الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      خلافة علي ، رضي الله عنه .


      والرابع ابن عم خير الرسل أعني الإمام الحق ذا القدر العلي     مبيد كل خارجي مارق
      وكل خب رافضي فاسق     من كان للرسول في مكان
      هارون من موسى بلا نكران     ولا في نبوة فقد قدمت ما
      يكفي لمن من سوء ظن سلما

      .

      ( والرابع ) في الفضل والخلافة ( ابن عم ) محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الرسل ، أكرمهم على الله - عز وجل - ( أعني ) بذلك ( الإمام الحق ) بالإجماع بلا مدافعة ولا ممانعة ( ذا ) صاحب ( القدر العلي ) الرفيع ، وهو أمير المؤمنين أبو السبطين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم - رضي الله عنه - وأرضاه .

      كان أبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخا شقيقا لأبيه عبد الله ، وأمه فاطمة بنت عمرو ، كفل أبو طالب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موت جده عبد المطلب ، وهو ابن ثمان سنين ، ولما بعث آواه الله تعالى به وحماه ، وهو مع ذلك على دين قومه ، ولله في ذلك حكمة ، وقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هداية عمه كل الحرص ، ولم يكن ذلك حتى [ ص: 1171 ] خرجت روحه ، وهو يقول : على ملة عبد المطلب ، وأنزل الله تعالى في ذلك تعزية لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ( القصص 56 ) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فنهاه الله تعالى عن الاستغفار له بقوله - عز وجل : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ( التوبة 113 ) الآيات .

      وفي صحيح مسلم ، عن العباس بن عبد المطلب أنه قال : يا رسول الله ، هل نفعت أبا طالب بشيء ، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : نعم ، هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار . وفي لفظ : وجدته في غمرات من النار ، فأخرجته إلى ضحضاح .

      وفيه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر عنده عمه أبو طالب فقال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه .

      وفيه عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أهون أهل النار عذابا أبو طالب ، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه .

      وكفل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا - رضي الله عنه - وهو صغير ، فلما بعث آمن به ، وهو ابن ثمان سنين ، وهو أول من آمن من الصبيان ، كما أن أبا بكر أول من آمن به من [ ص: 1172 ] الرجال ، وخديجة - رضي الله عنها - أول من آمن به من النساء ، وورقة بن نوفل - رضي الله عنه - أول من آمن من الشيوخ ، وزيد بن حارثة - رضي الله عنه - أول من آمن به من الموالي ، وبلال - رضي الله عنه - أول من آمن به من الأرقاء - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم أجمعين .

      وكان علي - رضي الله عنه - صاحب دعوة قريش حين نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنذر عشيرتك الأقربين ( الشعراء 214 ) فأمر عليا أن يدعوهم له فيجتمعون للنذارة ، وهو الذي فاداه بنفسه فنام على فراشه ليلة مكر المشركين كما قدمنا في حديث الهجرة ، وهو الذي أدى الأمانات عنه بعدها ، وهو الذي برز مع حمزة وعبيدة لخصمائهم يوم بدر ، وكان يقول : أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة ، وشهد مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلها إلا تبوك على ما يأتي .

      وهو صاحب عمرو بن ود وخيله يوم الخندق ، وفتح الله على يديه يوم خيبر بعد قتل فارسهم مرحب ، وكان مع حماة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ، وكان صاحب النداء بسورة " براءة " تبليغا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الموسم ، وشريكه في هديه في حجة الوداع ، وخليفته في أهله في غزوة تبوك ، وصاحب تجهيزه حين توفي مع جماعة من أهل البيت ، رضي الله عنهم .

      وقد ثبت له في الأحاديث الصحاح ، والحسان من الفضائل الجمة ما فيه كفاية وغنية عن تلفيق الرافضة ، وخرطهم وكذبهم عليه ، وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وقولهم عليه ما لم يقل ، قبحهم الله .

      ( مبيد ) أي مدمر ( كل خارجي ) نسبة إلى الخروج من الطاعة ، ولكن صار هذا الاسم علما على الحرورية الذين كفروا أهل القبلة والمعاصي ، وحكموا بتخليدهم في النار بذلك ، واستحلوا دماءهم وأموالهم ، حتى الصحابة من السابقين الأولين من أهل بدر وغيرهم ، حتى علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر [ ص: 1173 ] وخباب ، وأقرانهم - رضي الله عنهم - ثم صار هذا الاسم عاما لكل من اتبع مذهبهم الفاسد ، وسلك طريقتهم الخائبة .

      وكل ذنب يكفرون به المؤمنين ، فهو تكفير لأنفسهم من وجوه عديدة ، وهم لا يشعرون :

      فمنها أن تكفير المؤمن إن لم يكن كذلك ، كفر فاعله كما في الحديث : أيما امرئ قال لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه .

      ومنها أن من أكبر الكبائر التي يكفرون بها المؤمنين قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وهم أسرع الناس في ذلك ، يقتلون أهل الإيمان ، ويدعون أهل الأوثان .

      ومنها أن المؤمن وإن عمل المعاصي ، فهو لا يستحلها ، وإنما يقع فيها لغلبة نفسه إياه ، وتسويل شيطانه له ، وهو مقر بتحريمها ، وبما يترتب عليه من الحدود الشرعية فيما ارتكبه ، وهم يقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ، ويأخذون الأموال التي حرم الله أخذها إلا بالحق ، ويفعلون الأفاعيل القبيحة مستحلين لها ، والذي يعمل الكبيرة مستحلا لها أولى بالكفر ممن يعملها مقرا بتحريمها ، بل لا مخالف في ذلك إذ هو تكذيب بالكتاب ، وبما أرسل الله تعالى به رسله عليهم السلام ، وإنما توقف الصحابة عن تكفير أهل النهروان ; لأنهم كانوا يتأولون ، فحكموا أنهم بغاة .

      ( مارق ) اسم فاعل من المروق ، وهو الخروج من جانب غير مقصود الخروج منه ، وسمي الخوارج ( مارقة ) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية . وقوله : تمرق مارقة . الحديث .

      ففي الصحيح ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : أتى رجل [ ص: 1174 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة منصرفه من حنين ، وفي ثوب بلال فضة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبض منها ويعطي الناس ، فقال : يا محمد اعدل . قال : ويلك ، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل ؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل . فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه : دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق . فقال : معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي ، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية .

      وفيه عن أبي سعيد في قصة الذهيبة : فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس ، فقال : اتق الله يا محمد . قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : فمن يطع الله إن عصيته ؟ أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني ؟ قال : ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله - يرون أنه خالد بن الوليد - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد . وفي لفظ " ثمود " ، وفي لفظ : فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه : يا رسول الله ، ائذن لي فيه أضرب عنقه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء وهو القدح ، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء ، سبق الفرث والدم ، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ، يخرجون على حين فرقة من الناس . قال أبو سعيد : فأشهد أني سمعت [ ص: 1175 ] هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وأشهد أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قاتلهم وأنا معه ، فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد ، فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نعت .

      وفيه عنه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر قوما يكونون في أمته ، يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق ، قال : هم شر الخلق أو من أشر الخلق ، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق . قال : فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم مثلا - أو قال قولا - الرجل يرمي الرمية ، أو قال : الفوق فينظر في النصل فلا يرى بصيرة ، وينظر في النضي فلا يرى بصيرة ، وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة . قال : قال أبو سعيد : وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق .

      وفيه عنه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق .

      وفي رواية يكون في أمتي فرقتان ، فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق . وفي لفظ قال : قال - صلى الله عليه وسلم : تمرق مارقة في فرقة من الناس ، فيلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق . وفي رواية : يخرجون على فرقة مختلفة ، يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق .

      وفيه عن سويد بن غفلة قال : قال علي - رضي الله عنه : إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أقول عليه ما لم يقل ، وإذا [ ص: 1176 ] حدثتكم فيما بيني وبينكم ، فإن الحرب خدعة ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام ، يقولون : من خير قول البرية ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة .

      وفيه عن عبيدة - رضي الله عنه - قال : ذكر الخوارج فقال : فيهم رجل مخدج اليد - أو مودن اليد ، أو مودون اليد - لولا أن تطروا ، لحدثتكم بما وعد الله تعالى الذين يقتلونهم على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم . قال : قلت : أنت سمعت من محمد - صلى الله عليه وسلم ؟ قال : إي ورب الكعبة ، إي ورب الكعبة ، إي ورب الكعبة .

      وفيه عن زيد بن وهب الجهني أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي - رضي الله عنه - الذين ساروا إلى الخوارج ، فقال علي - رضي الله عنه : أيها الناس ، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء ، يقرءون القرآن يحسبونه أنه لهم وهو عليهم ، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ، ما قضي لهم على لسان نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لاتكلوا عن العمل ، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ، وليس له ذراع ، على رأس عضده مثل حلمة الثدي ، عليه شعرات بيض ، فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام ، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم ؟ والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم ، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام ، وأغاروا في سرح الناس ، فسيروا على اسم الله . قال سلمة بن كهيل : فنزلني زيد بن وهب منزلا ، حتى مررنا على قنطرة ، فلما التقينا وعلى الخوارج [ ص: 1177 ] يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي ، فقال لهم : ألقوا الرماح ، وسلوا سيوفكم من جفونها ، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء ، فرجعوا فوحشوا برماحهم ، وسلوا السيوف ، وشجرهم الناس برماحهم ، قال : وقتل بعضهم على بعض ، وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان ، قال علي - رضي الله عنه : التمسوا فيهم المخدج ، فالتمسوه فلم يجدوه ، فقام علي - رضي الله عنه - بنفسه حتى أتى ناسا قد قتل بعضهم على بعض ، قال : أخروهم ، فوجدوه مما يلي الأرض ، فكبر ثم قال : صدق الله وبلغ رسوله . قال : فقام إليه عبيدة السلماني فقال : يا أمير المؤمنين ، الله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أي والله الذي لا إله إلا هو ، حتى استحلفه ثلاثا ، وهو يحلف له .

      وفيه عن عبيد بن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الحرورية لما خرجت ، وهو مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قالوا : لا حكم إلا لله . قال علي : كلمة حق أريد بها باطل . إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف لنا ، وإني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم ، ولا يجوز هذا منهم ، وأشار إلى حلقه ، من أبغض خلق الله إليه ، منهم أسود ، إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي ، فلما قتلهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : انظروا ، فنظروا فلم يجدوا شيئا ، فقال : ارجعوا فوالله ما كذبت ، ولا كذبت - مرتين أو ثلاثا - ثم وجدوه في خربة ، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه ، قال عبد الله : وأنا حاضر ذلك من أمرهم ، وقول علي - رضي الله عنه - فيهم .

      وفيه عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن بعدي من أمتي قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم ، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ، ثم لا يعودون فيه ، هم شر الخلق والخليقة . ومثله عن رافع بن عمر الغفاري ، رضي الله عنه .

      [ ص: 1178 ] وفي سنن أبي داود ، عن أبي سعيد الخدري ، وأنس بن مالك ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : سيكون في أمتي اختلاف وفرقة ، قوم يحبون القتل ، ويسيئون الفعل ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، لا يرجعون حتى يرتد على فوقه ، هم شر الخلق والخليقة ، طوبى لمن قتلهم وقتلوه ، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء ، من قاتلهم كان أولى بالله منهم ، قالوا : يا رسول الله ، ما سيماهم ؟ قال : التحليق .

      وله عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : سيماهم التحليق والتسبيد ، فإذا رأيتموهم فأيتموهم . قال أبو داود : التسبيد استئصال الشعر . والأحاديث في ذم الخوارج والأمر بقتالهم والثناء على مقاتليهم كثيرة جدا ، وفيما ذكرناه كفاية .

      ( و ) مبيد ( كل خب رافضي فاسق ) الخب الخداع الخائن ، والرافضي نسبة إلى الرفض ، وهو الترك بازدراء واستهانة ، سموا بذلك لرفضهم الشيخين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما ، وزعموا أنهما ظلما عليا ، واغتصبوه الخلافة ، ومنعوا فاطمة - رضي الله عنها - فدك ، وبذلك يحطون عليهما ، ثم على عائشة ، ثم على غيرها من الصحابة .

      وهم أقسام كثيرة ، لا كثرهم الله تعالى :

      أعظمهم غلوا ، وأسوأهم قولا ، وأخبثهم اعتقادا بل وأخبث من اليهود والنصارى هم السبيئة أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي ، قبحه الله .

      كانوا يعتقدون في علي - رضي الله عنه - الإلهية ، كما يعتقد النصارى في عيسى - عليه السلام - وهم الذين أحرقهم علي - رضي الله عنه - بالنار ، وأنكر ذلك عليه ابن عباس كما في صحيح البخاري ، والمسند ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي [ ص: 1179 ] عن عكرمة - رضي الله عنه - قال : أتي علي - رضي الله عنه - بزنادقة فأحرقهم ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم ; لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لا تعذبوا بعذاب الله ، ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من بدل دينه فاقتلوه .

      حكي عن أبي المظفر الإسفراييني في الملل والنحل أن الذين أحرقهم علي - رضي الله عنه - طائفة من الروافض ، ادعوا فيه الإلهية وهم السبئية ، وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديا ، ثم أظهر الإسلام ، وابتدع هذه المقالة ، وتفصيل ذلك ما ذكره في الفتح من طريق عبد الله بن شريك العامري ، عن أبيه قال : قيل لعلي - رضي الله عنه : إن هنا قوما على باب المسجد يزعمون أنك ربهم ، فدعاهم فقال لهم : ويلكم ما تقولون ؟ قالوا : أنت ربنا ، وخالقنا ، ورازقنا . قال : ويلكم إنما أنا عبد مثلكم ، آكل الطعام كما تأكلون ، وأشرب كما تشربون ، إن أطعت الله أثابني إن شاء ، وإن عصيته خشيت أن يعذبني ، فاتقوا الله وارجعوا ، فأبوا ، فلما كان الغد غدوا عليه ، فجاء قنبر فقال : قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام . فقال : أدخلهم ، فقالوا كذلك ، فلما كان الثالث ، قال : لئن قلتم ذلك ، لأقتلنكم بأخبث قتلة ، فأبوا إلا ذلك ، فأمر علي - رضي الله عنه - أن يخد لهم أخدود بين المسجد والقصر ، وأمر بالحطب أن يطرح في الأخدود ويضرم بالنار ، ثم قال لهم : إني طارحكم فيها أو ترجعوا ، فأبوا أن يرجعوا ، فقذف بهم حتى إذا احترقوا ، قال :


      إني إذا رأيت أمرا منكرا     أوقدت ناري ودعوت قنبرا

      .

      قال الحافظ ابن حجر : إسناده صحيح .

      [ ص: 1180 ] ومنهم طائفة يعتقدون أن لا إله إلا علي ، وهم النصيرية الذين يقول شاعرهم الملعون ، قبحه الله :


      أشهد ألا إله إلا     حيدرة الأذرع البطين
      ولا سبيل إليه إلا     محمد الصادق الأمين
      ولا حجاب عليه إلا     سلمان ذو القوة المتين

      .

      منهم من يدعي فيه الرسالة ، وأن جبريل خانها ، فنزل بها على محمد - صلى الله عليه وسلم .

      ومنهم من يدعي فيه العصمة ، ويرى خلافة أبي بكر وعمر وعثمان باطلة ، ويشتمون طلحة والزبير وعائشة ، ويرمونها بما رماها به ابن سلول ، قبحهم الله .

      ومنهم من يدعي أنه رفع إلى السماء كما رفع عيسى ، وسينزل كما ينزل عيسى ، وهم أصحاب الرجعة .

      ومنهم من يدعي أنه وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمته ، وأنه عهد إليه ما يعهده إلى غيره ، وبلغه ما كتمه الناس ، وغير ذلك من فرقهم الضالة ، وشيعهم الخاطئة .

      وأما الزيدية الذين يدعون أنهم أصحاب زيد بن علي وأتباعه ، فهؤلاء لا يشتمون الشيخين ولا عائشة ولا سائر العشرة ، ولكنهم يفضلون عليا - رضي الله عنه ، ويقدمونه في الخلافة ، ثم أبا بكر ، ثم عمر ، ثم يسكتون ، عن عثمان - رضي الله عنه ، ويحطون على معاوية ، غفر الله له .

      هذا الذي وقفنا في بعض رسائلهم ، ثم رأيت في بعضها السكوت عن [ ص: 1181 ] أبي بكر وعمر ، فلا يذكرونهما بخير ولا شر ، ولا بخلافة ولا غيرها ، ثم يحصرون الخلافة في علي - رضي الله عنه - وذريته ، ففرقة تدعي عصمتهم ، وأخرى لا تدعي ذلك ، والمقصود أنهم فرق كثيرة ، متفاوتون في أقوالهم وأفعالهم واعتقاداتهم ، وأخفهم بدعة الزيدية .

      هذا في شأن البيت ، طهرهم الله تعالى ، وأما في مسألة الصفات والقرآن والقدر ، والوعد والوعيد ، وسائر المعتقدات ، فقد دهى كل فرقة منهم ما دهي غيرهم من الناس ، ولكن المشهور من غالبهم الاعتزال ، واعتمادهم كتب العلاف والجبائي وأشباهه .

      والزيدية عمدتهم في تفسير القرآن كشاف الزمخشري ، وقد شحنه بقول القدرية والمعتزلة ، وهم أخف وأهون ممن يكفر بكثير من القرآن بالكلية نعوذ بالله ، ومحل بسط مقالاتهم وفرق ضلالاتهم كتب المقالات .

      هذا ، وقد قال علي - رضي الله عنه - في تفضيل أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ما قدمناه في الصحيح ، وفي كتاب السنة عن علقمة في خطبة علي - رضي الله عنه - على منبر الكوفة : ألا إنه بلغني أن قوما يفضلونني على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما ، ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت فيه ، ولكن أكره العقوبة قبل التقدم ، من قال شيئا من ذلك ، فهو مفتر ، عليه ما على المفتري ، وخير الناس كان بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ، ثم أحدثنا بعدهم أحداثا يقضي الله فيها ما شاء .

      وهذا الكلام مشهور عنه من طرق لا تحصى ; لأنه - رضي الله عنه ، وكرم الله وجهه - كان يجهر به ، ويظهره في المحافل وعلى المنابر ، ويذم الرافضة كثيرا ، وقد جلد من قيل له إنه تكلم في عرض أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها ، جلده مائة ، وكان من أشد الناس على الرافضة ، وأسطاهم بهم ، رضي الله عنه .

      [ ص: 1182 ] ( من كان ) بمعنى صار ( للرسول ) - صلى الله عليه وسلم - ( في مكان ) أي منزلة ( هارون من موسى ) - عليهما السلام - في الاستخلاف ، فموسى استخلف هارون في مدة الميعاد ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - استخلف عليا في غزوة تبوك ، ففي الصحيحين ، عن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟

      وفيها من رواية مصعب بن سعد ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك ، واستخلف عليا - رضي الله عنه - فقال : أتخلفني في الصبيان والنساء ؟ قال : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه ليس بنبي بعدي . هذا الاستثناء يزيل الإشكال من الرواية الأولى ، ويخصص عموم المنزلة بخصوص الأخوة ، والاستخلاف في أهله فقط لا في النبوة كمشاركة هارون لموسى فيها ، إذ يقول الله تعالى لموسى : اشدد به أزري وأشركه في أمري ( طه 31 ) وقال لهما : فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ( الشعراء 16 ) ولهذا قلنا في المتن ( لا في نبوة ) لمنزلة هارون من موسى فيها ، فلا تتوهم ذلك من اقتصاري على الرواية الأولى ، ( فقد قدمت ) في فصل النبوة ( ما يكفي ) في هذا الباب ( لمن من سوء ظن ) بأخيه المسلم ( سلما ) وهو قولي :


      وكل من من بعده قد ادعى     نبوة فكاذب فيما ادعى

      .

      وما بعده ، وفي الصحيحين في تفسير قول الله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم ( الحج 19 ) عن قيس بن عدي ، عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه كان يقسم فيها أن هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه ، وعتبة وصاحبيه ، برزوا في يوم بدر .

      [ ص: 1183 ] وفيهما عنه ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة . قال قيس : وفيهم نزلت هذان خصمان اختصموا في ربهم ( الحج 19 ) قال : هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة .

      وفيهما عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله . قال : فبات الناس يدركون ليلتهم أيهم يعطاها ، فلما أصبح الناس ، غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل : هو يا رسول الله يشتكي عينيه . قال : فأرسلوا إليه ، فأتي به ، فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ، ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، فقال علي : يا رسول الله ، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا ، خير لك من أن تكون لك حمر النعم .

      وعن سلمة بن الأكوع نحوه مختصرا ، ونحوه عند مسلم أيضا ، وفيهما عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه أن رجلا جاء إلى سهل بن سعد فقال : هذا فلان لأمير المدينة يدعو عليا عند المنبر . قال : ماذا يقول له ؟ قال : يقول أبو تراب . فضحك ، وقال : والله ما سماه إلا النبي - صلى الله عليه وسلم ، وما كان له اسم أحب إليه منه ، فاستطعمت الحليب سهلا ، وقلت : يا أبا العباس ، كيف قال " دخل علي - رضي الله [ ص: 1184 ] عنه - على فاطمة ، ثم خرج فاضطجع في المسجد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : أين ابن عمك ؟ قالت : في المسجد . فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره ، وخلص إلى ظهره ، فجعل يمسح التراب عن ظهره ، فيقول : اجلس يا أبا تراب . مرتين .

      وفي رواية مسلم ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : استعمل على المدينة رجل من آل مروان ، قال : فدعا سهل بن سعد ، فأمره أن يشتم عليا ، قال : فأبى سهل . فقال له : أما إذا أبيت ، فقل : لعن الله أبا تراب ، فقال سهل : ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب ، وإن كان ليفرح إذا دعي به . فقال له : أخبرنا عن قصته أسمي أبا تراب ؟ فذكره .

      وفي صحيح البخاري ، عن سعيد بن عبيدة قال : جاء رجل إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - فسأله عن عثمان ، فذكر من محاسن عمله وقال : لعل ذلك يسوءك ؟ قال : نعم . قال : فأرغم الله بأنفك . ثم سأله عن علي ، فذكر محاسن عمله ، وقال : هو ذاك بيته ، أوسط بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : لعل ذاك يسوءك ؟ قال : أجل . قال : فأرغم الله بأنفك ، انطلق وأجهد علي جهدك .

      وفيهما عن ابن أبي ليلى قال : حدثنا علي - رضي الله عنه - أن فاطمة - عليها السلام - شكت ما تلقى من أثر الرحى ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي ، فانطلقت فلم تجده ، فوجدت عائشة - رضي الله عنها - فأخبرتها ، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا ، وقد أخذنا مضاجعنا ، فذهبت لأقوم ، فقال : على مكانكما ، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري ، وقال : ألا أعلمكما خيرا مما سألتماني ؟ إذا أخذتما مضاجعكما ، تكبران أربعا وثلاثين ، وتسبحان ثلاثا [ ص: 1185 ] وثلاثين ، وتحمدان ثلاثا وثلاثين ، فهو خير لكما من خادم .

      وفي البخاري ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي - رضي الله عنه - قال : اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت ، كما مات أصحابي ، فكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروى عن علي - رضي الله عنه - الكذب .

      قلت : وأكثر ما يكذب على علي - رضي الله عنه - الرافضة الذين يدعون مشايعته ، ونشر فضائله ومثالب غيره من الصحابة ، فيسندون ذلك إليه - رضي الله عنه - وهو بريء منهم ، وهم أعدى عدو له .

      وفي الصحيحين من طرق عنه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لا تكذبوا علي ، فإنه من كذب علي فليلج النار .

      وفي فضائله - رضي الله عنه - من الأحاديث الصحاح والحسان ما يغني عن أكاذيب الرافضة ، وهم يجهلون غالب ما له من الفضائل فيها .

      وفي صحيح مسلم ، عن عامر بن سعيد بن أبي وقاص ، عن أبيه - رضي الله عنه - قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا ، فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ فقال : أما ما ذكرت ، فثلاث قالهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن تكون لي واحدة منهن ، أحب إلي من حمر النعم ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له ، وقد خلفه في مغازيه ، فقال له علي - رضي الله عنه : يا رسول الله ، خلفتني مع النساء والصبيان ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه لا نبوة بعدي . وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، قال : فتطاولنا لها ، قال : [ ص: 1186 ] ادعوا لي عليا ، فأتي به أرمد ، فبصق في عينيه ودفع إليه الراية ليلة فتح الله عليه ، ولما نزلت هذه الآية فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ( آل عمران 61 ) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي .

      وفي صحيح مسلم ، عن زر قال : قال علي - رضي الله عنه : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إنه لعهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق .

      والأحاديث في فضله كثيرة جدا ، وقد تقدم الحديث في الإشارة إلى خلافته - رضي الله عنه - في رؤيا الرجل الصالح ، الدلو التى شرب منها أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، ثم جاء علي ، وأخذ بعراقيها فانتشطت ، وانتضح عليه منها شيء ، وكان تأويل ذلك ما أصابه - رضي الله عنه - من اختلاف الناس عليه ، والفتن الهائلة ، والدماء المهرقة ، والأمور الصعاب ، والأسلحة المسلولة بين المسلمين بسبب السبئية ، ومن وافقهم من أهل الأمصار على قتل عثمان ، وكان غالبهم منافقين ، وقليل منهم من أبناء الصحابة مغرورون ، فحصل من ذلك في يوم الجمل وصفين وغيرهما وقائع يطول ذكرها .

      فأما وقعة الجمل فكانت بمحض فعل السبئية - قبحهم الله تعالى - ليس باختيار علي - رضي الله عنه - ولا طلحة ، ولا الزبير ، ولا أم المؤمنين - رضي الله عنهم - بل بات الفريقان متصالحين بخير ليلة ، فتواطأ أهل الفتنة ، وتمالئوا على أن يفرقوا بين الفريقين ، وينشبوا الحرب بين الفئتين من الغلس ، فثار الناس من نومهم إلى السلاح ، فلم يشعر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالرءوس تندر ، والمعاصم تتطاير ، ما يدرون ما الأمر حتى عقر الجمل ، وانكشف الحال عن عشرة آلاف قتيل ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

      [ ص: 1187 ] وإنما أنشب أهل الفتنة الحرب بين الفريقين ; لعلمهم أنهما إن تصالحا دارت الدائرة عليهم ، وأخذوا بدم عثمان ، وأقيم عليهم كتاب ، فقالوا نشغلهم بأنفسهم ، وكان أمر الله قدرا مقدورا .

      وأما في قتاله أهل الشام ، فكانوا هم مع معاوية ، وكان هو - رضي الله عنه - متأولا يطلب بدم عثمان ، ويرى أنه وليه ، وإن قتلته في جيش علي ، فكان معذورا في خطئه بذلك ، وأما علي - رضي الله عنه - فكان مجتهدا مصيبا وفالجا محقا ، يريد جمع كلمة الأمة حتى إذا كانوا جماعة ، وخمدت الفتن ، وطفئت نارها ، أخذ بالحق من قتلة عثمان ، وكان - رضي الله عنه - أعلم بكتاب الله من المطالبين بدم عثمان ، وكان السبئية يخافونه أعظم من خصمائه ، وذلك الذي حملهم على ما فعلوه يوم الجمل ، فكان أهل الشام بغاة اجتهدوا فأخطئوا ، وعلي - رضي الله عنه - يقاتلهم ليرجعوا إلى الحق ، ويفيئوا إلى أمر الله ، ولهذا كان أهل بدر الموجودون على وجه الأرض كلهم في جيشه ، وعمار قتل معه - رضي الله عنه - كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد في بناء المسجد ، فقال : كنا نحمل لبنة لبنة ، وعمار لبنتين ، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فينفض التراب عنه ، ويقول : ويح عمارا تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار . قال : يقول عمار : أعوذ بالله من الفتن .

      فقتله أهل الشام مصداق ما أخبرهم به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعوهم إلى الجماعة والائتلاف ، وإلى طاعة الإمام التى هي من أسباب دخول الجنة ، ويدعونه إلى الفتنة والفرقة التي هي من أسباب دخول النار ، وكان علي - رضي الله عنه - أسعد منهم ، وأولاهم بالحق لقتله الخوارج بالنهروان ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم : تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ، كما قدمنا .

      وفي سنن أبي داود ، عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : بعثني عمر إلى الأسقف فدعوته ، فقال له عمر : وهل تجدني في الكتاب ؟ قال : [ ص: 1188 ] نعم . قال : كيف تجدني ؟ قال : أجدك قرنا ، فرفع عليه الدرة ، فقال : قرن مه ؟ فقال : قرن حديد ، أمين شديد . قال : كيف تجد الذي يجيء من بعدي ؟ فقال : أجده خليفة صالحا ، غير أنه يؤثر قرابته . قال عمر : يرحم الله عثمان ، ثلاثا . فقال : كيف تجد الذي بعده ؟ قال : أجده صدأ حديد ، فوضع عمر يده على رأسه ، فقال : يا دفراه يا دفراه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه خليفة صالح ، ولكنه يستخلف حين يستخلف ، والسيف مسلول ، والدم مهراق . وكان الأمر كما أخبر .

      وكان - رضي الله عنه - أيام خلافته على طريق الحق والاستقامة ، والتمسك بكتاب الله وهدي محمد - صلى الله عليه وسلم - مجتهدا في جمع شمل الأمة ، واطفاء الفتن ، والتذفيف على أهل البدع حتى اعتدى على حياته - رضي الله عنه - الشقي ابن ملجم الخارجي ، قبحه الله .

      وقد فعل ذلك يوم الجمعة في وقت الفجر ، وهو يقول : الصلاة الصلاة ، فمكث يوم الجمعة وليلة السبت ، وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربعين عن ثلاث وستين سنة ، فكانت مدة خلافته كلها أربع سنين وتسعة أشهر إلا ليال ، وهو يومئذ أفضل من على وجه الأرض بالإجماع .

      وذلك مصداق ما روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، وغيرهما ، عن سفينة أبي عبد الرحمن مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الخلافة ثلاثون سنة ، ثم تكون بعد ذلك ملكا . قال سفينة : فخذ سنتي أبي بكر ، وعشر عمر ، واثنتي عشرة عثمان ، وست علي ، رضي الله عنهم أجمعين .

      قلت : سفينة - رضي الله عنه - حذف الزائد والناقص عن السنين من الأشهر على ما جرت به عادات العرب في حذف الكسور في الحساب ، وعلى ما قدمنا ضبطه [ ص: 1189 ] فأيام كل منهم لا تكمل ثلاثين إلا بخلافة الحسن بن علي - رضي الله عنه ، وهي ستة أشهر ، ثم أصلح الله به الفئتين من المسلمين كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم ، وولي معاوية بذلك ، واجتمع الناس عليه ، وكان ذلك العام يسمى عام الجماعة ، وكان معاوية - رضي الله عنه - أول ملوك الإسلام وخيرهم .

      وروى الإمام أحمد ، عن علي - رضي الله عنه - قال : سبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى أبو بكر ، وثلث عمر ، ثم خبطتنا بعده فتنة ، فهو ما شاء الله ، وفي رواية : يقضي الله فيها ما يشاء .

      وله عنه - رضي الله عنه - قال : ليحبني قوم حتى يدخلوا النار في حبي ، وليبغضني قوم حتى يدخلوا النار في بغضي .

      وله عنه - رضي الله عنه - قال : يهلك في رجلان : مفرط غال ، ومبغض . قال : وله عنه - رضي الله عنه - قال : يهلك في رجلان : محب مفرط ، ومبغض مفتر .

      وله عن الشعبي ، عن علقمة قال : أتدري ما مثل علي في هذه الأمة ؟ قال : قلت : وما مثله ؟ قال : مثله كمثل ابن مريم ، أحبه قوم حتى هلكوا في حبه ، وأبغضه قوم حتى هلكوا في بغضه .

      وقد روى عبد الله بن أحمد هذا المعنى مسندا ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن فيك من عيسى مثلا ، أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه ، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به ، ألا وإنه يهلك في اثنان : محب مفرط يقرظني بما ليس في ، ومبغض مفتر يحمله شنآني [ ص: 1190 ] على أن بهتني ، ألا وإني لست بنبي ولا موصى إلي ، ولكن أعمل بكتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما استطعت ، فما أمرتكم به من طاعة الله ، فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم .

      وكان - رضي الله عنه - يخبر أصحابه بولاية معاوية - رضي الله عنه - ويقول : لا تكرهوا إمارة معاوية ، والذي نفسي بيده ، ما بينكم وبين أن تنظروا إلى جماجم الرجال تندر عن كواهلهم كأنها الحنظل إلا أن يفارقكم معاوية .

      وكان أحمد بن حنبل - رحمه الله - يقول : لا أعلم أحدا يحفظ من الفضائل في الأحاديث الصحاح ما يحفظ لعلي - رضي الله عنه - وعن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعين .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية