الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز لعادم الماء أن يتيمم إلا بعد الطلب ، لقوله تعالى : " { فلم تجدوا ماء فتيمموا } " ولا يقال لم يجد إلا بعد الطلب ، ولأنه بدل أجيز عند عدم المبدل فلا يجوز فعله إلا بعد ثبوت العدم كالصوم في الكفارة لا يفعله حتى يطلب الرقبة ، ولا يصح الطلب إلا بعد دخول الوقت ، لأنه إنما يطلب ليثبت شرط التيمم وهو عدم الماء ، فلم يجز في وقت لا يجوز فيه فعل التيمم ، والطلب أن ينظر عن يمينه وشماله ، وأمامه ووراءه ، فإن كان بين يديه حائل من جبل أو غيره صعده ونظر حواليه ، وإن كان معه رفيق سأله عن الماء ) .

                                      [ ص: 287 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 287 ] الشرح ) في الفصل مسائل ( إحداها ) لا يجوز لعادم الماء التيمم إلا بعد طلبه ، هذا مذهبنا وبه قال مالك وداود وهو رواية عن أحمد . قال أبو حنيفة : إن ظن بقربه ماء لزمه طلبه وإلا فلا . واحتج له بأنه عادم للأصل فانتقل إلى بدله ، كما لو عدم الرقبة في الكفارة ، ينتقل إلى الصوم ، واحتج أصحابنا بقوله تعالى : { فلم تجدوا } قال الشافعي والأصحاب : لا يقال لم يجد إلا لمن طلب فلم يصب .

                                      فأما من لم يطلب فلا يقال : لم يجد . ونقلوا هذا عن أهل اللغة قالوا : ولهذا لو قال لوكيله : اشتر لي رطبا فإن لم تجد فعنبا لا يجوز أن يشتري العنب قبل طلب الرطب ، وبالقياس على الرقبة في الكفارة والهدي في التمتع فإنه لا ينتقل إلى بدلهما إلا بعد طلبهما في مظانهما . وبالقياس على الحاكم فإنه لا ينتقل إلى القياس إلا بعد طلب النص في مظانه ، ولأنه شرط من شروط الصلاة قد يصادف بالطلب ، فوجب طلبه كالقبلة . وأما قياسهم على الرقبة فرده أصحابنا وقالوا : لا ينتقل إلى الصوم إلا بعد طلب الرقبة في مظانها ، والله أعلم . المسألة الثانية : هذا الذي أطلقه المصنف من القطع بوجوب الطلب بكل حال هو الذي أطلقه العراقيون وبعض الخراسانيين ، وقال جماعات من الخراسانيين : إن تحقق عدم الماء حواليه لم يلزمه الطلب ، وبهذا قطع إمام الحرمين والغزالي وغيرهما واختاره الروياني . ومنهم من ذكر فيه وجهين ، قال الرافعي : أصح الوجهين في هذه الصورة أنه لا يجب الطلب .

                                      قال إمام الحرمين : إنما يجب الطلب إذا توقع وجود الماء توقعا قريبا أو مستبعدا ، فإن ` قطع بأن لا ماء هناك بأن يكون في بعض رمال البوادي فيعلم بالضرورة استحالة وجود ماء لم نكلفه التردد لطلبه لأن طلب ما يعلم استحالة وجوده محال ، ثم هذا الذي ذكره هؤلاء هو فيما إذا تيقن أن لا ماء هناك ، فأما إذا ظن العدم ولم يتيقنه فيجب الطلب بلا خلاف عند جميعهم ، وصرحوا كلهم به إلا صاحب الإبانة فإنه حكى فيه وجهين وأنكرهما إمام الحرمين عليه وقال : لست أثق بهذا النقل وإنما الوجهان في التيمم الثاني ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى . الثالثة : قال أصحابنا : لا يصح الطلب إلا بعد دخول الوقت ودليله [ ص: 288 ] ما ذكره المصنف ، فإن طلب وهو شاك في دخول الوقت ثم بان أنه وافق الوقت لم يصح طلبه . صرح به الماوردي وآخرون كما قلنا في التيمم نفسه ، وكما لو صلى شاكا في الوقت أو إلى جهة بغير اجتهاد فوافق ، فإنه لا يصح . وقد سبقت هذه القاعدة في فرع - في باب مسح الخف - فإن قيل : إذا طلب قبل الوقت فدخل الوقت ولم يفارق موضعه ، ولا تجدد ما يحتمل وجود ماء ، كان طلبه ثانيا عبثا . فالجواب ما أجاب به صاحب الشامل وغيره أنه إنما يتحقق عدم وجود ماء إذا كان ناظرا إلى مواضع الطلب ولم يتجدد فيها شيء ، وهذا يكفيه في الطلب بعد دخول الوقت والله أعلم .

                                      ( فرع ) لو طلب في أول الوقت وأخر التيمم فتيمم في آخر الوقت جاز ما لم يحدث ما يوجب تجديد الطلب ، صرح به البغوي والروياني والشاشي وصاحب البيان وآخرون . الرابعة : في صفة الطلب ، قال أصحابنا أول الطلب أن يفتش رحله ثم ينظر حواليه يمينا وشمالا وقداما وخلفا ، ولا يلزمه المشي أصلا بل يكفيه نظره في هذه الجهات وهو في مكانه هذا إن كان الذي حواليه لا يستتر عنه ، فإن كان بقربه جبل صغير ونحوه صعده ونظر حواليه ، إن لم يخف ضررا على نفسه أو ماله الذي معه أو المخلف في رحله فإن خاف لم يلزمه المشي إليه قال الشافعي في البويطي : " وليس عليه أن يدور في الطلب ، لأن ذلك أكثر ضررا عليه من إتيان الماء في الموضع البعيد وليس ذلك عليه عند أحد " هذا نصه بحروفه وهكذا ذكر الطلب الأصحاب في الطريقتين ، كما ذكرته . وحكى إمام الحرمين هذا عن صاحب التقريب ، ثم حكى عن شيخه أنه يتردد قليلا ، قال الإمام : وليس بينهما اختلاف عندي . بل ذلك يختلف باختلاف الأرض فنضبطه ونقول : لا يلزمه أن يبعد عن منزل الرفقة نصف فرسخ ، ولا نقول : لا يفارق الخيام بل يطلب من موضع لو انتهى إليه واستغاث بالرفقة لم يبعد عنه غوثهم مع ما هم عليه من تشاغلهم بأقوالهم وأفعالهم . ويختلف باختلاف الأرض واستوائها فإن وصله نظره كفى وإلا تردد قليلا ، وتابع الغزالي وغيره الإمام في هذا الضبط . قال الرافعي بعد حكايته كلام الإمام : هذا الضبط لا يوجد لغير الإمام لكن الأئمة بعده تابعوه عليه وليس في الطريق [ ص: 289 ] ما يخالفه ( قلت ) بل قد خالفه الأصحاب فإن ضبطهم الذي حكيته أولا يخالف ضبطه والله أعلم .

                                      هذا كله إذا لم يكن معه رفقة . فإن كان وجب سؤالهم إلى أن يستوعبهم أو يضيق الوقت فلا يبقى إلا ما يسع تلك الصلاة ، هذا هو المذهب الصحيح المشهور وبه قطع البغوي وغيره ، وفي وجه إلى أن يبقى من الوقت ما يسع ركعة ، حكاه صاحبا التتمة والبحر ، وفي وجه ثالث : يستوعبهم وإن خرج الوقت ، حكاه الرافعي وهو والذي قبله ضعيفان . قال أصحابنا : وله أن يطلب بنفسه ، وله أن يوكل ثقة عنده يطلب له ، سواء فيه الطلب بالنظر في الأرض والطلب من الرفقة . قال أصحابنا : ولا يجب أن يطلب من كل واحد بعينه بل ينادي فيهم : من معه ماء ؟ من يجود بالماء ؟ أو نحو هذه العبارة . قال البغوي وغيره : لو قلت الرفقة لم يلزم الطلب من كل واحد بعينه ، قال أصحابنا : ولو بعث النازلون واحدا يطلب لهم أجزأ عنهم كلهم ولا فرق في جواز التوكيل في الطلب بين المعذور وغيره ، هذا هو المذهب الصحيح المشهور . وحكى الخراسانيون وجها ، أنه لا يجوز التوكيل في الطلب إلا لمعذور ، قال المتولي : هذا الوجه مبني على الوجه السابق أنه إذا يممه غيره بلا عذر لم يصح ، وهذا الوجه شاذ ضعيف ، وكذا المبني عليه . ولو طلب له غيره بغير إذنه لم يجزه بلا خلاف . قال صاحب الحاوي : والطلب من الرفقة معتبر لمنزل الذي فيه رفقته ، وليس عليه طلبه في غير المنزل المنسوب إلى منزله ، فيسأله من فيه من أهله وغير أهله بنفسه أو بمن يصدقه عن الماء معهم أو في منزلهم ، فمن أخبره عن الماء بالمنزل لم يعتمده إلا أن يكون ثقة ، ومن أخبره أن لا ماء بيده عمل بقوله وإن كان فاسقا ; لأنه إن لم يكن صادقا فهو مانع .

                                      قال أصحابنا : فإذا علم أن مع أحد الرفقة ماء وجب استيهابه ، فإن وهب له وجب قبوله ، هذا هو الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور ، ونقله المحاملي والبغوي وغيرهما ، عن نص الشافعي ، وفيه وجه أنه لا يلزمه قبول الهبة حكاه المتولي وآخرون من الخراسانيين وصاحب البيان وهو شاذ [ ص: 290 ] مردود إذ لا منة فيه . ووجه ثالث : أنه يجب قبول الهبة لكن لا يجب الاستيهاب . حكاه الشيخ أبو حامد والمحاملي وإمام الحرمين والغزالي والمتولي والبغوي وغيرهم لصعوبة السؤال على أهل المروءة ، كما لا يجب استيهاب ثمن الرقبة في الكفارة ، والمذهب الأول لأنه لا منة بالماء في العادة بخلاف الرقبة ، ولهذا لو وهبت الرقبة ابتداء لم يجب قبولها بخلاف الماء ، هذا كله فيمن أراد التيمم ولم يسبق له طلب ، فإن كان سبق له طلب وتيمم ، وأراد تيمما آخر لبطلان الأول بحدث أو غيره أو لفريضة أخرى أو لغير ذلك ، فهل يحتاج إلى إعادة الطلب ؟ ينظر فإن احتمل ولو على ندور حصول الماء بأن انتقل من موضع التيمم أو طلع ركب أو سحابة أو نحو ذلك وجب الطلب بلا خلاف حسب ما تقدم ، فكل موضع تيقن بالطلب الأول أن لا ماء فيه ولم يحتمل حدوث ماء فيه لهذا السبب لا يجب الطلب منه على أصح الوجهين عند الخراسانيين ، والذي ظن أن لا ماء فيه يجب الطلب منه بلا خلاف على الوجه الشاذ الذي قدمناه عن صاحب الإبانة . وأما إذا لم يحتمل حدوث ماء ولم يفارق موضعه فإن كان تيقن بالطلب الأول أن لا ماء فحكمه ما سبق أنه لا يلزمه الطلب على الأصح عند الخراسانيين ، وإن لم يتيقنه ، بل ظن العدم فإنه يكفي ذلك في الأول ، فهل يحتاج في الثاني إلى إعادة الطلب ؟ فيه وجهان مشهوران للخراسانيين . أصحهما عند إمام الحرمين وغيره : يحتاج ، وبه قطع البغوي ، وهو مقتضى إطلاق العراقيين ، بل صرح به جماعة منهم كالشيخ أبي حامد والماوردي لأنه قد يحصل ماء من بئر خفيت أو بدلالة شخص . فعلى هذا قال إمام الحرمين والبغوي وغيرهما : يكون الطلب الثاني أخف من الأول ولا يجب أن يطلب ثانيا من رحله لأنه علم أن لا ماء فيه علم إحاطة ، قال الشيخ أبو حامد : وإذا طلب ثانيا وصلى ثم حضرت صلاة أخرى وجب الطلب لها ثالثا وهكذا كلما حضرت صلاة ، قال : ولو كان عليه فوائت تيمم للأولى ، ولا يجوز التيمم للثانية إلا بعد طلب ثان ، وكذا يجب أن يطلب للثالثة وما بعدها قال : وكذا إذا أراد الجمع بين الصلاتين طلب للثانية وهذا الذي قاله فيه نظر .

                                      ( فرع ) يجوز الجمع بين الصلاتين للمتيمم ، وإذا أوجبنا الطلب [ ص: 291 ] ثانيا لا يضر التفريق به بين الصلاتين لأنه خفيف وفيه وجه مشهور عن أبي إسحاق المروزي : أنه لا يجوز الجمع للمتيمم لحصول الفصل بالطلب وهو ضعيف في المذهب والدليل ، قال القاضي أبو الطيب وغيره : لأنه إذا جاز الفصل بينهما بالإقامة - وليست بشرط - فالتيمم الذي هو شرط أولى ، قالوا : ولأنا لا نكلفه في الطلب إلا أن يقف موضعه ويلتفت عن جوانبه ، وهذا لا يؤثر في الجمع والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في طلب الماء ، قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الطلب إذا عدم الماء سواء رجاه أو توهمه ، وبه قال مالك وداود وهو رواية عن أحمد وقال أبو حنيفة : إن ظن وجوده بقربه لزمه وإلا فلا .




                                      الخدمات العلمية