الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار السفر وآدابه

صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا هم أحدكم بالأمر ، فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي ، وعاجل أمري وآجله ، فاقدره لي ، ويسره لي ، وبارك لي فيه ، وإن كنت تعلمه شرا لي في ديني ومعاشي ، وعاجل أمري وآجله ، فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، [ ص: 405 ] ثم رضني به " قال : ويسمي حاجته ) ، قال : رواه البخاري .

فعوض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بهذا الدعاء ، عما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين ، يطلبون بها علم ما قسم لهم في الغيب ، ولهذا سمي ذلك استقساما ، وهو استفعال من القسم ، والسين فيه للطلب وعوضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار ، وعبودية ، وتوكل ، وسؤال لمن بيده الخير كله الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يصرف السيئات إلا هو الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطع أحد حبسها عنه ، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه . فهذا الدعاء ، هو الطالع الميمون السعيد ، طالع أهل السعادة والتوفيق ، الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان ، الذين يجعلون مع الله إلها آخر ، فسوف يعلمون .

فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجوده سبحانه ، والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة ، والإقرار بربوبيته ، وتفويض الأمر إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، والخروج من عهدة نفسه ، والتبري من الحول والقوة إلا به ، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها ، وإرادته لها ، وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره وإلهه الحق .

وفي " مسند الإمام أحمد " من حديث سعد بن أبي وقاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه بما قضى الله ، ومن شقاوة ابن آدم [ ص: 406 ] ترك استخارة الله ، وسخطه بما قضى الله ) .

فتأمل كيف وقع المقدور مكتنفا بأمرين : التوكل الذي هو مضمون الاستخارة قبله ، والرضى بما يقضي الله له بعده ، وهما عنوان السعادة . وعنوان الشقاء أن يكتنفه ترك التوكل والاستخارة قبله ، والسخط بعده ، والتوكل قبل القضاء . فإذا أبرم القضاء وتم ، انتقلت العبودية إلى الرضى بعده ، كما في " المسند " ، وزاد النسائي في الدعاء المشهور : ( وأسألك الرضى بعد القضاء ) . وهذا أبلغ من الرضى بالقضاء ، فإنه قد يكون عزما فإذا وقع القضاء ، تنحل العزيمة ، فإذا حصل الرضى بعد القضاء ، كان حالا أو مقاما .

والمقصود أن الاستخارة توكل على الله وتفويض إليه واستقسام بقدرته وعلمه ، وحسن اختياره لعبده ، وهي من لوازم الرضى به ربا ، الذي لا يذوق طعم الإيمان من لم يكن كذلك ، وإن رضي بالمقدور بعدها ، فذلك علامة سعادته .

وذكر البيهقي وغيره عن أنس رضي الله عنه قال : لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم سفرا قط إلا قال حين ينهض من جلوسه : ( اللهم بك انتشرت ، وإليك توجهت ، وبك اعتصمت ، وعليك توكلت ، اللهم أنت ثقتي ، وأنت رجائي ، اللهم اكفني ما أهمني وما لا أهتم له ، وما أنت أعلم به مني ، عز جارك ، وجل ثناؤك ، ولا إله غيرك ، اللهم زودني التقوى ، واغفر لي ذنبي ، ووجهني للخير أينما توجهت ) ، ثم يخرج .

التالي السابق


الخدمات العلمية