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه; قال : " لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به ، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره [ ص: 109 ] أن أزيغ " .

                        خرج ابن المبارك عن ابن عمر ; قال : " بلغ عمر بن الخطاب أن يزيد بن أبي سفيان يأكل ألوان الطعام ، فقال عمر لمولى له يقال له يرفأ : إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه فأعلمني ، فلما حضر عشاؤه ، أعلمه ، فأتاه عمر ، فسلم عليه ، فاستأذن فأذن له فدخل ، فقرب عشاءه فجاء بثريد لحم ، فأكل عمر معه منها ، ثم قرب شواء ، فبسط يزيد يده ، وكف عمر يده ثم قال : والله يا يزيد بن أبي سفيان ، أطعام بعد طعام ؟ ! والذي نفس عمر بيده ، لئن خالفتم عن سنتهم ، ليخالفن بكم عن طريقهم .

                        وعن ابن عمر قال : " صلاة السفر ركعتان ، من خالف السنة كفر " .

                        وخرج الآجري عن السائب بن يزيد; قال : " أتى عمر بن الخطاب [ رجال ] ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ! إنا لقينا رجلا يسأل عن تأويل القرآن ، فقال : اللهم أمكني منه " .

                        قال : " فبينما عمر ذات يوم يغدي الناس; إذ جاءه عليه ثياب وعمامة ، فتغدى ، حتى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين ( والذاريات ذروا فالحاملات وقرا ) فقال عمر : أنت هو ؟ فقام إليه محسرا عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته ، فقال : والذي نفسي بيده; لو وجدتك محلوقا; لضربت رأسك .

                        ألبسوه ثيابه ، واحملوه على قتب ، ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلاده ، [ ص: 110 ] ثم ليقم خطيبا ثم ليقل : إن صبيغا طلب العلم ، فأخطأ فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك ، وكان سيد قومه .

                        وخرج ابن المبارك وغيره عن أبي بن كعب : أنه قال : " عليكم بالسبيل والسنة ، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله ، ففاضت عيناه من خشية الله فيعذبه الله أبدا . وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه ، فاقشعر جلده من خشية الله ، إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها ، فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة ، فتحات عنها ورقها; إلا حط الله عنه خطاياه كما تحات عن الشجرة ورقها ، فإن اقتصادا في سبيل الله وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة ، وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا واقتصادا أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم .

                        وخرج ابن وضاح عن ابن عباس ; قال : " ما يأتي على الناس من عام; إلا أحدثوا فيه بدعة ، وأماتوا سنة ، حتى تحيا البدع ، وتموت السنن " .

                        وعنه أنه قال : " عليكم بالاستفاضة والأثر ، وإياكم والبدع " .

                        وخرج ابن وهب عنه أيضا; قال : " من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ، ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم; لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل .

                        وخرج أبو داود وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : أنه قال [ ص: 111 ] يوما : " إن من ورائكم فتنا ، يكثر فيها المال ، ويفتح فيها القرآن ، حتى يأخذه المؤمن والمنافق ، والرجل والمرأة ، والصغير والكبير ، والعبد والحر ، فيوشك قائل أن يقول : ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره ، وإياكم وما ابتدع ، فإن ما ابتدع ضلالة ، وأحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق .

                        قال الراوي : قلت لمعاذ : وما يدريني يرحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة ضلالة ، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟

                        قال : " بلى ! اجتنب من كلام الحكيم ( غير ) المشتهرات التي يقال فيها : ما هذه ؟ ولا يثنينك ذلك عنه ، فإنه لعله أن يراجع ، وتلق الحق إذا سمعته ، فإن على الحق نورا " .

                        وفي رواية مكان ( المشتهرات ) : المشتبهات ، وفسر بأنه ما تشابه عليك من قول ، حتى يقال : ما أراد بهذه الكلمة ؟

                        ويريد والله أعلم ما لم يشتمل ظاهره على مقتضى السنة ، حتى تنكره القلوب ، ويقول الناس : ما هذه ؟ وذلك راجع إلى ما يحذر من زلة العالم حسبما يأتي بحول الله .

                        ومما جاء عمن بعد الصحابة رضي الله عنهم :

                        ما ذكر ابن وضاح عن الحسن ; قال : صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا - صياما وصلاة - إلا ازداد من الله بعدا .

                        [ ص: 112 ] وخرج ابن وهب عن أبي إدريس الخولاني : أنه قال : " لأن أرى في المسجد نارا لا أستطيع إطفاءها ، أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها " .

                        وعن الفضيل بن عياض : " اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين ، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين " .

                        وعن الحسن : " لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك ، أو تخالفه فيمرض قلبك " .

                        وعنه أيضا في قول الله تعالى : ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) ; قال : " كتب الله صيام رمضان على أهل الإسلام كما كتبه على من كان قبلهم ، فأما اليهود; فرفضوه ، وأما النصارى; فشق عليهم الصوم ، فزادوا فيه عشرا ، وأخروه إلى أخف ما يكون عليهم فيه الصوم من الأزمنة " .

                        فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث; قال : " عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة " .

                        وعن أبي قلابة : " لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم; فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ، ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون " .

                        قال أيوب : " وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب " .

                        وعنه أيضا : أنه كان يقول : " إن أهل الأهواء أهل ضلالة ، ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار " .

                        [ ص: 113 ] وعن الحسن : " لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك " .

                        وعن أيوب السختياني أنه كان يقول : " ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا ، إلا ازداد من الله بعدا " .

                        وعن أبي قلابة : " ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف " .

                        وكان أيوب يسمي أصحاب البدع خوارج ، ويقول : " إن الخوارج اختلفوا في الاسم ، واجتمعوا على السيف " .

                        وخرج ابن وهب عن سفيان ، قال : " كان رجل فقيه يقول : ما أحب أني هديت الناس كلهم وأضللت رجلا واحدا " .

                        وخرج عنه أنه كان يقول : " لا يستقيم قول إلا بعمل ، ولا قول وعمل إلا بنية ، ولا قول ولا عمل ولا نية ، إلا موافقا للسنة " .

                        وذكر الآجري أن ابن سيرين كان يرى أسرع الناس ردة أهل الأهواء .

                        وعن إبراهيم : " ولا تكلموهم إني أخاف أن ترتد قلوبكم " .

                        وعن هشام بن حسان قال : " لا يقبل الله من صاحب بدعة صياما ولا صلاة ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا " .

                        زاد ابن وهب عنه : " وليأتين على الناس زمان يشتبه فيه الحق والباطل ، فإذا كان ذلك; لم ينفع فيه دعاء إلا كدعاء الغرق " .

                        وعن يحيى بن أبي كثير ; قال : " إذا لقيت صاحب بدعة [ ص: 114 ] في طريق; فخذ في طريق آخر .

                        وعن بعض السلف : " من جالس صاحب بدعة ، نزعت منه العصمة ، ووكل إلى نفسه .

                        وعن العوام بن حوشب : أنه كان يقول لابنه : " يا عيسى ، أصلح قلبك وأقلل مالك " .

                        وكان يقول : " والله لأن أرى عيسى في مجالس أصحاب البرابط والأشربة والباطل أحب إلي من أن أراه يجالس أصحاب الخصومات " .

                        قال ابن وضاح : " يعني : أهل البدع " .

                        وقال رجال لـ أبي بكر بن عياش : يا أبا بكر ، من السني ؟ [ قال ] : " الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها " .

                        وقال يونس بن عبيد : " إن الذي تعرض عليه السنة فيقبلها الغريب ، وأغرب منه صاحبها " .

                        وعن يحيى بن أبي عمر الشيباني ; قال : " كان يقال : يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة ، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها " .

                        وعن أبي العالية : " تعلموا الإسلام ، فإذا تعلمتموه; فلا ترغبوا عنه ، وعليكم بالصراط المستقيم; فإنه الإسلام ، ولا تحرفوا يمينا ولا شمالا ، وعليكم بسنة نبيكم وما كان عليه أصحابه من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا ، قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا [ ص: 115 ] صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا ، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء " .

                        فحدث الحسن بذلك فقال : " رحمه الله ، صدق ونصح " .

                        خرجه ابن وضاح وغيره .

                        وكان مالك كثيرا ما ينشد :


                        وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع

                        وعن مقاتل بن حيان ؛ قال : " أهل هذه الأهواء آفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، إنهم يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، فيتصيدون بهذا الذكر الحسن عند الجهال من الناس ، فيقذفون بهم في المهالك ، فما أشبههم بمن يسقي الصبر باسم العسل ، ومن يسقي السم القاتل باسم الترياق ، فأبصرهم; فإنك إن لا تكن أصبحت في بحر الماء ، فقد أصبحت في بحر الأهواء الذي هو أعمق غورا ، وأشد اضطرابا ، وأكثر صواعق ، وأبعد مذهبا من البحر وما فيه ، فتلك مطيتك التي تقطع بها سفر الضلال ، اتباع السنة " .

                        وعن ابن المبارك قال : " اعلم أي أخي أن الموت كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، فإلى الله نشكو وحشتنا ، وذهاب الإخوان ، وقلة الأعوان ، وظهور البدع . وإلى الله نشكو [ ص: 116 ] عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع " .

                        وكان إبراهيم التيمي يقول : " اللهم اعصمني بدينك وبسنة نبيك ، من الاختلاف في الحق ، ومن اتباع الهوى ، ومن سبل الضلالة ، ومن شبهات الأمور ، ومن الزيغ والخصومات " .

                        وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله : كان يكتب في كتبه : " إني أحذركم ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيدة " .

                        ولما بايعه الناس; صعد على المنبر ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : " أيها الناس ! إنه ليس بعد نبيكم نبي ، ولا بعد كتابكم كتاب ، ولا بعد سنتكم سنة ، ولا بعد أمتكم أمة ، ألا وإن الحلال ما أحل الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة ، ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة ، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع ، ألا وإني لست بقاض ولكني منفذ ، ألا وإني لست بخازن ولكني أضع حيث أمرت ، ألا وإني لست بخيركم ولكني أثقلكم حملا . ألا ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " . ثم نزل .

                        وفيه قال عروة بن أذينة عن أذينة يرثيه بها :


                        وأحييت في الإسلام علما وسنة     ولم تبتدع حكما من الحكم أضجعا
                        ففي كل يوم كنت تهدم بدعة     وتبني لنا من سنة ما تهدما

                        ومن كلامه الذي عني به ويحفظه العلماء وكان يعجب مالكا جدا ، [ ص: 117 ] وهو أن قال : " سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفه ، من عمل بها مهتد ، ومن انتصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا " .

                        وبحق ما كان يعجبهم; فإنه كلام مختصر ، جمع أصولا حسنة من السنة :

                        منها ما نحن فيه; لأن قوله : " ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها " ، قطع لمادة الابتداع جملة .

                        وقوله : " من عمل بها مهتد إلى آخر الكلام مدح لمتبع السنة ، وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك ، وهو قول الله سبحانه وتعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) .

                        ومنها ما سنه ولاة الأمر من بعد النبي صلى الله عليه وسلم; فهو سنة; لا بدعة فيه ألبتة ، وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم نص عليه على الخصوص ، فقد جاء ما يدل عليه في الجملة ، وذلك نص حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه حيث قال فيه :

                        فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، [ ص: 118 ] وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور .

                        فقرن عليه السلام كما ترى سنة الخلفاء الراشدين بسنته ، وإن من اتباع سنته اتباع سنتهم ، وإن المحدثات خلاف ذلك ، ليست منها في شيء ، لأنهم رضي الله عنهم فيما سنوه : إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها ، وإما متبعون لما فهموا من سنته صلى الله عليه وسلم في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله ، لا زائد على ذلك .

                        وسيأتي بيانه بحول الله .

                        على أن أبا عبد الله الحاكم نقل عن يحيى بن آدم قول السلف الصالح : " سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما " ، أن المعنى فيه : " أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو على تلك السنة ، وأنه لا يحتاج مع قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد " .

                        وما قال صحيح في نفسه ، فهو مما يحتمله حديث العرباض رضي الله عنه ، فلا زائد إذا على ما ثبت في السنة النبوية; إلا أنه قد يخاف أن تكون منسوخة بسنة أخرى ، فافتقر العلماء إلى النظر في عمل الخلفاء بعده ، ليعلموا أن ذلك هو الذي مات عليه النبي صلى الله عليه وسلم; من غير أن يكون له ناسخ ، لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمره .

                        وعلى هذا المعنى بنى مالك بن أنس في احتجاجه بالعمل ، ورجوعه إليه عند تعارض السنن .

                        [ ص: 119 ] ومن الأصول المضمنة في أثر عمر بن عبد العزيز : أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لقوله : " الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله " .

                        وهو أصل مقرر في غير هذا الموضع ، فقد جمع كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله أصولا حسنة وفوائد مهمة .

                        ومما يعزى لـ أبي إلياس الألباني : " ثلاث لو كتبن في ظفر; لوسعهن ، وفيهن خير الدنيا والآخرة : اتبع لا تبتدع ، اتضع لا ترتفع ، ومن ورع لا يتسع " . والآثار هنا كثيرة .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية