الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : وهو على ثلاث درجات . الدرجة الأولى : ذوق التصديق طعم العدة . فلا يعقله ظن ، ولا يقطعه أمل . ولا تعوقه أمنية .

يريد : أن العبد المصدق إذا ذاق طعم الوعد من الله على إيمانه وتصديقه وطاعته : ثبت على حكم الوعد واستقام .

" فلم يعقله ظن " أي لم يحبسه ظن ، تقول : عقلت فلانا عن كذا ، أي منعته عنه وصددته ، ومنه عقال البعير ، لأنه يحبسه عن الشرود . ومنه : العقل . لأنه يحبس صاحبه عن فعل ما لا يحسن ولا يجمل . ومنه : عقلت الكلام ، وعقلت معناه : إذا حبسته في صدرك وحصلته في قلبك ، بعد أن لم يكن حاصلا عندك . ومنه : العقل للدية . لأنها تمنع آخذها من العدوان على الجاني وعصبته .

والمقصود : أن ذوق طعم الإيمان بوعد الله يمنع الذائق أن يحبسه ظن عن الجد في الطلب ، والسير إلى ربه . والظن هو الوقوف عن الجزم بصحة الوعد والوعيد ، بحيث لا يترجح عنده جانب التصديق .

وكأن الشيخ يقول : الذائق بالتصديق طعم الوعد ، لا يعارضه ظن يعقله عن صدق الطلب ، ويحبس عزيمته عن الجد فيه . وفي حديث سيد الاستغفار قوله وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أي مقيم على التصديق بوعدك ، وعلى القيام بعهدك ، بحسب استطاعتي .

والحامل على هذه الإقامة والثبات : ذوق طعم الإيمان ، ومباشرته للقلب . ولو [ ص: 91 ] كان الإيمان مجازا - لا حقيقة - لم يثبت القلب على حكم الوعد ، والوفاء بالعهد . ولا يفيد في هذا المقام إلا ذوق طعم الإيمان . وثوب العارية لا يجمل لابسه . ولا سيما إذا عرف الناس أنه ليس له ، وأنه عارية عليه ، كما قيل :


ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا اشتملت به فإنك عاري

وكان بعض الصحابة يكثر التلبية في إحرامه ، ثم يقول لبيك ، لو كان رياء لاضمحل وقد نفى الله تعالى الإيمان عمن ادعاه . وليس له فيه ذوق . فقال تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .

فهؤلاء مسلمون ، وليسوا بمؤمنين . لأنهم ليسوا ممن باشر الإيمان قلبه ، فذاق حلاوته وطعمه . وهذا حال أكثر المنتسبين إلى الإسلام . وليس هؤلاء كفارا . فإنه سبحانه أثبت لهم الإسلام بقوله ولكن قولوا أسلمنا ولم يرد : قولوا بألسنتكم ، من غير مواطأة القلب . فإنه فرق بين قولهم آمنا وقولهم أسلمنا ، ولكن لما لم يذوقوا طعم الإيمان ، قال : لم تؤمنوا . ووعدهم سبحانه وتعالى - مع ذلك - على طاعتهم أن لا ينقصهم من أجور أعمالهم شيئا .

ثم ذكر أهل الإيمان الذين ذاقوا طعمه ، وهم الذين آمنوا به وبرسوله . ثم لم يرتابوا في إيمانهم . وإنما انتفى عنهم الريب : لأن الإيمان قد باشر قلوبهم . وخالطتها بشاشته . فلم يبق للريب فيه موضع .

وصدق ذلك الذوق : بذلهم أحب شيء إليهم في رضا ربهم تعالى . وهو أموالهم وأنفسهم . ومن الممتنع : حصول هذا البذل من غير ذوق طعم الإيمان ، ووجود حلاوته . فإن ذلك إنما يحصل بصدق الذوق والوجد . كما قال الحسن ليس الإيمان بالتمني ، ولا بالتحلي ، ولكن ما وقر في القلب ، وصدقه العمل .

فالذوق والوجد : أمر باطن ، والعمل دليل عليه ومصدق له . كما أن الريب [ ص: 92 ] والشك والنفاق : أمر باطن . والعمل دليل عليه ومصدق له . فالأعمال ثمرات العلوم والعقائد . فاليقين : يثمر الجهاد ، ومقامات الإحسان . فعلى حسب قوته تكون ثمرته ونتيجته . والريب والشك : يثمر الأعمال المناسبة له . وبالله التوفيق .

قوله " ولا يقطعه أمل " أي من علامات الذوق : أن لا يقطع صاحبه عن طلبه أمر دنيا ، وطمع في غرض من أغراضها . فإن الأمل والطمع يقطعان طريق القلب في سيره إلى مطلوبه .

ولم يقل الشيخ : إنه لا يكون له أمل ، بل قال : لا يقطعه أمل . فإن الأمل إذا قام به ولم يقطعه : لم يضره ، وإن عوق سيره بعض التعويق . وإنما البلاء في الأمل القاطع للقلب عن سيره إلى الله .

وعند الطائفة : أن كل ما سوى الله ، فإرادته : أمل قاطع ، كائنا ما كان . فمن كان ذلك أمله ، ومنتهى طلبه : فليس من أهل ذوق الإيمان . فإنه من ذاق حلاوة معرفة الله والقرب منه ، والأنس به : لم يكن له أمل في غيره . وإن تعلق أمله بسواه ، فهو لإعانته على مرضاته ومحابه . فهو يؤمله لأجله ، ولا يؤمله معه .

فإن قلت : فما الذي يقطع به العبد هذا الأمل ؟

قلت : قوة رغبته في المطلب الأعلى ، الذي ليس شيء أعلى منه . ومعرفته بخسة ما يؤمل دونه ، وسرعة ذهابه . فيوشك انقطاعه . وأنه في الحقيقة كخيال طيف ، أو سحابة صيف . فهو ظل زائل ، ونجم قد تدلى للغروب . فهو عن قريب آفل . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لي وللدنيا ؟ إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها وقال ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر : بم ترجع ؟ فشبه الدنيا في جنب الآخرة بما يعلق على الإصبع من البلل حين تغمس في البحر .

قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لو أن الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها [ ص: 93 ] رجل ، ثم جاءه الموت : لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره . ثم استيقظ فإذا ليس في يده شيء .

وقال مطرف بن عبد الله - أو غيره - : نعيم الدنيا بحذافيره في جنب نعيم الآخرة : أقل من ذرة في جنب جبال الدنيا .

ومن حدق عين بصيرته في الدنيا والآخرة : علم أن الأمر كذلك .

فكيف يليق بصحيح العقل والمعرفة : أن يقطعه أمل من هذا الجزء الحقير عن نعيم لا يزول ، ولا يضمحل ؟ فضلا عن أن يقطعه عن طلب من نسبة هذا النعيم الدائم إلى نعيم معرفته ومحبته ، والأنس به ، والفرح بقربه ، كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة ؟ قال الله تعالى وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر فيسير من رضوانه - ولا يقال له يسير - أكبر من الجنات وما فيها .

وفي حديث الرؤية فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه وفي حديث آخر إنهم إذا رأوه - سبحانه - لم يلتفتوا إلى شيء مما هم فيه من النعيم ، حتى يتوارى عنهم .

فمن قطعه عن هذا أمل ، فقد فاز بالحرمان ، ورضي لنفسه بغاية الخسران ، والله المستعان . وعليه التكلان . وما شاء الله كان .

قوله " ولا تعوقه أمنية " الأمنية : هي ما يتمناه العبد من الحظوظ . وجمعها أماني . والفرق بينها وبين الأمل أن الأمل يتعلق بما يرجى وجوده . والأمنية : قد تتعلق بما لا يرجى حصوله . كما يتمنى العاجز المراتب العالية .

والأماني الباطلة : هي رءوس أموال المفاليس . بها يقطعون أوقاتهم ويلتذون [ ص: 94 ] بها ، كالتذاذ من زال عقله بالمسكر ، أو بالخيالات الباطلة .

وفي الحديث المرفوع الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت . والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

ولا يرضى بالأماني عن الحقائق إلا ذوو النفوس الدنيئة الساقطة . كما قيل :


واترك منى النفس لا تحسبه يشبعها     إن المنى رأس أموال المفاليس

.

وأمنية الرجل تدل على علو همته وخستها . وفي أثر إلهي " إني لا أنظر إلى كلام الحكيم ، وإنما أنظر إلى همته " والعامة تقول : قيمة كل امرئ ما يحسنه . والعارفون يقولون : قيمة كل امرئ ما يطلب .

التالي السابق


الخدمات العلمية