الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              455 منصور بن عمار

              قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله تعالى : ومنهم منصور بن عمار رحمه الله تعالى كان لآلاء الله واصفا ، وعلى بابه عاكفا ، يحوش العباد إليه ويلح في المسألة عليه .

              حدثنا إسحاق بن أحمد بن علي ، ثنا إبراهيم بن يوسف بن خالد ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : سمعت عبد الرحمن بن المطوف يقول : " رئي منصور بن عمار بعد موته فقيل له : يا منصور ما فعل بك ربك . قال : غفر لي [ ص: 326 ] وقال لي : يا منصور قد غفرت لك على تخليط منك كثير ، إلا أنك كنت تحوش الناس إلى ذكري " .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا مسلم بن عصام ، ثنا عبد الرحمن بن عمر رسته ، ثنا يوسف بن عبد الله الحراني ، عن منصور بن عمار ، قال : " كتب إلي بشر المريسي أعلمني ما قولكم في القرآن مخلوق هو أو غير مخلوق ؟ فكتبت إليه : بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد ، عافانا الله وإياك من كل فتنة ، فإن يفعل فأعظم بها نعمة ، وإن لم يفعل فهو الهلكة ، كتبت إلي أن أعلمك ؛ القرآن مخلوق أو غير مخلوق ، فاعلم أن الكلام في القرآن بدعة ، يشترك فيها السائل والمجيب ، فتعاطى السائل ما ليس له بتكلف والمجيب ما ليس عليه ، والله تعالى الخالق وما دون الله مخلوق ، والقرآن كلام الله غير مخلوق فانته بنفسك وبالمختلفين في القرآن إلى أسمائه التي سماه الله بها تكن من المهتدين ، ولا تبتدع في القرآن من قلبك اسما فتكون من الضالين ، وذر الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ، جعلنا الله وإياكم ممن يخشونه بالغيب وهم من الساعة مشفقون " .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا عبد الله بن محمد بن الحجاج ، ثنا محمد بن علي بن خلف ، ثنا زهير بن عباد ، ثنا منصور بن عمار ، قال : " قال سليمان بن داود : إن الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده " .

              حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أبو الحسن البغدادي ، عن بعض إخوانه ، قال : قال سليمان بن منصور : " كنت في مجلس أبي منصور فوقعت رقعة في المجلس ، فإذا فيها بسم الله الرحمن الرحيم ، يا أبا السري ، أنا رجل من إخوانك تبت على يديك وأنا اشتريت من الله عز وجل حورا على صداق ثلاثين ختمة ، فختمت منها تسعا وعشرين ، فأنا في الثلاثين إذ حملتني عيناي فرأيت كأن حوراء خرجت علي من المحراب ، فلما رأتني أنظر إليها أنشأت تقول برخيم صوتها :


              أتخطب مثلي وعني تنام ونوم المحبين عني حرام     لأنا خلقنا لكل امرئ
              كثير الصلاة براه الصيام



              [ ص: 327 ] فانتبهت وأنا مذعور .

              حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أبو القاسم بن الأسود ، ثنا أبو علي بن دسيم الزقاق ، قال : سمعت عبدك العابد ، يقول : قيل لمنصور بن عمار : تكلم بهذا الكلام ونرى منك أشياء . فقال : " احسبوني ذرة وجدتموها على كناسة مكانها " .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : سمعت محمد بن عبد الرحيم بن شبيب ، يقول : سمعت سليم بن منصور بن عمار ، سمعت أبي يقول : دخلت على سفيان بن عيينة فحدثني ووعظته ، فلما أثارت الأحزان دموعه رفع رأسه إلى السماء فرددها في عينيه : فأنشأت أقول : رحمك الله يا أبا محمد هلا أسبلتها إسبالا ؟! وتركتها تجري على خديك سجالا ؟! فقال لي : " يا منصور إن الدمعة إذا بقيت في الجفون كان أبقى للحزن في الجوف ، لقد رأى سفيان أن يعمر قلبه بالأحزان ، وأن يجعل أيام الحياة عليه أشجانا ، ولولا ذلك لاستراح إلى إسبال الدموع ومشاركة ما أرى من الجوع " .

              سمعت الحسين بن عبد الله النيسابوري ، يقول : سمعت محمد بن الحسين بن موسى ، يقول : قال منصور بن عمار : " قلوب العباد كلها روحانية ، فإذا دخلها الشك والخبث امتنع منها روحها " .

              وقال : " إن الحكمة تنطق في قلوب العارفين بلسان التصديق ، وفي قلوب الزاهدين بلسان التفضيل ، وفي قلوب العباد بلسان التوفيق ، وفي قلوب المريدين بلسان التفكير ، وفي قلوب العلماء بلسان التذكير ، ومن جزع من مصائب الدنيا تحولت مصيبته في دينه " .

              وقال : " سبحان من جعل قلوب العارفين أوعية الذكر ، وقلوب أهل الدنيا أوعية الطمع ، وقلوب الزاهدين أوعية التوكل ، وقلوب الفقراء أوعية القناعة ، وقلوب المتوكلين أوعية الرضا " .

              وقال : " أحسن لباس العبد التواضع والانكسار ، وأحسن لباس العارفين التقوى . قال الله تعالى : ( ولباس التقوى ذلك خير ) " .

              وقال منصور : " سلامة النفس في مخالفاتها ، وبلاؤها في متابعاتها .

              حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق ، ثنا محمد بن إسحاق السراج ، قال : [ ص: 328 ] سمعت أحمد بن موسى الأنصاري ، يقول : قال منصور بن عمار : " حججت حجة فنزلت سكة من سكك الكوفة ، فخرجت في ليلة مظلمة طخيا مسحنككة فإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل ، وهو يقول : إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل ، ولكن خطيئة عرضت وأعانني عليها شقائي ، وغرني سترك المرخى علي ، وقد عصيتك بجهدي وخالفتك بجهلي ، فالآن عن عذابك من يستنقذني ؟ وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك ، واشباباه ، واشباباه !! قال : فلما فرغ من قوله تلوت آية من كتاب الله تعالى : ( نارا وقودها الناس والحجارة ) الآية .

              فسمعت دكدكة لم أسمع بعدها حسا ، فمضيت فلما كان من الغد رجعت في مدرجتي فإذا أنا بجنازة ، قد أخرجت وإذا أنا بعجوز قد ذهب متنها - يعني قوتها - فسألتها عن أمر الميت - ولم تكن عرفتني - فقالت : هذا رجل لا جزاه إلا جزاءه مر بابني البارحة وهو قائم يصلي ، فتلا آية من كتاب الله تعالى ؛ فتفطرت مرارته فوقع ميتا رحمه الله تعالى " . حدث به إبراهيم بن أبي طالب النيسابوري ، عن ابن أبي الدنيا ، عن محمد بن إسحاق السراج .

              وحدثنا أبي ، ثنا خالي أحمد بن محمد بن يوسف ، حدثني أبي قال : أخبرت عن منصور بن عمار ، أنه قال : " خرجت ليلة من الليالي وظننت أن النهار قد أضاء فإذا الصبح علا ، فقعدت إلى دهليز يشرف ، فإذا أنا بصوت شاب يدعو ويبكي ، وهو يقول : اللهم وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، ولكن عصيتك إذ عصيتك بجهلي ، وما أنا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولا بنظرك مستخف ، ولكن سولت لي نفسي وأعانني عليها شقوتي ، وغرني سترك المرخى علي ، فقد عصيتك وخالفتك بجهلي ، فمن عذابك من يستنقذني ، ومن أيدي زبانيتك من يخلصني ، وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك عني ، واسوءتاه إذا قيل للمخفين جوزوا ، وقيل للمثقلين حطوا ، فيا ليت شعري مع المثقلين أحط أم مع المخفين أجوز ، ويحي كلما طال عمري كثرت ذنوبي ، ويحي كلما كبر سني كثرت خطاياي ، فيا ويلي كم أتوب ، وكم أعود ولا أستحي من ربي .

              قال منصور : فلما سمعت كلام الشاب وضعت [ ص: 329 ] فمي على باب داره ، وقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : إن الله هو السميع العليم : ( نارا وقودها الناس والحجارة ) الآية . قال منصور : ثم سمعت للصوت اضطرابا شديدا وسكن الصوت . فقلت : إن هناك بلية ، فعلمت على الباب علامة ومضيت لحاجتي ، فلما رجعت من الغداة إذ أنا بجنازة منصوبة ، وعجوز تدخل وتخرج باكية ، فقلت لها : يا أمة الله من هذا الميت منك ؟ قالت : إليك عني ، لا تجدد علي أحزاني ، قلت : إني رجل غريب أخبريني . قالت : والله لولا أنك غريب ما خبرتك ، هذا ولدي من موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا جن عليه الليل قام في محرابه يبكي على ذنوبه ، وكان يعمل هذا الخوص فيقسم كسبه ثلاثا ؛ فثلث يطعمني وثلث للمساكين وثلث يفطر عليه ، فمر علينا البارحة رجل لا جزاه الله خيرا فقرأ عند ولدي آيات فيها النار فلم يزل يضطرب ويبكي حتى مات رحمه الله . قال منصور : فهذه صفة الخائفين إذا خافوا السطوة " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية