الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            وأخرج ابن عساكر عن عمر بن الخطاب أنه دعا الأسقف فقال : هل تجدونا في شيء من كتبكم ؟ قال : نجد صفتكم وأعمالكم ، وأخرج البيهقي في دلائل النبوة عن محمد بن يزيد الثقفي قال : اصطحب قيس بن خرشة ، وكعب الأحبار حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة ثم قال : ليهراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يهراق ببقعة من الأرض مثله ، فقال قيس : ما يدريك فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله به ؟ فقال كعب : ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة الذي أنزل الله على موسى ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة ، وأخرج عبد الله بن أحمد في روايات الزهد عن هشام بن خالد الربعي قال : قرأت في التوراة : إن السماء والأرض تبكي على عمر بن عبد العزيز أربعين سنة .

            والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا وقد سردتها في كتاب المعجزات ، وحاصلها القطع بأن الله بين لأنبيائه جميع ما يتعلق بهذه الأمة من أحكام وما يحدث فيها من حوادث وفتن ، فعلم الأنبياء ذلك بطريق الوحي من الله من غير احتياج إلى أن يأخذوه باجتهاد أو تقليد - هذا ما يتعلق بالطريق الأول - وقد اعترض علي في هذا الطريق بأنه يلزم عليه أن يكون كل ما في القرآن مضمنا في جميع الكتب السابقة ، وأقول : لا مانع من ذلك ، بل دلت الأدلة على ثبوت هذا اللازم قال تعالى : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين ) إلى قوله : ( وإنه لفي زبر الأولين ) ، أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : ( وإنه لتنزيل رب العالمين ) قال : القرآن ، وفي قوله : ( وإنه لفي زبر الأولين ) قال : أي في كتب الأولين ، وأخرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية قال : يقول : إنه في الكتب التي أنزلها على الأولين .

            وأخرج عن مبشر بن عبيد القرشي في قوله : ( أولم يكن لهم آية ) قال : يقول [ ص: 193 ] أولم يكن لهم القرآن آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ، فقد دلت هذه الآية وكلام السلف في تفسيرها على أن المعاني التي تضمنها القرآن موجودة في كتب الله السابقة ، وقد نص على هذا بعينه الإمام أبو حنيفة ، حيث استدل بهذه الآية على جواز قراءة القرآن بغير اللسان العربي ، وقال : إن القرآن مضمن في الكتب السابقة وهي بغير اللسان العربي أخذا من هذه الآية ، ومما يشهد بذلك وصفه تعالى للقرآن في عدة مواضع بأنه مصدق لما بين يديه من الكتب ، فلولا أن ما فيه موجود فيها لم يصح هذا الوصف ، من ذلك قوله تعالى : ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) أخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال : القرآن أمين على الكتب فيما أخبرنا أهل الكتاب عن كتابهم ، فإن كان في القرآن فصدقوا ، وإلا فكذبوا .

            وأخرج عن ابن زيد في الآية قال : كل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زبور فالقرآن مصدق على ذلك ، كل شيء ذكر الله في القرآن فهو مصدق عليها وعلى ما حدث عنها أنه حق ، ومن ذلك قوله تعالى : ( إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) . أخرج البزار بسند صحيح عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : كان كل هذا في صحف إبراهيم وموسى .

            وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس قال : هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى .

            وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : إن هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى مثل ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم .

            وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في قوله : ( إن هذا لفي الصحف الأولى ) قال : ما قص الله في هذه السورة .

            وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن : ( إن هذا لفي الصحف الأولى ) قال : في كتب الله كلها ، ومن ذلك قوله تعالى : ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ) ( أن لا تزر ) الآيات . فقد دل ذلك وأمثاله من القرآن على أن معاني القرآن موجودة في كتب الله تعالى التي أنزلها على أنبيائه ، والله تعالى أعلم .

            الطريق الثاني : أن عيسى صلى الله عليه وسلم يمكن أن ينظر في القرآن فيفهم منه جميع الأحكام [ ص: 194 ] المتعلقة بهذه الشريعة من غير احتياج إلى مراجعة الأحاديث كما فهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من القرآن ، فإن القرآن العزيز قد انطوى على جميع الأحكام الشرعية ، وفهمها النبي صلى الله عليه وسلم بفهمه الذي اختص به ، ثم شرحها لأمته في السنة ، وأفهام الأمة تقصر عن إدراك ما أدركه صاحب النبوة ، وعيسى صلى الله عليه وسلم نبي فلا يبعد أن يفهم من القرآن كفهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وشاهد ما قلناه من أن جميع الأحكام الشرعية فهمها النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن - قول الإمام الشافعي رضي الله عنه : جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن . ويؤيده ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " من حديث عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه .

            وقال الشافعي أيضا : جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة ، وجميع السنة شرح للقرآن .

            وقال الشافعي أيضا : ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها .

            وقال ابن برجان : ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن أو فيه أصله ، قرب أو بعد ، فهمه من فهمه ، وعمه من عمه ، وكذا كل ما حكم أو قضى به .

            وقال بعضهم : ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله حتى إن بعضهم استنبط عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين من قوله في سورة المنافقين : ( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ) فإنها رأس ثلاث وستين سورة ، وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده .

            وقال المرسي في تفسيره : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه ، ثم روت عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم ، مثل الخلفاء الأربعة ، ومثل ابن مسعود ، وابن عباس حتى قال : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله ، وقال صلى الله عليه وسلم : سيكون فتن ، قيل : وما المخرج منها ؟ قال : كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم . رواه الترمذي .

            وقال الله تعالى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) . وقال تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة . رواه ابن أبي حاتم في تفسيره ، وأبو الشيخ بن حيان في " كتاب العظمة " .

            وقال ابن مسعود : من أراد العلم فعليه بالقرآن ، فإن فيه خبر الأولين والآخرين . رواه سعيد بن منصور في سننه .

            وقال ابن مسعود أيضا : أنزل في هذا القرآن كل علم ، وبين لنا فيه كل شيء ، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا [ ص: 195 ] في القرآن . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما .

            وقال ابن مسعود : إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله . رواه ابن أبي حاتم ، وقال سعيد بن جبير : ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله - رواه ابن أبي حاتم .

            فعرف بمجموع ما ذكرناه أن جميع الشريعة منطوية تحت ألفاظ القرآن ، غير أنه لا ينهض لإدراكها منه إلا صاحب النبوة .

            قال بعض العلماء : العبادة في القرآن للعامة ، والإشارة للخاصة ، واللطائف للأولياء ، والحقائق للأنبياء ، وعيسى عليه السلام نبي رسول ، فيفهم من القرآن ما انطوى عليه ويحكم به وإن خالف الإنجيل ، وهذا معنى كونه يحكم بشرع نبينا صلى الله عليه وسلم ، فهذان طريقان كل منهما محتمل في معرفة عيسى صلى الله عليه وسلم بأحكام هذه الشريعة ، ومأخذهما قوي في غاية الاتجاه ، والله أعلم .

            الطريق الثالث : ما أشار إليه جماعة من العلماء منهم السبكي وغيره ، أن عيسى عليه السلام - مع بقائه على نبوته - معدود في أمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وداخل في زمرة الصحابة ، فإنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو حي مؤمنا به ومصدقا ، وكان اجتماعه به مرات في غير ليلة الإسراء من جملتها بمكة ، روى ابن عدي في " الكامل " عن أنس قال : بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا ، فقلنا : يا رسول الله ما هذا البرد الذي رأينا واليد ؟ قال : قد رأيتموه ؟ قلنا : نعم ، قال : ذاك عيسى ابن مريم سلم علي .

            وأخرج ابن عساكر من طريق آخر ، عن أنس قال : كنت أطوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة ، إذ رأيته صافح شيئا لا نراه ، قلنا : يا رسول الله ، رأيناك صافحت شيئا ولا نراه ! قال : ذاك أخي عيسى ابن مريم ، انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه . فحينئذ لا مانع من أن يكون تلقى من النبي صلى الله عليه وسلم أحكامه المتعلقة بشريعته المخالفة لشريعة الإنجيل ؛ لعلمه بأنه سينزل في أمته ويحكم فيهم بشريعته ، فأخذها عنه بلا واسطة .

            وقد روى ابن عساكر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن ابن مريم ليس بيني وبينه نبي ولا رسول ، إلا أنه خليفتي في أمتي من بعدي .

            وقد رأيت في عبارة السبكي في تصنيف له ما نصه : إنما يحكم عيسى بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة ، وحينئذ فيترجح أن أخذه للسنة من النبي صلى الله عليه وسلم بطريق المشافهة من غير واسطة ، وقد عده بعض المحدثين في جملة الصحابة هو والخضر وإلياس .

            قال الذهبي في " تجريد الصحابة " : عيسى ابن مريم عليه السلام نبي وصحابي ؛ فإنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسلم عليه ، فهو آخر الصحابة موتا . انتهى .

            [ ص: 196 ] وقول السائل : وكيف حكمه في أموال بيت المال ، أيقر ذلك على ما هو الآن ؟ كلام في غاية العجب ؛ فإن أموال بيت المال جارية الآن على غير القانون الشرعي ، ولا يقر نبي على ذلك ، وقد قال أصحابنا في المواريث : إنه لا يورث بيت المال إلا عند انتظامه ، وانتظامه أن يكون كما كان في أيام الصحابة ، وقد قال ابن سراقة من أئمتنا وهو قبل الأربعمائة : لبيت المال سنين كثيرة ما استقام ، فكيف قرب التسعمائة ولا يزداد الأمر إلا شدة ، وقد ألفت كتابا في آداب الملوك ، من طالع ما فيه من الأحاديث والآثار علم أن غالب أمور بيت المال جارية الآن على غير القانون الشرعي ، وقد وردت الأحاديث بأن المهدي يأتي قبل عيسى ابن مريم ، فيملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا ، ويأتي عيسى فيقر صنع المهدي ، ومما يعدل فيه المهدي أنه يقسم بين المسلمين فيئهم الذي استولى عليه ولاة الأتراك وأكلوه واستبدوا به دونهم .

            روى الإمام أحمد في مسنده ، والبزار ، والطبراني ، وأبو نعيم ، والحاكم في مستدركه بسند صحيح ، عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك أن يملأ الله أيديكم من العجم ، فيأكلون فيئكم .

            وورد ذلك أيضا من حديث أنس ، وحذيفة ، وابن عمرو ، وأبي موسى الأشعري ، وروى ابن حبان في صحيحه عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهدي أنه يقسم بين المسلمين فيئهم ، ويعمل فيهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض ، يمكث سبع سنين .

            وأخرج أحمد في مسنده ، وأبو يعلى بسند جيد ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشركم بالمهدي ، يبعث على اختلاف من الناس وزلازل ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض ، يقسم المال صحاحا . قيل : ما صحاحا ؟ قال : بالسوية بين الناس ، ويملأ قلوب أمة محمد غنى ، ويسعهم عدله ، حتى يأمر مناديا فينادي : من له في مال حاجة ، فما يقوم من الناس إلا رجل واحد ، فيكون كذلك سبع سنين .

            وقول السائل : وما صدر فيها من الأوقاف ؟ جوابه : أن ما كان منها وقفا على وجوه البر ، ومصالح المسلمين ، والعلماء ، والقراء ، وذرية النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقاربه ، والفقراء ، والمرضى ، والزمنى ، والمنقطعين ، والمدارس ، والمساجد ، والحرمين ، وبيت المقدس ، وكسوة الكعبة ، وما شاكل ذلك ، فهو وقف صحيح موافق للشريعة ، فيقره ، وما كان موقفا على نساء الملوك والأمراء وأولادهم فهو وقف باطل مخالف للشريعة ، فيبطله .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية