الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) حكم مكان الصلاة فالمصلي لا يخلو إما إن كان يصلي على الأرض ، أو على غيرها من البساط ونحوه ، ولا يخلو إما إن كانت النجاسة في مكان الصلاة أو في غيره بقرب منه ، ولا يخلو إما إن كانت قليلة أو كثيرة ، فإن كان يصلي على الأرض ، والنجاسة بقرب من مكان الصلاة جازت صلاته قليلة كانت أو كثيرة ; لأن شرط الجواز طهارة مكان الصلاة .

                                                                                                                                وقد وجد ، لكن المستحب أن يبعد عن موضع النجاسة تعظيما لأمر الصلاة ، وإن كانت النجاسة في مكان الصلاة ، فإن كانت قليلة تجوز على أي موضع كانت ; لأن قليل النجاسة عفو في حق جواز الصلاة عندنا على ما مر ، وإن كانت كثيرة فإن كانت في موضع اليدين والركبتين تجوز عند أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر والشافعي لا تجوز وجه قولهما أنه أدى ركنا من أركان الصلاة مع النجاسة فلا يجوز ، كما لو كانت النجاسة على الثوب ، أو البدن ، أو في موضع القيام .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن وضع اليدين والركبتين ليس بركن ، ولهذا لو أمكنه السجود بدون الوضع يجزئه فيجعل كأنه لم يضع أصلا ، ولو ترك الوضع جازت صلاته ، فههنا أولى ، وهكذا نقول فيما إذا كانت النجاسة على موضع القيام : إن ذلك ملحق بالعدم ، غير أن القيام ركن من أركان الصلاة ، فلا يثبت الجواز بدونه بخلاف الثوب ; لأن لابس الثوب صار حاملا للنجاسة مستعملا لها ; لأنها تتحرك بتحركه وتمشي بمشيه لكونها تبعا للثوب ، أما ههنا بخلافه ، وإن كانت النجاسة في موضع القدمين ، فإن قام عليها وافتتح الصلاة لم تجز ; لأن القيام ركن ، فلا يصح بدون الطهارة ، كما لو افتتحها مع الثوب النجس ، أو البدن النجس ، وإن قام على مكان طاهر وافتتح الصلاة ، ثم تحول إلى موضع النجاسة .

                                                                                                                                وقام عليها أو قعد ، فإن مكث قليلا لا تفسد صلاته ، وإن أطال القيام فسدت ; لأن القيام من أفعال الصلاة مقصودا ; لأنه ركن ، فلا يصح بدون الطهارة ، فيخرج من أن يكون فعل الصلاة لعدم الطهارة ، وما ليس من أفعال الصلاة إذا دخل في الصلاة إن كان قليلا يكون عفوا وإلا فلا ، بخلاف ما إذا كانت النجاسة على موضع اليدين والركبتين حيث لا تفسد صلاته ، وإن أطال الوضع ; لأن الوضع ليس من أفعال الصلاة مقصودا بل من توابعها ، فلا يخرج من أن يكون فعل الصلاة تبعا لعدم الطهارة ; لوجود الطهارة في الأصل ، وإن كانت النجاسة في موضع السجود لم يجز في قول أبي يوسف ومحمد ، وعن أبي حنيفة روايتان روى عنه محمد أنه لا يجوز ، وهو الظاهر من مذهبه ، وروى أبو يوسف عنه أنه يجوز وجه قولهما أن الفرض هو السجود على الجبهة .

                                                                                                                                وقدر الجبهة أكثر من قدر الدرهم فلا يكون عفوا وجه رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة أن فرض السجود يتأدى بمقدار أرنبة الأنف عنده ، وذلك أقل من قدر الدرهم فيجوز ، والصحيح رواية محمد ; لأن الفرض وإن كان يتأدى بمقدار الأرنبة عنده ، ولكن إذا وضع الجبهة مع الأرنبة يقع الكل فرضا ، كما إذا طول القراءة زيادة على ما يتعلق به جواز الصلاة ، ومقدار الجبهة والأنف يزيد على قدر الدرهم فلا يكون عفوا ، ثم قوله : إذا سجد على موضع نجس لم تجز أي صلاته ، كذا ذكر في ظاهر الرواية وهو قول زفر

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه لم يجز سجوده ، فأما الصلاة فلا تفسد ، حتى لو أعاد السجود على موضع طاهر جازت صلاته ووجهه أن السجود على موضع نجس ملحق بالعدم ; لانعدام شرط الجواز وهو الطهارة ، فصار كأنه لم يسجد عليه ، وسجد على مكان طاهر وجه ظاهر الرواية أن السجدة أو ركنا آخر لما لم يجز على موضع نجس ; صار فعلا كثيرا ليس من أفعال الصلاة ، وذا يوجب فساد الصلاة ، ولو كانت النجاسة في موضع إحدى القدمين على قياس رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة يجوز ; لأن أدنى القيام هو القيام بإحدى القدمين - وإحداهما طاهرة - فيتأدى به الفرض فكان وضع الأخرى فضلا بمنزلة وضع اليدين والركبتين ، وعلى قياس رواية محمد عنه لا يجوز ، وهو الصحيح ; لأنه إذا وضعهما جميعا يتأدى الفرض بهما ، كما في القراءة على ما مر ، والله تعالى أعلم هذا إذا كان يصلي على الأرض ، فأما إذا كان يصلي على بساط فإن كانت النجاسة في مكان الصلاة - وهي كثيرة - فحكمه حكم الأرض على ما مر ، وإن كانت على طرف من أطرافه اختلف المشايخ فيه قال بعضهم : إن كان البساط كبيرا بحيث لو رفع طرف منه لا يتحرك الطرف الآخر يجوز ، وإلا فلا .

                                                                                                                                كما إذا تعمم بثوب ، وأحد طرفيه ملقى على الأرض ، وهو نجس أنه إن كان بحال لا يتحرك بتحركه جاز [ ص: 83 ] وإن كان يتحرك بحركته لا يجوز ، والصحيح أنه يجوز صغيرا كان أو كبيرا بخلاف العمامة ، ( والفرق ) أن الطرف النجس من العمامة إذا كان يتحرك بتحركه ، صار حاملا للنجاسة مستعملا لها ، وهذا لا يتحقق في البساط ، ألا ترى أنه لو وضع يديه أو ركبتيه على الموضع النجس منه يجوز ؟ ، ولو صار حاملا لما جاز ، ولو صلى على ثوب مبطن ظهارته طاهرة ، وبطانته نجسة ، روي عن محمد أنه يجوز ، وكذا ذكر في نوادر الصلاة .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه لا يجوز ، ومن المشايخ من وفق بين الروايتين فقال : جواب محمد فيما إذا كان مخيطا غير مضرب فيكون بمنزلة ثوبين ، والأعلى منهما طاهر ، وجواب أبي يوسف فيما إذا كان مخيطا مضربا فيكون بمنزلة ثوب واحد ظاهره طاهر ، وباطنه نجس ومنهم من حقق فيه الاختلاف فقال : على قول محمد يجوز كيفما كان ، وعلى قول أبي يوسف لا يجوز كيفما كان .

                                                                                                                                وعلى هذا إذا صلى على حجر الرحا ، أو على باب ، أو بساط غليظ ، أو على مكعب ظاهره طاهر ، وباطنه نجس يجوز عند محمد ، وبه كان يفتي الشيخ أبو بكر الإسكاف ، وعند أبي يوسف لا يجوز ، وبه كان يفتي الشيخ أبو حفص الكبير ، فأبو يوسف نظر إلى اتحاد المحل فقال : المحل محل واحد فاستوى ظاهره وباطنه ، كالثوب الصفيق ، ومحمد اعتبر الوجه الذي يصلى عليه فقال : إنه صلى في موضع طاهر ، وليس هو حاملا للنجاسة فتجوز ، كما إذا صلى على ثوب تحته ثوب نجس بخلاف الثوب الصفيق ; لأن الثوب وإن كان صفيقا فالظاهر نفاذ الرطوبات إلى الوجه الآخر ، إلا أنه ربما لا تدركه العين لتسارع الجفاف إليه ، ولو أن بساطا غليظا ، أو ثوبا مبطنا مضربا وعلى كلا وجهيه نجاسة أقل من قدر الدرهم في موضعين مختلفين ، لكنهما لو جمعا يزيد على قدر الدرهم ، على قياس رواية أبي يوسف يجمع ، ولا تجوز صلاته ; لأنه ثوب واحد ، ونجاسة واحدة ، وعلى قياس رواية محمد لا يجمع ، وتجوز صلاته ; لأن النجاسة في الوجه الذي يصلي فيه أقل من قدر الدرهم ، ولو كان ثوبا صفيقا والمسألة بحالها لا يجوز بالإجماع ; لما ذكرنا أن الظاهر هو النفاذ إلى الجانب الآخر ، وإن كان لا يدركه الحس ، فاجتمع في وجه واحد نجاستان لو جمعتا يزيد على قدر الدرهم فيمنع الجواز ، ولو أن ثوبا ، أو بساطا أصابته النجاسة ونفذت إلى الوجه الآخر ، وإذا جمعا يزيد على قدر الدرهم لا يجمع بالإجماع ، أما على قياس رواية أبي يوسف فلأنه ثوب واحد ونجاسة واحدة .

                                                                                                                                وأما على قياس رواية محمد فلأن النجاسة في الوجه الذي يصلى عليه أقل من قدر الدرهم ، وكذا إذا كان الثوب مبطنا مضربا والمسألة بحالها لا يجمع بالإجماع لما قلنا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية