الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

والرسل من أولهم إلى خاتمهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - أرسلوا بالدعوة إلى الله ، وبيان الطريق الموصل إليه ، وبيان حال المدعوين بعد وصولهم إليه ، فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل ملة على لسان كل رسول ، فعرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفا مفصلا ، حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه ، وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه ، يكلم ملائكته ، ويدبر أمر مملكته ، ويسمع أصوات خلقه ، ويرى أفعالهم وحركاتهم ، ويشاهد بواطنهم ، كما يشاهد ظواهرهم ، يأمر وينهى ، ويرضى ويغضب ، ويحب ويسخط ، ويضحك من قنوطهم وقرب غيره ، ويجيب دعوة مضطرهم ، ويغيث ملهوفهم ، ويعين محتاجهم ، ويجبر كسيرهم ، ويغني فقيرهم ، ويميت ويحيي ، ويمنع ويعطي ، يؤتي الحكمة من يشاء ، مالك الملك ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ، كل يوم هو في شأن ، يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويفك عانيا ، وينصر مظلوما ، ويقصم ظالما ، ويرحم مسكينا ، ويغيث ملهوفا ، ويسوق الأقدار إلى مواقيتها ، ويجريها على نظامها ، ويقدم ما يشاء تقديمه ، ويؤخر ما يشاء تأخيره فأزمة الأمور كلها بيده ، ومدار تدبير الممالك كلها عليه ، وهذا مقصود الدعوة ، وزبدة الرسالة .

القاعدة الثانية : تعريفهم بالطريق الموصل إليه ، وهو صراطه المستقيم ، الذي نصبه لرسله وأتباعهم ، وهو امتثال أمره ، واجتناب نهيه ، والإيمان بوعده ووعيده .

[ ص: 326 ] القاعدة الثالثة : تعريف الحال بعد الوصول ، وهو ما تضمنه اليوم الآخر من الجنة والنار ، وما قبل ذلك من الحساب ، والحوض والميزان والصراط .

فقعدت المعطلة والجهمية على رأس القاعدة الأولى ، فحالوا بين القلوب وبين معرفة ربها ، وسموا إثبات صفاته ، وعلوه فوق خلقه ، واستواءه على عرشه : تشبيها وتجسيما وحشوا ، فنفروا عنه صبيان العقول ، وسموا نزوله إلى سماء الدنيا ، وتكلمه بمشيئته ، ورضاه بعد غضبه ، وغضبه بعد رضاه ، وسمعه الحاضر لأصوات العباد ، ورؤيته المقارنة لأفعالهم ونحو ذلك : حوادث ، وسموا وجهه الأعلى ، ويديه المبسوطتين ، وأصابعه التي يضع عليها الخلائق يوم القيامة : جوارح وأعضاء ، مكرا منهم كبارا بالناس ، كمن يريد التنفير عن العسل ، فيمكر في العبارة ، ويقول : مائع أصفر يشبه العذرة المائعة ، أو ينفر عن شيء مستحسن فيسميه بأقبح الأسماء ، فعل الماكر المخادع ، فليس مع مخالف الرسل سوى المكر في القول والعمل .

فلما تم للمعطلة مكرهم ، وسلك في القلوب المظلمة الجاهلة بحقائق الإيمان ، وما جاء به الرسول ترتب عليه الإعراض عن الله ، وعن ذكره ومحبته ، والثناء عليه بأوصاف كماله ، ونعوت جلاله ، فانصرفت قوى حبها وشوقها وأنسها إلى سواه .

وجاء أهل الآراء الفاسدة ، والسياسات الباطلة ، والأذواق المنحرفة ، والعوائد المستمرة : فقعدوا على رأس هذا الصراط ، وحالوا بين القلوب وبين الوصول إلى نبيها ، وما كان عليه هو وأصحابه ، وعابوا من خالفهم في قعودهم عن ذلك ، ورغب عما اختاروه لأنفسهم ، ورموه بما هم أولى به منه ، كما قيل : رمتني بدائها وانسلت .

وجاء أصحاب الشهوات المفتونون بها ، الذين يعدون حصولها - كيف كان - هو الظفر في هذه الحياة والبغية ، فقعدوا على رأس طريق المعاد ، والاستعداد للجنة ولقاء الله ، وقالوا : اليوم خمر ، وغدا أمر ، اليوم لك ، ولا تدري : غدا لك ، أو عليك ؟ وقالوا : لا نبيع ذرة منقودة ، بدرة موعودة .


خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

وقالوا للناس : خلوا لنا الدنيا ، ونحن قد خلينا لكم الآخرة ، فإن طلبتم منا ما بأيدينا أحلناكم على الآخرة .

[ ص: 327 ]

أناس ينقدون عيش النعيم     ونحن نحال على الآخره
فإن لم تكن مثلما يزعمو     ن فتلك إذا كرة خاسره

فالإيمان بالصفات ومعرفتها ، وإثبات حقائقها ، وتعلق القلب بها ، وشهوده لها : هو مبدأ الطريق ووسطه وغايته ، وهو روح السالكين ، وحاديهم إلى الوصول ، ومحرك عزماتهم إذا فتروا ، ومثير هممهم إذا قصروا ، فإن سيرهم إنما هو على الشواهد ، فمن كان لا شاهد له فلا سير له ، ولا طلب ولا سلوك له ، وأعظم الشواهد : صفات محبوبهم ، ونهاية مطلوبهم ، وذلك هو العلم الذي رفع لهم في السير فشمروا إليه ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد رآه غاديا رائحا ، لم يضع لبنة على لبنة ، ولكن رفع له علم فشمر إليه ، ولا يزال العبد في التواني والفتور والكسل ، حتى يرفع الله عز وجل له - بفضله ومنه - علما يشاهده بقلبه ، فيشمر إليه ، ويعمل عليه .

فإن عطلت شواهد الصفات ، ووضعت أعلامها عن القلوب ، وطمست آثارها ، وضربت بسياط البعد ، وأسبل دونها حجاب الطرد ، وتخلفت مع المتخلفين ، وأوحى إليها القدر : أن اقعدي مع القاعدين ، فإن أوصاف المدعو إليه ، ونعوت كماله ، وحقائق أسمائه : هي الجاذبة للقلوب إلى محبته ، وطلب الوصول إليه ؛ لأن القلوب إنما تحب من تعرفه ، وتخافه وترجوه وتشتاق إليه ، وتلتذ بقربه ، وتطمئن إلى ذكره ، بحسب معرفتها بصفاته ، فإذا ضرب دونها حجاب معرفة الصفات والإقرار بها : امتنع منها - بعد ذلك - ما هو مشروط بالمعرفة ، وملزوم لها ، إذ وجود الملزوم بدون لازمه ، والمشروط بدون شرطه ، ممتنع .

فحقيقة المحبة ، والإنابة ، والتوكل ، ومقام الإحسان ممتنع على المعطل امتناع حصول المغل من معطل البذر ، بل أعظم امتناعا .

كيف تصمد القلوب إلى من ليس داخل العالم ولا خارجه ، ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ، ولا مباينا له ولا محايثا ؟ بل حظ العرش منه كحظ الآبار والوهاد ، والأماكن التي يرغب عن ذكرها ؟ وكيف تأله القلوب من لا يسمع كلامها ، ولا يرى مكانها ، ولا يحب ولا يحب ، ولا يقوم به فعل البتة ، ولا يتكلم ولا يكلم ، ولا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ، ولا يقوم به رأفة ولا رحمة ولا حنان ، ولا له حكمة ولا غاية يفعل ويأمر لأجلها ؟ .

فكيف يتصور على ذلك ، ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه ، ورؤية وجهه [ ص: 328 ] الكريم في جنات النعيم ، وهو مستو على عرشه فوق جميع خلقه ؟ أم كيف تأله القلوب من لا يحب ولا يحب ، ولا يرضى ولا يغضب ، ولا يفرح ولا يضحك ؟

فسبحان من حال بين المعطلة وبين محبته ومعرفته ، والسرور والفرح به ، والشوق إلى لقائه ، وانتظار لذة النظر إلى وجهه الكريم ، والتمتع بخطابه في محل كرامته ودار ثوابه ! فلو رآها أهلا لذلك لمن عليها به ، وأكرمها به ، إذ ذاك أعظم كرامة يكرم بها عبده ، والله أعلم حيث يجعل كرامته ، ويضع نعمته وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون وليس جحودهم صفاته سبحانه ، وحقائق أسمائه : في الحقيقة تنزيها ، وإنما هو حجاب ضرب عليهم ، فظنوه تنزيها ، كما ضرب حجاب الشرك والبدع المضلة والشهوات المردية على قلوب أصحابها ، وزين لهم سوء أعمالهم ، فرأوها حسنة .

عدنا إلى شرح كلامه .

قوله : وقد وردت أساميها بالرسالة . . . إلى آخره .

ذكر أن إثبات الصفات دل عليها الوحي الذي جاء من عند الله على لسان رسوله ، والحس الذي شاهد به البصير آثار الصنعة ؛ فاستدل بها على صفات صانعها ، والعقل الذي طابت حياته بزرع الفكر ، والقلب الذي حيي بحسن النظر بين التعظيم والاعتبار .

فأما الرسالة : فإنها جاءت بإثبات الصفات إثباتا مفصلا على وجه أزال الشبهة ، وكشف الغطاء ، وحصل العلم اليقيني ، ورفع الشك والريب ؛ فثلجت له الصدور ، واطمأنت به القلوب ، واستقر به الإيمان في نصابه ، ففصلت الرسالة الصفات والنعوت والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي ، وقررت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ ، وأبعده من الإجمال والاحتمال ، وأمنعه من قبول التأويل ، وكذلك كان تأويل آيات [ ص: 329 ] الصفات وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد وأخباره ، بل أبعد منه لوجوه كثيرة ، ذكرتها في كتاب " الصواعق المرسلة ، على الجهمية والمعطلة " بل تأويل آيات الصفات - بما يخرجها عن حقائقها - كتأويل آيات الأمر والنهي سواء ، فالباب كله باب واحد ، ومصدره واحد ، ومقصوده واحد ، وهو إثبات حقائقه والإيمان بها .

وكذلك سطا على تأويل آيات المعاد قوم ، وقالوا : فعلنا فيها كفعل المتكلمين في آيات الصفات ، بل نحن أعذر ، فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات والعلو وقيام الأفعال : أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير ، فإذا ساغ لكم تأويلها ، فكيف يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد ؟

وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل آيات الأمر والنهي ، وقالوا : فعلنا فيها كفعل أولئك في آيات الصفات ، مع كثرتها وتنوعها ، وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية .

قالوا : وما يظن أنه معارض من العقليات لنصوص الصفات ، فعندنا معارض عقلي لنصوص المعاد ، من جنسه أو أقوى منه .

وقال متأولو آيات الأحكام على خلاف حقائقها وظواهرها : الذي سوغ لنا هذا التأويل : القواعد التي اصطلحتموها لنا ، وجعلتموها أصلا نرجع إليه ، فلما طردناها كان طردها : أن الله ما تكلم بشيء قط ، ولا يتكلم ، ولا يأمر ولا ينهى ولا له صفة تقوم به ، ولا يفعل شيئا ، وطرد هذا الأصل : لزوم تأويل آيات الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والثواب والعقاب .

وقد ذكرنا في كتاب الصواعق أن تأويل آيات الصفات وأخبارها - بما يخرجها عن حقائقها - هو أصل فساد الدنيا والدين ، وزوال الممالك ، وتسليط أعداء الإسلام عليه ؛ إنما كان بسبب التأويل ، ويعرف هذا من له اطلاع وخبرة بما جرى في العالم ، ولهذا يحرم عقلاء الفلاسفة التأويل مع اعتقادهم لصحته ؛ لأنه سبب لفساد العالم ، وتعطيل الشرائع .

ومن تأمل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن والسنة : علم قطعا بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها ، فإنها وردت على وجه لا يحتمل معه التأويل بوجه .

[ ص: 330 ] فانظر إلى قوله تعالى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك هل يحتمل هذا التقسيم والتنويع : تأويل إتيان الرب جل جلاله بإتيان ملائكته أو آياته ؟ وهل يبقى مع هذا السياق شبهة أصلا : أنه إتيانه بنفسه ؟ وكذلك قولهإنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده - إلى أن قال - وكلم الله موسى تكليما ففرق بين الإيحاء العام ، والتكليم الخاص ، وجعلهما نوعين ، ثم أكد فعل التكليم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون ، وكذلك قوله وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فنوع تكليمه إلى تكليم بواسطة ، وتكليم بغير واسطة ، وكذلك قوله لموسى عليه السلام إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ففرق بين الرسالة والكلام ، والرسالة إنما هي بكلامه ، وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنكم ترون ربكم عيانا ، كما ترون القمر ليلة البدر في الصحو ، ليس دونه سحاب ، وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب ومعلوم أن هذا البيان والكشف والاحتراز : ينافي إرادة التأويل قطعا ، ولا يرتاب في هذا من له عقل ودين .

قوله : " وظهرت شواهدها في الصنعة " .

هذا هو الطريق الثاني من طرق إثبات الصفات ، وهو دلالة الصنعة عليها ، فإن المخلوق يدل على وجود خالقه ، على حياته وعلى قدرته ، وعلى علمه ومشيئته ، فإن الفعل الاختياري يستلزم ذلك استلزاما ضروريا ، وما فيه من الإتقان والإحكام ووقوعه على أكمل الوجوه يدل على حكمة فاعله وعنايته ، وما فيه من الإحسان والنفع ، ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه ، وإحسانه وجوده ، وما [ ص: 331 ] فيه من آثار الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه ، فمعطي الكمال أحق بالكمال ، وخالق الأسماع والأبصار والنطق : أحق بأن يكون سميعا بصيرا متكلما ، وخالق الحياة والعلوم ، والقدر والإرادات : أحق بأن يكون هو كذلك في نفسه ، فما في المخلوقات من أنواع التخصيصات : هو من أدل شيء على إرادة الرب سبحانه ، ومشيئته وحكمته ، التي اقتضت التخصيص .

وحصول الإجابة عقيب سؤال الطالب ، على الوجه المطلوب : دليل على علم الرب تعالى بالجزئيات ، وعلى سمعه لسؤال عبيده ، وعلى قدرته على قضاء حوائجهم ، وعلى رأفته ورحمته بهم .

والإحسان إلى المطيعين ، والتقرب إليهم والإكرام ، وإعلاء درجاتهم يدل على محبته ورضاه ، وعقوبته للعصاة والظلمة ، وأعداء رسله بأنواع العقوبات المشهودة : تدل على صفة " الغضب والسخط " والإبعاد ، والطرد والإقصاء يدل على المقت والبغض .

فهذه الدلالات من جنس واحد عند التأمل ، ولهذا دعا سبحانه في كتابه عباده إلى الاستدلال بذلك على صفاته ، فهو يثبت العلم بربوبيته ووحدانيته ، وصفات كماله بآثار صفته المشهودة ، والقرآن مملوء بذلك .

فيظهر شاهد اسم " الخالق " من نفس المخلوق ، وشاهد اسم " الرازق " من وجود الرزق والمرزوق ، وشاهد اسم " الرحيم " من شهود الرحمة المبثوثة في العالم ، واسم " المعطي " من وجود العطاء الذي هو مدرار لا ينقطع لحظة واحدة ، واسم " الحليم " من حلمه عن الجناة والعصاة وعدم معالجتهم ، واسم " الغفور " و " التواب " من مغفرة الذنوب ، وقبول التوبة ، ويظهر شاهد اسمه " الحكيم " من العلم بما في خلقه وأمره من الحكم والمصالح ووجوه المنافع ، وهكذا كل اسم من أسمائه الحسنى له شاهد في خلقه وأمره ، يعرفه من عرفه ويجهله من جهله ، فالخلق والأمر من أعظم شواهد أسمائه وصفاته .

وكل سليم العقل والفطرة يعرف قدر الصانع وحذقه وتبريزه على غيره ، وتفرده بكمال لم يشاركه فيه غيره من مشاهدة صنعته ، فكيف لا تعرف صفات من هذا العالم العلوي والسفلي وهذه المخلوقات من بعض صنعه ؟

وإذا اعتبرت المخلوقات والمأمورات ، وجدتها بأسرها كلها دالة على النعوت والصفات ، وحقائق الأسماء الحسنى ، وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمى [ ص: 332 ] بمكابرة ، ويكفي ظهور شاهد الصنع فيك خاصة ، كما قال تعالى وفي أنفسكم أفلا تبصرون فالموجودات بأسرها شواهد صفات الرب جل جلاله ونعوته وأسمائه ، فهي كلها تشير إلى الأسماء الحسنى وحقائقها ، وتنادي عليها ، وتدل عليها ، وتخبر بها بلسان النطق والحال ، كما قيل :


تأمل سطور الكائنات فإنها     من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها     ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها     فصامتها يهدي ومن هو قائل

فلست ترى شيئا أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها ، ونعوت كماله ، وحقائق أسمائه ، وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها ، فهي تدل عقلا وحسا ، وفطرة ونظرا ، واعتبارا .

قوله " بتبصير النور القائم في السر " يعني : أن النور الإلهي الذي جعله الله لعبده ، ويلقيه إليه ، ويودعه في سره : هو الذي يبصره بشواهد صفاته ، فكلما قوي هذا النور في قلب العبد : كان بصره بالصفات أتم وأكمل ، وكلما قل نصيبه من هذا النور ، وطفئ مصباحه في قلبه : طفئ نور التصديق بالصفات وإثباتها في قلبه ، فإنه إنما يشاهدها بذلك النور ، فإذا فقده لم يشاهدها ، وجاءت الشبه الباطلة مع تلك الظلمة ، فلم يكن له نصيب منها سوى الإنكار .

قوله " وطيب حياة العقل لزرع الفكر " أي يدرك الصفات بذلك النور القائم في سره ، وطيب حياة عقله ، التي طيبها زرع الفكر الصحيح ، المتعلق بما دعا الله سبحانه عباده إلى الفكر فيه ، بقوله ويتفكرون في خلق السماوات والأرض وقوله أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وقوله كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون . في الدنيا والآخرة فيتفكرون في الآيات التي بينها لهم ، فيستدلون بها على توحيده ، وصفات كماله ، وصدق رسله ، والعلم بلقائه ، ويتفكرون في الدنيا وانقضائها ، واضمحلالها وآفاتها ، والآخرة ودوامها وبقائها وشرفها ، وقوله ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [ ص: 333 ] فالفكر الصحيح ، المؤيد بحياة القلب ، ونور البصيرة يدل على إثبات صفات الكمال ونعوت الجلال وأما فكر مصحوب بموت القلب وعمى البصيرة فإنما يعطى صاحبه نفيها وتعطيلها .

قوله " وحياة القلب بحسن النظر بين التعظيم وحسن الاعتبار " يعني : أنه ينضاف إلى نور البصيرة وطيب حياة العقل : حياة القلب بحسن النظر ، الدائر بين تعظيم الخالق - جل جلاله - وحسن الاعتبار بمصنوعاته الدالة عليه ، فلابد من الأمرين ، فإنه إن غفل بالتعظيم عن حسن الاعتبار : لم يحصل له الاستدلال على الصفات ، وإن حصل له الاعتبار من غير تعظيم الخالق سبحانه : لم يستفد به إثبات الصفات ، فإذا اجتمع له تعظيم الخالق وحسن النظر في صنعه : أثمرا له إثبات صفات كماله ولابد .

و " الاعتبار " هو أن يعبر نظره من الأثر إلى المؤثر ، ومن الصنعة إلى الصانع ، ومن الدليل إلى المدلول ، فينتقل إليه بسرعة لطف إدراك ، فينتقل ذهنه من الملزوم إلى لازمه ، قال الله تعالى فاعتبروا ياأولي الأبصار و " الاعتبار " افتعال من العبور ، وهو عبور القلب من الملزوم إلى لازمه ، ومن النظير إلى نظيره .

وهذا الاعتبار يضعف ويقوى ، حتى يستدل صاحبه بصفات الله تعالى وكماله على ما يفعله ، لحسن اعتباره وصحة نظره ، وهو اعتبار الخواص واستدلالهم ، فإنهم يستدلون بأسماء الله وصفاته وأفعاله ، وأنه يفعل كذا ولا يفعل كذا ، فيفعل ما هو موجب حكمته وعلمه وغناه وحمده ، ولا يفعل ما يناقض ذلك ، وقد ذكر سبحانه هذين الطريقين في كتابه ، فقال تعالى في الطريق الأولى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ثم قال في الطريق الثانية أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فمخلوقاته دالة على ذاته وأسمائه وصفاته ، وأسماؤه وصفاته دالة على ما يفعله ويأمر به ، وما لا يفعله ولا يأمر به .

مثال ذلك : أن اسمه " الحميد " سبحانه يدل على أنه لا يأمر بالفحشاء والمنكر ، واسمه " الحكيم " يدل على أنه لا يخلق شيئا عبثا ، واسمه " الغني " يدل على أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، واسمه " الملك " يدل على ما يستلزم حقيقة ملكه : من قدرته ، [ ص: 334 ] وتدبيره ، وعطائه ومنعه ، وثوابه وعقابه ، وبث رسله في أقطار مملكته ، وإعلام عبيده بمراسيمه ، وعهوده إليهم ، واستوائه على سرير مملكته الذي هو عرشه المجيد ، فمتى قام بالعبد تعظيم الحق - جل جلاله - وحسن النظر في الشواهد ، والتبصر والاعتبار بها : صارت الصفات والنعوت مشهودة لقلبه قبلة له .

قوله : " وهي معرفة العامة التي لا تنعقد شرائط اليقين إلا بها " .

لا يريد بالعامة الجهال الذين هم عوام الناس ، وإنما يريد : أن هذه هي المعرفة التي وقف عندها العموم ولم يتعدوها ، وأما معرفة أهل الذوق والمحبة الخاصة فأخص من هذا كما سيأتي .

قوله : وهي على ثلاثة أركان : إثبات الصفة من غير تشبيه - إلى آخرها ، هذه ثلاثة أشياء .

أحدها : إثبات تلك الصفة ؛ فلا يعاملها بالنفي والإنكار .

الثاني : أنه لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به ، بل يحترم الاسم كما يحترم الصفة ، فلا يعطل الصفة ، ولا يغير اسمها ويعيرها اسما آخر ، كما تسمى الجهمية والمعطلة سمعه وبصره ، وقدرته وحياته ، وكلامه : أعراضا ، ويسمون وجهه ويديه وقدمه - سبحانه - : جوارح وأبعاضا ، ويسمون حكمته وغاية فعله المطلوبة : عللا وأغراضا ، ويسمون أفعاله القائمة به : حوادث ، ويسمون علوه على خلقه ، واستواءه على عرشه ، تحيرا ، ويتواصون بهذا المكر الكبار إلى نفي ما دل عليه الوحي ، والعقل والفطرة ، وآثار الصنعة من صفاته ، فيسطون - بهذه الأسماء التي سموها هم وآباؤهم - على نفي صفاته وحقائق أسمائه .

الثالث : عدم تشبيهها بما للمخلوق ، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، فالعارفون به ، المصدقون لرسله ، المقرون بكماله : يثبتون له الأسماء والصفات ، وينفون عنه مشابهة المخلوقات ، فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه ، وبين التنزيه وعدم التعطيل ، فمذهبهم حسنة بين سيئتين ، وهدى بين ضلالتين ، فصراطهم صراط المنعم عليهم ، وصراط غيرهم صراط المغضوب عليهم والضالين ، قال الإمام أحمد رحمه الله : لا نزيل عن الله صفة من صفاته ، لأجل شناعة المشنعين ، وقال : التشبيه : أن تقول يد كيدي ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

[ ص: 335 ] قوله : " والإياس من إدراك كنهها ، وابتغاء تأويلها " .

يعني : أن العقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها ، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله ، وهذا معنى قول السلف بلا كيف أي بلا كيف يعقله البشر ، فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته ، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته ؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها ، ومعرفة معانيها ، فالكيفية وراء ذلك ، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر ، ولا نعرف حقيقة كيفيته ، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق ، فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم .

فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كله ، والجمال كله ، والعلم كله ، والقدرة كلها ، والعظمة كلها ، والكبرياء كلها ؟ من لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وما وراء ذلك ؟ الذي يقبض سماواته بيده ، فتغيب كما تغيب الخردلة في كف أحدنا ، الذي نسبة علوم الخلائق كلها إلى علمه أقل من نسبة نقرة عصفور من بحار العلم الذي لو أن البحر - يمده من بعده سبعة أبحر - مداد وأشجار الأرض - من حين خلقت إلى قيام الساعة - أقلام : لفني المداد وفنيت الأقلام ، ولم تنفد كلماته ، الذي لو أن الخلق من أول الدنيا إلى آخرها - إنسهم وجنهم ، وناطقهم وأعجمهم - جعلوا صفا واحدا ما أحاطوا به سبحانه ، الذي يضع السماوات على إصبع من أصابعه ، والأرض على إصبع ، والجبال على إصبع ، والأشجار على إصبع ، ثم يهزهن ، ثم يقول : أنا الملك .

فقاتل الله الجهمية والمعطلة ! أين التشبيه هاهنا ؟ وأين التمثيل ؟ لقد اضمحل هاهنا كل موجود سواه ، فضلا عن أن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال ، ويشابهه فيه ، فسبحان من حجب عقول هؤلاء عن معرفته ، وولاها ما تولت من وقوفها مع الألفاظ التي لا حرمة لها ، والمعاني التي لا حقائق لها .

ولما فهمت هذه الطائفة من الصفات الإلهية ما تفهمه من صفات المخلوقين ، [ ص: 336 ] فرت إلى إنكار حقائقها ، وابتغاء تحريفها ، وسمته تأويلا ، فشبهت أولا ، وعطلت ثانيا ، وأساءت الظن بربها وبكتابه وبنبيه وبأتباعه .

أما إساءة الظن بالرب : فإنها عطلت صفات كماله ، ونسبته إلى أنه أنزل كتابا مشتملا على ما ظاهره كفر وباطل ، وأن ظاهره وحقائقه غير مرادة .

وأما إساءة ظنها بالرسول : فلأنه تكلم بذلك وقرره وأكده ، ولم يبين للأمة أن الحق في خلافه وتأويله .

وأما إساءة ظنها بأتباعه : فبنسبتهم لهم إلى التشبيه والتمثيل ، والجهل والحشو ، وهم عند أتباعه أجهل من أن يكفروهم ، إلا من عاند الرسول ، وقصد نفي ما جاء به ، والقوم عندهم في خفارة جهلهم ، قد حجبت قلوبهم عن معرفة الله ، وإثبات حقائق أسمائه ، وأوصاف كماله .

التالي السابق


الخدمات العلمية