الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              والأحاديث في هذا كثيرة ، مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر . وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 271 ] ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة . وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة " . وفي رواية : لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته ، ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة . وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ، وفيمن معه من المسلمين خيرا " ثم قال : اغزوا باسم الله وفي سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا . وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو : خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم " الحديث . فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول .

              وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم : هل يغدر ؟ فقال : لا يغدر ، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها . قال : ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة . وقال هرقل في جوابه : سألتك هل يغدر ؟ فذكرت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر " ، فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين .

              وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أحق الشروط أن توفوا به : ما استحللتم به الفروج " ، فدل على [ ص: 272 ] استحقاق الشروط بالوفاء ، وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها .

              وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره " . فذم الغادر ، وكل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدر .

              فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود ، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك ، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك .

              ولما كان الأصل فيها الحظر والفساد ، إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا ، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه لم يجز أن يؤمر بقتل النفس ويحمل على القدر المباح ، بخلاف ما كان جنسه واجبا ، كالصلاة والزكاة ، فإنه يؤمر به مطلقا . وإن كان لذلك شروط وموانع فينهى عن الصلاة بغير طهارة ، وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك . وكذلك الصدق في الحديث مأمور به ، وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ويجب السكوت أو التعريض .

              وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به علم أن الأصل صحة العقود والشروط ، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده . ومقصود العقد : هو الوفاء به ، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود ، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة .

              وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال ، [ ص: 273 ] حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ، والمسلمون على شروطهم " . وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية : هو ثقة ، وضعفه في رواية أخرى .

              وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ، [ والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا ] ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وروى ابن ماجه منه اللفظ الأول ، لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة . وضرب أحمد على حديثه في المسند فلم يحدث به . فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه . وقد روى أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الناس على شروطهم ما وافق الحق " ، وهذه الأسانيد - وإن كان الواحد منها ضعيفا - فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا .

              وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة ، وهو حقيقة [ ص: 274 ] المذهب ، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله ، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله . وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله ، وإنما المشترط له أن يكون يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه . فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما ، وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب ، حتى يكون المشترط مناقضا للشرع ، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا . فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض ما لم يكن واجبا ويباح أيضا لكل منهما ما لم يكن مباحا ، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما . وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين . وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها ، فإنه يجب ، ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك .

              وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط ، قال : لأنها إما أن تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا أو تسقط واجبا ، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع ، وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض ، وليس كذلك ، بل كل ما كان حراما بدون الشرط ، فالشرط لا يبيحه كالربا وكالوطء في ملك الغير ، وكثبوت الولاء لغير المعتق ، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح ، أو ملك يمين ، فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك ، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز ، وكذلك الولاء ، فقد " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته " ، وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد . وقال صلى الله عليه وسلم : من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا [ ص: 275 ] يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره ، وانتساب المعتق إلى غير مولاه . فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط ، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما ، وأما ما كان مباحا بدون الشرط فالشرط يوجبه ، كالزيادة في المهر والثمن والرهن وتأخير الاستيفاء . فإن الرجل له أن يعطي المرأة ، وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار ، ونحو ذلك ، فإذا شرطه صار واجبا ، وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه ، لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط . فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية