الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثانية : ذوق الإرادة طعم الأنس . فلا يعلق به شاغل . ولا يفسده عارض . ولا تكدره تفرقة .

الإرادة وصف المريد . والفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها : أن الأولى وصف حال العابد الذي ذاق بتصديقه طعم وعد الرب عز وجل ، فجد في العبادة . وأعمال البر ، لثقته بالوعد عليها . وصاحب هذه الدرجة : ذاقت إرادته طعم الأنس . فهي حال المريد .

ولهذا علق حال صاحب الدرجة الأولى : بالوعد الجميل . وعلق حال صاحب هذه الدرجة : بالأنس بالله . والأنس به سبحانه أعلى من الأنس بما يرجوه العابد من نعيم الجنة . فإذا ذاق المريد طعم الأنس جد في إرادته ، واجتهد في حفظ أنسه ، وتحصيل الأسباب المقوية له .

فلا يعلق به شاغل : أي لا يتعلق به شيء يشغله عن سلوكه ، وسيره إلى الله ، [ ص: 95 ] لشدة طلبه الباعث عليه أنسه ، الذي قد ذاق طعمه ، وتلذذ بحلاوته .

والأنس بالله : حالة وجدانية . وهي من مقامات الإحسان ، تقوى بثلاثة أشياء : دوام الذكر ، وصدق المحبة ، وإحسان العمل .

وقوة الأنس وضعفه : على حسب قوة القرب . فكلما كان القلب من ربه أقرب ، كان أنسه به أقوى . وكلما كان منه أبعد ، كانت الوحشة بينه وبين ربه أشد .

قوله " ولا يفسده عارض " العارض المفسد : هو الذي يعذل المحب ، ويلومه على النشاط في رضا محبوبه وطاعته ، ويدعوه إلى الالتفات إليه ، والوقوف معه دون مطلبه العالي . فهو كالذي يجيء عرضا يمنع المار في طريقه عن المرور ، ويلفته عن جهة مقصده إلى غيرها .

وهذا العارض عند القوم : هو إرادة السوى . فإن كل ما سوى الله فهو عارض . وإرادة السوى : توقف السالك ، وتنكس الطالب ، وتحجب الواصل . فإياك وإرادة السوىوإن علا . فإنك تحجب عن الله بقدرإرادتك لغيره . قال تعالى إخبارا عن عباده المقربين إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا وقال تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وقال تعالى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى .

قوله " ولا تكدره تفرقة " الكدر : ضد الصفاء . والتفرقة : ضد الجمعية . والجمعية : هي جمع القلب والهمة على الله بالحضور معه بحال الأنس ، خاليا من تفرقة الخواطر . والتفرقة من أعظم مكدرات القلب . وهي تزيل الصفاء الذي أثمره له الإسلام والإيمان والإحسان . فإن القلب يصفو بذلك . فتجيء التفرقة . فتكدر عليه ذلك الصفاء ، وتشعث القلب . فيجد الصادق ألم ذلك الشعث وأذاه . فيجتهد في لمه ، ولا يلم شعث القلوب بشيء غير الإقبال على الله والإعراض عما سواه . فهناك يلم شعثه ، ويزول كدره ، ويصح سفره . ويجد روح الحياة ، ويذوق طعم الحياة الملكية .

التالي السابق


الخدمات العلمية