الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                فإن كان بشرطين هل يشترط قيام الملك أو العدة عند وجود الشرطين جميعا ؟ قال أصحابنا الثلاثة : لا يشترط بل الشرط قيام الملك أو العدة عند وجود الشرط الأخير .

                                                                                                                                وقال زفر : يشترط قيام الملك عند وجود الشرطين .

                                                                                                                                وصورة المسألة إذا قال لامرأته : إن كلمت زيدا وعمرا فأنت طالق فطلقها وانقضت عدتها فكلمت زيدا ثم تزوجها فكلمت عمرا طلقت عندنا وعند زفر لا تطلق ، وإن كان الكلام الأول في الملك والثاني في غير الملك بأن كلمت زيدا وهي في ملكه ثم طلقها وانقضت عدتها ثم كلمت عمرا لا يقع الطلاق .

                                                                                                                                وجه قول زفر أن الحالف جعل كلام زيد وعمرو جميعا شرطا لوقوع الطلاق ، ووجود جميع الشرط شرط لنزول الجزاء ، ووقت نزول الجزاء هو وقت وجود الشرط ألا ترى أنها إذا كلمت أحدهما دون الآخر لا يقع الطلاق ؟ فكذا إذا كلمت أحدهما في غير الملك فذلك ملحق بالعدم كما إذا وجد الشرطان جميعا في غير الملك .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن الملك عند وجود الشرط فيشترط لنزول الجزاء ووقت نزول الجزاء وهو وقت وجود الشرط الأخير فيشترط قيام الملك عنده لا غير ، وهذا ; لأن الملك إنما يشترط إما لصحة التعليق أو لثبوت الحكم وهو نزول المعلق والملك القائم في الوقتين جميعا .

                                                                                                                                فأما وقت وجود الشرط الأول فليس وقت التعليق ولا وقت نزول الجزاء فلا معنى لاشتراط الملك عنده .

                                                                                                                                ونظير هذا الاختلاف في كتاب الزكاة : كمال النصاب في طرفي الحول ونقصانه في أثناء الحول لا يمنع الوجوب عندنا وعنده يشترط الكمال من أول الحول إلى آخره ، ولو قال لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت فلانا يشترط قيام الملك عند وجود الشرط الأول وهو الدخول ; لأنه جعل الدخول شرط انعقاد اليمين كأنه قال لها عند الدخول : إن كلمت فلانا فأنت طالق ، واليمين لا تنعقد إلا في الملك أو مضافة إلى الملك فإن كانت في ملكه عند دخوله الدار صحت اليمين المتعلقة بالشرط وهو الكلام ، فإذا كلمت يقع الطلاق وإن لم تكن في ملكه عند الدخول بأن طلقها وانقضت عدتها ثم دخلت الدار لم يصح التعليق لعدم الملك والعدة ، فلا يقع الطلاق وإن كلمت .

                                                                                                                                وإن كان طلقها بعد الدخول بها قبل دخول الدار ثم دخلت الدار وهي في العدة ثم كلمت فلانا وهي في العدة طلقت ; لأن المعتدة يلحقها صريح الطلاق تنجيزا فيصح تعليق طلاقها أيضا في حال قيام العدة كالزوجة .

                                                                                                                                وإذا صح التعليق ووجد شرطه في الملك أو في العدة ينزل المعلق ، ولو قال لامرأته : أنت طالق إن شئت فهذا وقوله : أنت طالق إن دخلت الدار أو إن كلمت فلانا سواء ; من حيث إنه يقف وقوع الطلاق على مشيئتها كما يقف على دخولها وكلامها إلا أن ذلك تعليق بالشرط ، وهذا تمليك كقوله : أمرك بيدك واختاري ولهذا اقتصر على المجلس ، ولو حلف لا يحلف لا يحنث ; لأن الحلف بما سوى [ ص: 129 ] الله عز وجل شرط وجزاء ومشيئتها ليست بشرط ; لأن شرط الطلاق ما جعل علمنا على الطلاق ، وهو ما يكون دليلا على الطلاق من غير أن يكون وجود الطلاق به ; لأن ذلك يكون علة لا شرطا ، ومشيئتها يتعلق بها وجود الطلاق ، بل هي تطليق منها ، وكذلك مشيئته بأن قال لها : أنت طالق إن شئت أنا .

                                                                                                                                ألا ترى إذا قال لامرأته : شئت طلاقك طلقت ، كما إذا قال طلقت فإن قيل : أليس أنه إذا قال لامرأته : أنت طالق إن طلقتك كان تعليقا للطلاق بشرط التطليق حتى لو طلقها يقع المنجز ثم ينزل المعلق ، والتعليق مما يحصل به الطلاق ومع هذا يصلح شرطا فالجواب : أن التنجيز يحصل به الطلاق المنجز لا الطلاق المعلق بل الطلاق المعلق يحصل بغيره ، فكان التنجيز في حق الطلاق المعلق علما محضا فكان شرطا ، وكذلك إذا قال لها : أنت طالق إن هويت أو أردت أو أحببت أو رضيت فهو مثل قوله : إن شئت ويتعلق الطلاق بالخبر عن هذه الأشياء إلا بحقائقها ، والأصل أنه متى علق الطلاق بشيء لا يوقف عليه إلا من جهتها يتعلق بإخبارها عنه ، ومتى علق بشيء يوقف عليه من جهة غيرها لا يقبل قولها إلا ببينة ، وعلى هذا مسائل إذا قال لها : إن كنت تحبيني أو تبغضيني فأنت طالق فقالت : أحب أو أبغض يقع الطلاق استحسانا والقياس أن لا يقع .

                                                                                                                                وجه القياس : أنه علق الطلاق بشرط لا يعلم وجوده فأشبه التعليق بمشيئة الله تعالى .

                                                                                                                                وجه الاستحسان : أنه علقه بأمر لا يوقف عليه إلا من جهتها فيتعلق بإخبارها عنه ، كأنه قال لها : إن أخبرتني عن محبتك أو بغضك إياي فأنت طالق ، ولو نص على ذلك لتعلق بنفس الإخبار كذا هذا ، وعلى هذا إذا قال لها : إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار أو إن كنت تكرهين الجنة فأنت طالق فقالت : أحب النار أو أكره الجنة ، وقع الطلاق لما قلنا ، ولو قال : إن كنت تحبيني بقلبك فأنت طالق فقالت : أحبك بقلبي وفي قلبها غير ذلك يقع الطلاق في قول أبي حنيفة وأبي يوسف .

                                                                                                                                وقال محمد : لا يقع .

                                                                                                                                وجه قوله أنه لما قيد المحبة بالقلب فقد علق الطلاق بحقيقة المحبة لا بالمخبر عنها فإذا لم يكن في قلبها محبة لم يوجد الشرط فلا يقع الطلاق ، ولهما أن المحبة والكراهة لما كانتا من الأمور الباطنة التي لا يوقف عليها إلا من جهتها تعلق الطلاق بنفس الإخبار عنهما دون الحقيقة وقد وجد ، وعلى هذا إذا قال لها إن حضت فأنت طالق فقالت حضت طلقت حين رأت الدم واستمر إلى ثلاثة أيام ; لأن الحيض لا يوقف عليه إلا من قبلها فيقبل قولها في ذلك ، وإذا استمر الدم إلى ثلاثة أيام تبين أن ما رأت كان حيضا من حين وجوده فوقع الطلاق من ذلك الوقت ، ولو قال لها : إن حضت حيضة فأنت طالق لا يقع الطلاق ما لم تحض وتطهر ; لأن الحيضة اسم للكامل ; ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس { ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة } ويقع على الكامل حتى يقدر الاستبراء به ، وكمالها بانقضائها من ذلك باتصال جزء من الطهر بها فكان هذا في الحقائق تعليق الطلاق بالطهر .

                                                                                                                                ونظيره إذا قال : إذا صمت يوما فأنت طالق وقع علي صوم كل اليوم وذلك بدخول أول جزء من الليل فكأنه علق الطلاق بدخول الليل وكذا هذا .

                                                                                                                                وكذا إذا قال : إن حضت نصف حيضة فأنت طالق لا تطلق ما لم تحض وتطهر ; لأن نصف حيضة حيضة كاملة فكأنه قال : إذا حضت حيضة .

                                                                                                                                وكذا إذا قال : إذا حضت سدس حيضة أو ثلث حيضة لما قلنا ، وكذلك إذا قال : إذا حضت نصف حيضة فأنت طالق ، وإذا حضت نصفها الآخر فأنت طالق ; لا يقع الطلاق ما لم تحض وتطهر فإذا حاضت وطهرت يقع تطليقتان ; لأنه علق طلقة بنصف حيضة ، ونصف حيضة حيضة كاملة ، وعلق طلقة أخرى بنصف تلك الحيضة بعينها وهي حيضة كاملة فكان هذا تعليق طلاقين بحيضة واحدة كاملة ; وكمالها بانقضائها واتصال الطهر بها وإذا اتصل بها الطهر طلقت تطليقتين .

                                                                                                                                ولو قال لها : أنت طالق في حيضك أو مع حيضك ، فحين ما رأت الدم تطلق بشرط أن يستمر بها الدم إلى ثلاثة أيام ; لأن كلمة في للظرف ، والحيض لا يصلح ظرفا للطلاق فيجعل شرطا فصار كأنه قال : أنت طالق إذا حضت ، وكلمة مع للمقارنة فيقتضي كون الطلاق مقارنا لحيضها فإذا رأت الدم ثلاثة أيام تبين أن المرئي كان حيضا من حين وجوده فيقع الطلاق من ذلك الوقت ، ولو قال لها : أنت طالق في حيضك أو مع حيضتك فما لم تحض وتطهر لا تطلق ; لأن الحيضة اسم للكامل وذلك باتصال الطهر ، ولو كانت حائضا في هذه الفصول كلها لا يقع ما لم تطهر من [ ص: 130 ] هذه الحيضة وتحيض مرة أخرى لأنه جعل الحيض شرطا لوقوع الطلاق ، والشرط ما يكون معدوما على خطر الوجود وهو الحيض الذي يستقبل لا الموجود في الحال فكان هذا تعليق الطلاق بحيض مبتدأ ، ولو قال لها : إذا حضت فأنت طالق وفلانة معك فقالت : حضت ; إن صدقها الزوج يقع الطلاق عليهما جميعا ، وإن كذبها يقع الطلاق عليها ولا يقع على صاحبتها ; لأنها أمينة في حق نفسها لا في حق غيرها فثبت حيضها في حقها لا في حق صاحبتها ، ويجوز أن يكون الكلام الواحد مقبولا في حق شخص غير مقبول في حق شخص آخر ، كما يجوز أن يكون مقبولا وغير مقبول في حق حكمين مختلفين كشهادة النساء مع الرجال إذا قامت على السرقة أنها تقبل في حق المال ولا تقبل في حق القطع .

                                                                                                                                وإذا قال إذا حضت فامرأتي الأخرى طالق وعبدي حر فقالت : قد حضت يقع الطلاق والعتاق إذا صدقها الزوج ، وإن كذبها لا يقع لما ذكرنا أن إقرارها على غيرها غير مقبول لأنه بمنزلة الشهادة على الغير .

                                                                                                                                ولو قال : إذا ولدت فأنت طالق فقالت ولدت لا يقع الطلاق ما لم يصدقها الزوج أو يشهد على الولادة رجلان أو رجل وامرأتان في قول أبي حنيفة .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف ومحمد : يقع الطلاق إذا شهدت القابلة على الولادة وجه قولهما أن ولادتها قد ثبتت بشهادة القابلة لكون النكاح قائما ، والولادة تثبت بشهادة القابلة حال قيام النكاح في تعيين الولد وفيما هو من لوازمه وهو النسب لمكان الضرورة ، والطلاق ليس من لوازم الولادة فلا تثبت الولادة في حق الطلاق بهذه الشهادة .

                                                                                                                                ولو قال : إن دخلت الدار فأنت طالق أو إن كلمت فلانا فأنت طالق فقالت : دخلت أو كلمت ، لا يقع الطلاق ما لم يصدقها الزوج أو يشهد على ذلك رجلان أو رجل وامرأتان بالإجماع ; لأن قولها دخلت أو كلمت إقرار على الغير وهو الزوج بإبطال حقه فكان شهادة على الغير فلا تقبل .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية