الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الثالث : أن الرجل لو قرأ بعض مصنفات في النحو والطب أو غيرهما أو قصيدة من الشعر ، كان من أحرص الناس على فهم معنى ذلك وكان من أثقل الأمور عليه قراءة كلام لا يفهمه ، فإذا كان السابقون يعلمون أن هذا كتاب الله وكلامه الذي أنزله إليهم وهداهم به وأمرهم باتباعه ، فكيف لا يكونون أحرص الناس على فهمه ومعرفة معناه من جهة العادة العامة والعادة الخاصة ، ولم يكن للصحابة كتاب يدرسون وكلام محفوظ يتفقهون فيه إلا القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك .

قال البخاري : كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم ، ولم يكن بينهم رأي ولا قياس ، ولم يكن الأمر بينهم كما هو في المتأخرين : قوم يقرءون القرآن ولا يفهمونه ، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه ، وآخرون يشتغلون في علوم أخر وصنعة اصطلاحية ، بل كان القرآن عندهم هو العلم الذي يعتنون به حفظا وفهما وعملا وتفقها ، وكانوا أحرص الناس على ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، وهو يعلم تأويله ويبلغهم إياه كما يبلغهم لفظه .

فمن الممتنع أن يكونوا يرجعون إلى غيره في ذلك ، ومن الممتنع أن لا يعلمهم إياه وهم أحرص الناس على كل سبب ينال به العلم والهدى ، وهو أحرص الناس على تعلمهم وهدايتهم ، بل كان أحرص الناس على هداية الكفار كما قال تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وكان أعلم الناس بتفاصيل الأسماء [ ص: 537 ] والصفات وحقائقها ، وكان أفصح الناس في التعبير عنها وإيضاحها وكشفها بكل طريق كما يفعله بإشارته وحاله كما في الصحيح عن عمر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى " وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض يده ويبسطها يحكي ربه تبارك وتعالى تحقيقا لإثبات اليد وصفة القبض والبسط ، لا تشبيها وتمثيلا ، وقال سعيد بن جبير : سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا فوضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه وقال هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويضع أصبعه ، رواه أبو داود وغيره ، وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( آخر من يدخل الجنة رجل . . . ) فذكر الحديث وفيه قالوا : لم ضحكت يا رسول الله ؟ قال : " لضحك الرب منه حتى قال أتهزأ بي وأنت رب العالمين " .

وفي حديث عبيد الله بن مقسم أنه رأى ابن عمر حين حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يأخذ الله سماواته وأرضه بيده فيقول أنا الله فيقبض أصابعه ويبسطها " وفي لفظ : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يحكي ربه .

وفي حديث نافع عن ابن عمر يرفعه " يأخذ الله السماوات والأرض فيدحوها بها كما يدحى بالكرة " ما زال يقولها حتى رجف به المنبر .

وقال ابن وهب حدثنا أسامة بن زيد عن أبي حازم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على المنبر يخطب فقال : " يأخذ الله سماواته وأرضه فيجعلهما في كفه ثم يقول بهما هكذا كما يقول الغلام بالكرة : أنا الله الواحد العزيز " .

[ ص: 538 ] وفي الباب حديث أبي الضحى عن ابن عباس : مر يهودي فقال : يا أبا القاسم ، ما تقول إذا وضع الجبار السماء على هذه ، والأرض على هذه . . . الحديث .

وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لقلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء قال به هكذا " وأومأ بيده " وإذا شاء قال به هكذا " وأومأ بيده .

وفي حديث ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( فلما تجلى ربه للجبل ) وأشار أنس بطرف إصبعه على أول بنان من الخنصر ، وكذلك أشار ثابت ، فقال له حميد : " ما تريد بهذا يا أبا محمد ؟ " فرفع ثابت يده فضرب بها صدره ضربة شديدة وقال : " من أنت يا حميد ؟ يحدثني أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول أنت ما تريد بهذا ؟ " ورواه عبد الله بن أحمد حدثني أبي قال : " حدثنا معاذ فذكره ، قال أحمد : يعني إنما أخرج طرف الخنصر وأراناه معاذ " ، وقال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سألت ربي الشفاعة لأمتي فقال : لك سبعون ألفا بغير حساب ، قلت : رب زدني ، قال : فإن لك هكذا وهكذا ، وحثى بين يديه وعن يمينه وعن شماله "

وقال أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم بيده خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة " ومن هذا حديث الأطيط ، وقوله : " إن كرسيه وسع السماوات والأرض ، وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه قدر أربع أصابع ، وإن له أطيطا كأطيط الرحل إذا ركب من ثقله " وقال عمر بن الخطاب : إذا جلس الرب عز وجل على الكرسي سمع له أطيط الرحل الجديد ، فاقشعر رجل عند وكيع وهو يرويه فغضب وقال : أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها .

[ ص: 539 ] ومن ذلك قوله : " إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر صحوا ليس دونه سحاب " تحقيقا لثبوت الرؤية ونفيا لاحتمال ما يوهم خلافها ، فأتى بغاية البيان والإيضاح ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها حتى يئس منها ، فاضطجع في أصل شجرة فرأى راحلته عليها طعامه وشرابه ، فقام فأخذها فجعل يقول من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح " هذه ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " كيف ترون فرح هذا براحلته ؟ " قالوا : " عظيما يا رسول الله " ، قال : " فوالله لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته " .

فهذا الكشف والبيان والإيضاح لا مزيد عليه تقرير لثبوت هذه الصفة ، ونفي الإجمال والاحتمال عنها .

وكذلك قوله في حديث النداء : ( فيناديهم بصوت ) فذكر الصوت تحقيقا لصفة النداء وتقريرا ، ولو لم يذكره لدل عليه لفظ النداء ، كما لو قيل : يعلم بعلم ويقدر بقدرة ويبصر ببصر ، وهذا ونحوه إنما يراد به تحقيق الصفة وإثباتها ، لا تشبيه الموصوف وتمثيله ، كما أن قوله ليس كمثله شيء إنما سبق لإثبات الصفات وعظمتها لا لنفيها كما قال عثمان بن سعيد الدارمي في قوله ليس كمثله شيء قال معناه هو أحسن الأشياء وأجملها ، وقالت الجهمية : معناه ليس هناك شيء .

ومن هذا حديث الصورة وقوله : " خلق آدم على صورة الرحمن " لم يرد به تشبيه الرب وتمثيله بالمخلوق ، وإنما أراد به تحقيق الوجه وإثبات السمع والبصر والكلام صفة ومحلا ، والله أعلم .

الوجه الرابع : أنهم كانوا يسألونه عما يشكل عليهم من الصفات فيجيبهم بتقريرها ، لا بالمجاز والتأويل الباطل ، كما سأله أبو رزين العقيلي عن صفة الضحك لما قال : [ ص: 540 ] " ينظر إليكم آزلين مشفقين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب " فتعجب أبو رزين من ضحك الرب تعالى وقال : " يا رسول الله أويضحك الرب ؟ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " . فقال : " لن نعدم من رب يضحك خيرا " ، والجهمي لو سئل عن ذلك لقال لا يجوز عليه الضحك كما لا يجوز عليه الاستواء والنزول والإتيان والمجيء .

وكذلك لما أخبرهم رسول الله عن رؤية الرب تعالى فهموا منها رؤية العيان لا مزيد العلم ، كما استشكل بعضهم ذلك وقال : يا رسول الله كيف يسع الخلائق وهو واحد ونحن كثير ؟ وهذا السائل أبو رزين أيضا ، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهمه وقال : سأخبرك بمثل ذلك في آلاء الله ، أليس كلكم يرى القمر مخليا به ؟ قال : بلى ، قال : فالله أكبر ، وهذا يدل على أن القوم إنما أحيلوا في إثبات ذلك على ما دل عليه اللفظ وعلى ما بينه لهم من أنزل عليه الوحي لا على رأي جهم وجعد ، والنظام والعلاف والمريسي وتلامذتهم ، ولا على غير ما يتبادر إلى أفهامهم من لغاتهم وخطابهم ، كان يقرر لهم ذلك ويقربه من أفهامهم بالأمثال والمقاييس العقلية تقريرا لحقيقة الصفة .

الوجه الخامس : أن الصحابة قد سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الكثيرة ، ورأوا منه من الأحوال المشاهدة ، وعلموا بقلوبهم من مقاصده ودعوته ما يوجب فهم ما أراد بكلامه ما يتعذر على من بعدهم مساواتهم فيه ، فليس من سمع وعلم ورأى حال المتكلم ، كمن كان غائبا لم ير ولم يسمع ، أو سمع وعلم بواسطة أو وسائط كثيرة ، وإذا كان للصحابة من ذلك ما ليس لمن بعدهم كان الرجوع إليهم في ذلك دون غيرهم متعينا قطعا .

ولهذا قال الإمام أحمد : أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان اعتقاد الفرقة الناجية هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، كما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله : " من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي " فثبت بهذه الوجوه القاطعة عند أهل البصائر ، وإن كانت دون الظنية عند عمى القلوب أن الرجوع إليهم في تفسير القرآن الذي هو تأويله الصحيح [ ص: 541 ] المبين لمراد الله هو الطريق المستقيم ، ولهذا نص الإمام أحمد على أنه يرجع إلى الواحد من الصحابة في تفسير القرآن إذا لم يخالفه غيره منهم ، ثم من أصحابه من يقول : هذا قول واحد ، وإن كان في الرجوع في الفتيا والأحكام إليه روايتان ، ومنهم من يقول : الخلاف في الموضعين واحد ، وطائفة من أهل الحديث يجعلون تفسيره في حكم الحديث المرفوع .

قال أبو عبد الله الحاكم في مستدركه : تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع .

ثم من المعلوم أن التابعين بإحسان أخذوا ذلك عن الصحابة وتلقوه منهم ولم يعدلوا عما بلغهم إياه الصحابة ، فإذا كان ذلك يوجب الرجوع إلى الصحابة والتابعين ، فكيف بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله .

وأما الطريق الثاني فمن وجوه :

أحدها : أن من لم يرجع إلى الصحابة والتابعين في نقل معاني القرآن كما يرجع إليهم في نقل حروفه ، وإلى لغتهم وعادتهم في خطابهم ، فلا بد أن يرجع في ذلك إلى لغة مأخوذة من غيرهم ؛ لأن فهم الكلام موقوف على معرفة اللغة ، وهاهنا خمس درجات .

الدرجة الأولى : أن يباشر عربا غيرهم فيسمع لغتهم ويعرف مقاصدهم ويقيس معاني ألفاظ القرآن على معاني تلك الألفاظ ، وهذا إنما يستقيم إذا سلم اللفظ في الموضعين من احتمال المعاني المختلفة ، وأن يكون المراد من أحد المتكلمين به مثل المراد به من المتكلم الآخر ، وغايته فيه القياس ، وهو موقوف على اتحاد المعنيين في الكلامين .

ومن المعلوم أن جنس ما دل عليه القرآن ليس من جنس ما يتخاطب به الناس وإن كان بينهما قدر مشترك ، فإن الرسول جاءهم بمعان غيبية لم يكونوا يعرفونها ، وأمرهم بأفعال لم يكونوا يعرفونها ، فإذا عبر عنها بلغتهم كان بين معناه وبين معاني تلك الألفاظ قدر مشترك ، ولم تكن مساوية بها ، بل تلك الزيادة التي هي من خصائص النبوة لا تعرف إلا منه ، ولهذا يسمي كثير من الناس هذه الألفاظ حقائق عقلية شرعية باعتبار تلك الخصائص داخلة في مسماها ، وهي لا تعلم إلا بالشرع ، وبعضهم يجعلها مجازات لغوية لأجل تلك العلاقة التي بين تلك الخصائص وبين المعاني اللغوية ، وبعضهم يجعلها متواطئة باعتبار القدر المشترك بينهما ، وإن كان الشرع خصصها ببعض [ ص: 542 ] محالها ، كما يقع التخصيص لغة وعرفا فالتخصيص يكون لغويا تارة وعرفيا تارة ، فهي لم تنقل عن معانيها اللغوية بالكلية ، ولم تبق على ما هي عليه من أصل الوضع ، بل خصت تخصيصا شرعيا ببعض مواردها ، كما خص بعض الألفاظ تخصيصا عرفيا ببعض موارده ، ولا يسمى مثل هذا نقلا ولا اشتراكا ولا مجازا ، وإن سمي بذلك ، فليس الشأن في التسمية وبعود النزاع لفظيا .

الدرجة الثانية : أن يسمع اللغة ممن نقل الألفاظ عن العرب نظما ونثرا وكل ما يعتري نقل الحديث من الآفات فهو هنا أكثر ، وهذا أمر معلوم لمن كان خبيرا بالواقع فيرد على نقل اللغة ومعرفة مراد المتكلم من ألفاظها أكثر مما يرد على نقل الحديث ومعرفة مراد الرسول به ؛ لأن الهمم والدواعي توفرت على نقل كلام الله سبحانه ورسوله وفهم معانيه ما لم تتوفر على كلام غيره وفهم معانيه ، مع تكفل الله سبحانه بحفظه وبيانه .

الدرجة الثالثة : أن يسمع اللغة بمن سمع الألفاظ وذكر أنه فهم معناها من العرب كالأصمعي وابن الأعرابي وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم ممن سمع من الأعراب ، ومن هذا الباب كتب اللغة التي يذكرون فيها معاني كلام العرب ، ومعلوم أن هذا يرد عليه أكثر مما يرد على من سمع الكلام النبوي من صاحبه وقال إنه فهم معناه وبينه لنا بعبارته .

الدرجة الرابعة : أن ينقل إليه كلام هؤلاء الذين ذكروا أنهم سمعوا كلام العرب ، ومن المعلوم أنه يرد على هذا من الأسئلة أكثر مما يرد على نقل الحديث ومعناه .

الدرجة الخامسة : أن اللغة بقياس نحوي أو تصرفي قد يدخله تخصيص لمعارض راجح ، وقد يكون فيه فرق لم يتفطن له واضع القياس القانوني ، ومعلوم أن الذي يرد على هذا أكثر من الذي يرد على من ذكر قبله .

وإذا كان الأمر كذلك : فمن لم يأخذ معاني الكتاب والسنة من الصحابة والتابعين ومن أخذ عنهم لم يكن له طريق أصلا إلا ما ذكرناه من هذه الطرق التي يرد عليها أضعاف ما يرد على هذه الطريق ، ولا يجوز ترجيح تلك الطرق عليها فيلزمه أحد أمرين : إما أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ويعدل عن الطريق التي فيها من العلوم اليقينية والأمور الإيمانية ما لا يوجد في غيرها ، إلى ما هو دونها في ذلك كله ، بل يستبدل باليقين شكا ، وبالظن الراجح وهما ، والإيمان كفرا ، وبالهدى ضلالا ، [ ص: 543 ] وبالعلم جهالة ، وبالبيان عيا ، وبالعدل ظلما ، وبالصدق كذبا ، ويحمل كلام الله ورسوله على مجازه تحريفا للتكلم عن مواضعه ، ويسميه تأويلا لتقبله النفوس الجاهلة بحقائق الإيمان والقرآن ، وإما أن يعرض عن ذلك كله ، ولا يجعل للقرآن مفهوما ، وقد أنزله تعالى بيانا وهدى وشفاء لما في الصدور .

قال تعالى في أصحاب الطريقين : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ثم قال في أهل الطريق الثاني : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ثم قال في المصنفين ما لا يعلم أن الرسول قاله وجاء به يعلم أن الرسول جاء بخلافه : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله الآية .

فهذه الطريق المذمومة التي سلكها علماء اليهود ، وقد سلكها أشباههم من هذه الأمة تحقيقا لقول الصادق المصدوق : " لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع " وفي لفظ آخر " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " وكثير من هؤلاء الأشباه يحرفون كلام الله ويكتمونه ، لئلا يحتج به عليهم في خلاف أهوائهم ، فتارة يغل كتب الآثار التي فيها كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام أصحابه والتابعين وأئمة السنة ويمنع من إظهارها ، وربما أعدمها ، وربما عاقب من كتبها أو وجدها عنده كما شاهدناه منهم عيانا ، وكثير من هؤلاء يمنع من تبليغ الأحاديث النبوية وتفسير القرآن بالآثار والأخبار ، حتى إذا جاءت تفاسير الجهمية والمعتزلة ونحوهم بالغ في مدحها وقال : إن التحقيق فيها ، ما لم يمكنهم منعه من الكتاب والسنة وكتمانه سطوا عليه بالتحريف وتأولوه على غير تأويله ، ثم يعتمدون على آثار موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه موافقة لأهوائهم وبدعهم ، فيقولون هذا من عند الله ، ويحتجون به ويضعون قواعد ابتدعوها وآراء اخترعوها ، ويسمونها أصل الدين وهي أضر شيء على الدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية