الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إذا عرفت مراد القوم بالفناء ، فنذكر أقسامه ومراتبه ، وممدوحه ومذمومه ومتوسطه .

فاعلم أن الفناء مصدر فني يفنى فناء إذا اضمحل وتلاشى وعدم ، وقد يطلق على ما تلاشت قواه وأوصافه مع بقاء عينه ، كما قال الفقهاء : لا يقتل في المعركة شيخ فان ، وقال تعالى كل من عليها فان أي هالك ذاهب ، ولكن القوم اصطلحوا على وضع هذه اللفظة لتجريد شهود الحقيقة الكونية ، والغيبة عن شهود الكائنات .

وهذا الاسم يطلق على ثلاثة معان : الفناء عن وجود السوى ، والفناء عن شهود السوى ، والفناء عن إرادة السوى .

فأما الفناء عن وجود السوى : فهو فناء الملاحدة ، القائلين بوحدة الوجود ، وأنه ما ثم غير ، وأن غاية العارفين والسالكين الفناء في الوحدة المطلقة ، ونفي التكثر والتعدد عن الوجود بكل اعتبار ، فلا يشهد غيرا أصلا ، بل يشهد وجود العبد عين وجود الرب ، بل ليس عندهم في الحقيقة رب وعبد .

وفناء هذه الطائفة في شهود الوجود كله واحد ، وهو الواجب بنفسه ، ما ثم وجودان ممكن ، وواجب ، ولا يفرقون بين كون وجود المخلوقات بالله ، وبين كون وجودها هو عين وجوده ، وليس عندهم فرقان بين العالمين ورب العالمين ويجعلون [ ص: 175 ] الأمر والنهي للمحجوبين عن شهودهم وفنائهم ، والأمر والنهي تلبيس عندهم ، والمحجوب عندهم يشهد أفعاله طاعات أو معاصي ، ما دام في مقام الفرق ، فإذا ارتفعت درجته شهد أفعاله كلها طاعات ، لا معصية فيها ، لشهوده الحقيقة الكونية الشاملة لكل موجود ، فإذا ارتفعت درجته عندهم فلا طاعة ولا معصية ، بل ارتفعت الطاعات والمعاصي ، لأنها تستلزم اثنينية وتعددا ، وتستلزم مطيعا ومطاعا ، وعاصيا ومعصيا ، وهذا عندهم محض الشرك ، والتوحيد المحض يأباه ، فهذا فناء هذه الطائفة .

وأما الفناء عن شهود السوى : فهو الفناء الذي يشير إليه أكثر الصوفية المتأخرين ، ويعدونه غاية ، وهو الذي بنى عليه أبو إسماعيل الأنصاري كتابه وجعله الدرجة الثالثة في كل باب من أبوابه .

وليس مرادهم فناء وجود ما سوى الله في الخارج ، بل فناؤه عن شهودهم وحسهم ، فحقيقته : غيبة أحدهم عن سوى مشهوده ، بل غيبته أيضا عن شهوده ونفسه ، لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته ، وبمذكوره عن ذكره ، وبموجوده عن وجوده ، وبمحبوبه عن حبه ، وبمشهوده عن شهوده .

وقد يسمى حال مثل هذا سكرا ، واصطلاحا ، ومحوا ، وجمعا ، وقد يفرقون بين معاني هذه الأسماء ، وقد يغلب شهود القلب بمحبوبه ومذكوره حتى يغيب به ويفنى به ، فيظن أنه اتحد به وامتزج ، بل يظن أنه هو نفسه ، كما يحكى أن رجلا ألقى محبوبه نفسه في الماء ، فألقى المحب نفسه وراءه ، فقال له : ما الذي أوقعك في الماء ؟ فقال : غبت بك عني فظننت أنك أني .

وهذا إذا عاد إليه عقله يعلم أنه كان غالطا في ذلك ، وأن الحقائق متميزة في ذاتها ، فالرب رب ، والعبد عبد ، والخالق بائن عن المخلوقات ، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ، ولكن في حال السكر والمحو الاصطلام والفناء : قد يغيب عن هذا التمييز ، وفي هذه الحال قد يقول صاحبها ما يحكى عنأبي يزيد أنه قال " سبحاني " أو " ما في الجبة إلا الله " ونحو ذلك من الكلمات التي لو صدرت عن قائلها وعقله معه لكان كافرا ، ولكن مع سقوط التمييز والشعور ، قد يرتفع عنه قلم المؤاخذة .

[ ص: 176 ] وهذا الفناء يحمد منه شيء ، ويذم منه شيء ، ويعفى منه عن شيء .

فيحمد منه : فناؤه عن حب ما سوى الله ، وعن خوفه ، ورجائه ، والتوكل عليه ، والاستعانة به ، والالتفات إليه ، بحيث يبقى دين العبد ظاهرا وباطنا كله لله .

وأما عدم الشعور والعلم ، بحيث لا يفرق صاحبه بين نفسه وغيره ، ولا بين الرب والعبد مع اعتقاده الفرق ولا بين شهوده ومشهوده ، بل لا يرى السوى ولا الغير ، فهذا ليس بمحمود ، ولا هو وصف كمال ، ولا هو مما يرغب فيه ويؤمر به ، بل غاية صاحبه أن يكون معذورا لعجزه ، وضعف قلبه وعقله عن احتمال التمييز والفرقان ، وإنزال كل ذي منزلة منزلته ، موافقة لداعي العلم ، ومقتضى الحكمة ، وشهود الحقائق على ما هي عليه ، والتمييز بين القديم والمحدث ، والعبادة والمعبود ، فينزل العبادة منازلها ، ويشهد مراتبها ، ويعطي كل مرتبة منها حقها من العبودية ، ويشهد قيامه بها ، فإن شهود العبد قيامه بالعبودية أكمل في العبودية من غيبته عن ذلك ، فإن أداء العبودية في حال غيبة العبد عنها وعن نفسه بمنزلة أداء السكران والنائم ، وأداؤها في حال كمال يقظته وشعوره بتفاصيلها وقيامه بها أتم وأكمل وأقوى عبودية .

فتأمل حال عبدين في خدمة سيدهما ، أحدهما يؤدي حقوق خدمته في حال غيبته عن نفسه وعن خدمته لاستغراقه بمشاهدة سيده ، والآخر يؤديها في حال كمال حضوره ، وتمييزه ، وإشعار نفسه بخدمة السيد ، وابتهاجها بذلك ، فرحا بخدمته ، وسرورا والتذاذا منه ، واستحضارا لتفاصيل الخدمة ومنازلها ، وهو مع ذلك عامل على مراد سيده منه ، لا على مراده من سيده ، فأي العبدين أكمل ؟

فالفناء : حظ الفاني ومراده ، والعلم ، والشعور ، والتمييز ، والفرق ، وتنزيل الأشياء منازلها ، وجعلها في مراتبها : حق الرب ومراده ، ولا يستوي صاحب هذه العبودية ، وصاحب تلك .

[ ص: 177 ] نعم ، هذا أكمل حالا من الذي لا حضور له ولا مشاهدة بالمرة ، بل هو غائب بطبعه ونفسه عن معبوده وعن عبادته ، وصاحب التمييز والفرقان - وهو صاحب الفناء الثالث - أكمل منهما ، فزوال العقل والتمييز والغيبة عن شهود نفسه وأفعالها لا يحمد ، فضلا عن أن يكون في أعلى مراتب الكمال ، بل يذم إذا تسبب إليه ، وباشر أسبابه ، وأعرض عن الأسباب التي توجب له التمييز والعقل ، ويعذر إذا ورد عليه ذلك بلا استدعاء ، بأن كان مغلوبا عليه ، كما يعذر النائم والمغمى عليه ، والمجنون ، والسكران الذي لا يذم على سكره ، كالموجر والجاهل بكون الشراب مسكرا ، ونحوهما .

وليس أيضا هذه الحال بلازمة لجميع السالكين ، بل هي عارضة لبعضهم ، منهم من يبتلى بها ، كأبي يزيد وأمثاله ، ومنهم من لا يبتلى بها ، وهم أكمل وأقوى ، فإن الصحابة رضي الله عنهم - وهم سادات العارفين ، وأئمة الواصلين المقربين ، وقدوة السالكين - لم يكن منهم من ابتلي بذلك ، مع قوة إرادتهم ، وكثرة منازلاتهم ، ومعاينة ما لم يعاينه غيرهم ، ولا شم له رائحة ، ولم يخطر على قلبه ، فلو كان هذا الفناء كمالا لكانوا هم أحق به وأهله ، وكان لهم منه ما لم يكن لغيرهم .

ولا كان هذا أيضا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، ولا حالا من أحواله ، صلى الله عليه وسلم ، ولهذا - في ليلة المعراج لما أسري به ، وعاين ما عاين مما أراه الله إياه من آياته الكبرى - لم تعرض له هذه الحال ، بل كان كما وصفه الله عز وجل بقوله ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى وقال وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس وقال ابن عباس : هي رؤيا عين ، أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ، ومع هذا فأصبح بينهم لم يتغير عليه حاله ، ولم يعرض له صعق ولا غشي ، يخبرهم عن تفصيل ما رأى ، غير فان عن نفسه ، ولا عن شهوده ، ولهذا كانت حاله أكمل من حال موسى بن عمران صلى الله [ ص: 178 ] عليهما وسلم لما خر صعقا حين تجلى ربه للجبل وجعله دكا .

التالي السابق


الخدمات العلمية