الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
، ثم جملة [ ص: 144 ] من يرث مع الأولاد ستة نفر الأب والجد لأب ، وإن علا والأم والجدة أم الأم أو أم الأب والزوجة ، ولا يرث غير هؤلاء مع الابن بالفريضة لا بالعصوبة ، ولا يكون غير هؤلاء صاحب فرض مع الابنة ، وإن كان قد يرث بالعصوبة . فأما الأب فله في الميراث ثلاثة أحوال فرض وعصوبة وكلاهما فالفرض مع وجود الابن وابن الابن ، وإن سفل والعصوبة عند عدم الولد وولد الابن ذكرا كان ، أو أنثى وكلاهما مع البنت وبنت الابن وفريضته السدس لا ينقص من ذلك إلا عند العول ، ولا يزاد عليه بالفريضة بحال ، وذلك منصوص عليه في كتاب الله تعالى قال الله تعالى { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } فهو تنصيص على أنه صاحب فرض مع الولد ، وإن فريضته السدس قال الله عز وجل { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } معناه وللأب ما بقي كما هو الأصل أن المال متى أضيف إلى اثنين وبين نصيب أحدهما منه كان للآخر ما بقي فذلك تنصيص على أنه عصبة حال عدم الولد وأما مع البنت فهو صاحب فرض يأخذ السدس بالفريضة والبنت تأخذ النصف ، ثم للأب ما بقي بالسنة وهو قوله عليه السلام { ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر } وهو أولى رجل ذكر فيكون عصبة فيما بقي والجد أب الأب عند عدم الأب يقوم مقامه باعتبار أنه يدلي به ، وأنه يتناوله اسم الأب مجازا إلا في فصل وهو في زوج وأبوين وامرأة وأبوين فإن للأم ثلث ما بقي والباقي للأب فإن كان مكان الأب جدا فللأم ثلث جميع المال والباقي للجد على ما نبينه . فأما الأم فإنها صاحبة فرض ولها في الميراث حالان إما السدس وإما الثلث لا تنقص من السدس إلا عند العول ، ولا تزاد على الثلث إلا عند الرد أما السدس لها مع الولد ثبت ذلك بقوله تعالى { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } والثلث بقوله تعالى { وورثه أبواه فلأمه الثلث } والسدس لها مع وجود الإخوة بقوله تعالى { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } ، ولا خلاف أن فرضيتها السدس مع الولد ذكرا كان ، أو أنثى لأن اسم الولد حقيقة لهما . فأما مع الإخوة فقد اختلفوا في فصول بعد ما اتفقوا أن الذكور والإناث في هذا الحكم سواء عند الاختلاط ، وعند الانفراد حتى أن فرضها السدس مع الأخوات المفردات كما في الذكور المفردين وكما مع الذكور مع الإناث عند الاختلاط ، وإنما الاختلاط في المثنى من الإخوة والأخوات فعلى قول أكثر الصحابة رضي الله عنهم وهو قول جمهور العلماء الفقهاء فريضتها السدس معهما .

وعلى قول ابن عباس فريضتها الثلث معهما إلا أن يكونوا أثلاثا لظاهر قوله تعالى { فإن كان له [ ص: 145 ] إخوة } ، وذلك اسم جمع وأدنى الجمع المتفق عليه ثلاثة والحجب لا يثبت إلا بعد التيقن بشرطه ، ولكنا نقول قد ثبت بالنص أن المثنى من الأخوات كالثلاث في الاستحقاق قال الله تعالى { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } . فكذلك المثنى كالثلاث في الحجب ، وقد بينا في البنات أن المثنى حكم الجمع في الحجب والاستحقاق جميعا ، وهذا ، وإن كان نوعا من المجاز فقد حملنا اللفظ عليه بدليل النص ، وذلك مستقيم على قول جمهور العلماء الإخوة لأم كغيرهما من الإخوة في حجب الأم من الثلث .

وعلى قول الزيدية الحجب إنما يثبت بالإخوة لأب وأم ، أو لأب ، ولا يثبت بالإخوة لأم قالوا لأن هذا الحجب بمعنى معقول وهو عند وجود الإخوة لأب وأم ، أو لأب يكثر عيال الأب فيحتاج إلى زيادة مال للإنفاق عليهم والأم لا تحتاج إلى ذلك إذ ليس عليها شيء من النفقة ، وهذا المعنى لا يوجد في الإخوة لأم لأن نفقتهم ليست على الأب ، وإنما ذلك على الأم فهي التي تحتاج إلى زيادة مال لأجلهم فلا تحجب من الثلث إلى السدس باعتبارهم وحجتنا ظاهر الآية فإن اسم الأخوة حقيقة للأصناف الثلاثة لأن الأخ من جاور غيره في صلب ، أو رحم ، وهذا حكم ثابت بالنص وقولهم غير معقول المعنى فإن الإخوة يحجبون الأم إلى السدس بعد موت الأب ، ولا نفقة هنا على الأب ويحجبون إذا كانوا كبارا وليس على الأب من نفقتهم شيء ثم السدس الذي يحجب عنه الإخوة لأم يكون للأب في قول عامة الصحابة وهو مذهبنا وعن ابن عباس رضي الله عنه في رواية شاذة إن ذلك للإخوة بيانه فمن مات وترك أبوين وإخوة عندنا للأم السدس والباقي للأب ، وعنده للأم السدس والسدس للإخوة والباقي للأب واستدل بحديث رواه طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم { أعطى الإخوة السدس مع الأبوين } ، ولأن من لا يرث لا يحجب .

( ألا ترى ) أن الإخوة لو كانوا كفارا ، أو أرقاء لا يحجبون فلما حجبوا الأم مع وجود الأب عرفنا أنهم ورثة مع الأب ، ولا يرثون شيئا من نصيب الأب لأنهم يدلون به ، ولأن الأب أقرب منهم فإنه يتصل بالميت من غير واسطة فلم يبق لهم من الميراث إلا مقدار ما نقصوا من نصيب الأم ، وذلك سدس وحجتنا في ذلك قوله تعالى { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } معناه وللأب ما بقي لأنه معطوف على قوله عز وجل { وورثه أبواه فلأمه الثلث } ، ثم هناك المراد وللأب ما بقي وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه يوضحه أنه بين في أول الآية حالا يكون الوارث فيه الأبوان فقط بقوله تعالى { وورثه أبواه } فبين نصيب الأم ، ثم عطف عليه بغير نصيبها بوجود الغير فيبقى ما سوى ذلك على ما كان وهو [ ص: 146 ] أن الوارث هم الأبوان فقط وأما الحديث فقد روي عن طاوس لقيت ابن رجل من الإخوة الذين أعطاهم رسول الله السدس مع الأبوين فسألته عن ذلك فقال كان ذلك وصية فعلى هذا يصير الحديث دليلا لنا لأن الوارث لا يستحق الوصية فلما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإخوة بالوصية مع الأبوين عرفنا أنهم لا يرثون والمعنى الذي قال هو كما قال إن من لا يرث لا يحجب غير أن الشرط أن يكون وارثا في حق من يحجبه والأخ وارث في حق الأم ، وإنما يحجب الأم بخلاف الرقيق والكافر ، ثم هو محجوب بالأب لأن حال الإخوة مع وجود الأم لا يكون أقوى من حاله عند عدم الأم وهم لا يرثون مع الأب شيئا عند عدم الأم لأن الله تعالى شرط في توريث الإخوة أن يكون الميت كلالة والكلالة من ليس له ولد ، ولا والد ، وهذا لا يتغير بوجود الأم فلهذا لا يرث الأخ شيئا مع الأب .

والأصح أن هذه الرواية عن ابن عباس لا تثبت فإن مذهبه في الجد مع الإخوة كمذهب الصديق رضي الله عنه أنهم لا يرثون شيئا فكيف يرثون مع الأب ويختلفون أيضا في زوج وأبوين فعلى قول عمر وعلي وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي والباقي للأب وهو قول جمهور الفقهاء وعلى قول ابن عباس للأم ثلث جميع المال والباقي للأب وكذلك في امرأة وأبوين للأم ثلث ما بقي عند من سمينا ، وعند ابن عباس ثلث جميع المال وحكي أن ابن عباس لقي زيدا رضي الله عنهما فقال نشدتك الله هل تجد في كتاب الله ثلث ما بقي فقال لا ، ولكنني قلت ذلك برأيي فقال كتاب الله أحق أن يؤخذ به من رأيك وحجته ظاهر الآية فإن الله تعالى قال : { فلأمه الثلث } يعني ثلث التركة لأنه معطوف على قوله تعالى { فلهن ثلثا ما ترك } وعلى قوله تعالى { وإن كانت واحدة فلها النصف } يعني نصف ما ترك . فكذلك قوله عز وجل { فلأمه الثلث } ، ثم لا يجوز أن ينتقص نصيب الأم بالزوج لأن سبب وراثة الأم أقوى من سبب الزوج فإن سبب وراثتها لا يحتمل النقص والدفع فهو قائم عند الوراثة ، وقد ترث جميع المال في بعض الأحوال بخلاف الزوج .

ولو جاز أن ينقص نصيب أحدهما لمكان الزوج لكان الأولى به الأب ، وقد ينتقص نصيب الأب لوجود الزوج فإن المرأة إذا تركت أباها وحده كان له جميع المال ، وإن كان مع الأب زوجها فله نصف المال ، ولا ينتقص نصيب الأم لمكان الزوج بحال فإدخال ضرر النقصان على الأب أولى منه على الأم ، وهذا المعنى فقهي وهو أن الأب عصبة في هذه الحالة ، ولا مزاحمة بين العصبات وأصحاب الفرائض ، ولكن أصحاب الفرائض [ ص: 147 ] مقدمون فيعطون فريضتهم ، ثم ما بقي للعصبة قل ، أو كثر واعتبار الثلث والثلثين بين الأب والأم عند وجود المزاحمة ويقاس بما لو كان مكان الأب جد في هذين الفصلين وحجتنا في ذلك { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } معناه فلأمه ثلث ما ورثه أبواه إذ لو لم يحمل على هذا صار قوله { وورثه أبواه } فصلا خاليا عن الفائدة وقد كان يحصل البيان بقوله { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } كما قال تعالى { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ، وإن كانت واحدة فلها النصف } فلما قال هنا { وورثه أبواه } عرفنا أنه إنما جعل لها ميراث الأبوين وميراث الأبوين ما بقي بعد نصيب الزوج والزوجة يوضحه أنه علق إيجاب الثلث لها بشرطين أحدهما عدم الولد والآخر أن يكون الوارث أبوين فقط لأن قوله تعالى { فإن لم يكن له ولد } شرط وقوله تعالى { وورثه أبواه } عطف على شرط والمعطوف على الشرط شرط والمتعلق بشرطين كما ينعدم بانعدامهما ينعدم بانعدام أحدهما فبهذا يتبين أن ثلث جميع التركة لها غير منصوص في هذه الحالة فوجب المصير إلى هذا المعنى المعقول وهو أن الأبوين في الأصول كالابن والبنت في الفروع لأن سبب وراثة الذكر والأنثى واحد وكل واحد منهما متصل بالميت بغير واسطة ، ثم لا يجوز تفضيل البنت على الابن ، ولا التسوية بينهما في الفروع بل يكون للأنثى مثل نصف نصيب الذكر . فكذلك في الأصول ويقاس ما بقي بعد نصيب الزوج والزوجة بجميع المال عند عدم الزوج والزوجة . فأما إذا كان مكان الأب جدا فيقول تفضيل الأنثى على الذكر ، أو التسوية إنما تجوز عند المساواة في القرب ، ولا مساواة فالأم متصلة بالميت من غير واسطة والجد لا يتصل به إلا بواسطة .

( ألا ترى ) أن الجد قد يحرم الميراث بمن هو أقرب منه وهو الأب والأم لا تحرم بمن هو أقرب منها بحال بمنزلة الأب فلهذا أعطيناها مع الجد ثلث جميع المال ومع الأب ثلث ما بقي وكان يقول أبو بكر الأصم لها ثلث ما بقي مع الزوج وثلث جميع المال مع الزوجة ويروى ذلك عن معاذ رضي الله عنه لأن مع الزوج لو أعطيناها ثلث جميع المال لم يكن للأب إلا السدس فيكون فيه تفضيل الأنثى على الذكر ، ولا إلى التسوية بينهما . فأما الجدة فهي صاحبة فرض فريضتها السدس لحديث أبي سعيد الخدري { أعطى الجدة السدس } ويستوي في ذلك أم الأم وأم الأب فإن اجتمعتا فالسدس بينهما ثبت ذلك باتفاق الصحابة رضي الله عنهم على ما روي أن أم الأم جاءت إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقالت أعطني ميراث ولد ابنتي فقال لا أجد لك في كتاب الله تعالى نصيبا ولم أسمع من [ ص: 148 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك شيئا ، ولكني أشاور أصحابي فجمعهم وسألهم عن ذلك فشهد محمد بن سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس ثم جاءت أم الأب بعد ذلك إلى أبي بكر فقالت أعطني ميراث ولد ابني فقال لا أجد لك في كتاب الله نصيبا ولم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك شيئا ، ولكني أرى أن ذلك السدس بينكما إذا اجتمعتا وهو لمن انفرد منكما ، ثم لا يزداد نصيب الجدات على السدس ، وإن كثرن إلا عند الرد ، ولا ينقص إلا عند العول .

فأما الزوج فهو صاحب فرض وله حالان النصف عند عدم الولد وولد الابن ذكرا كان ، أو أنثى والربع عند وجوده ثبت ذلك بقوله تعالى { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } الآية ، ولا يزداد الزوج على النصف بذلك بحال ، ولا ينقص عن الربع إلا عند العول وأما الزوجة فهي صاحبة فرض ولها حالان الربع عند عدم الولد وولد الابن ذكرا كان ، أو أنثى والثمن عند وجوده ثبت ذلك بقوله تعالى { ولهن الربع مما تركتم } الآية ونصيب الزوجات بينهن بالسوية اثنتين ، أو ثلاثا ، أو أربعا لا يزاد لهن على الربع بحال ، ولا ينقص عن الثمن إلا عند العول ، ولا يحجب الزوج والزوجة عن الميراث بأحد ، ولا سبب إلا بقتل ، أو كفر ، أو رق والحاصل أن الحجب نوعان حجب حرمان وحجب نقصان فحجب الحرمان نحو حجب الأجداد بالأب والجدات بالأم وحجب النقصان نحو حجب الزوج والزوجة ، ولا خلاف في أن حجب الحرمان لا يثبت بمن هو غير وارث بسبب القتل أو الرق ، أو اختلاف الدين وكذلك حجب النقصان في أكثر قول الصحابة رضي الله عنهم وهو مذهبنا وقال ابن مسعود رضي الله عنه ثبت حجب النقصان بمن لا يكون وارثا واستدل في ذلك فقال هذا الحجب بالنص ثابت بالولد وبالإخوة وبسبب الرق والقتل والكفر لا بقيد هذا الاسم فالتقييد بكون الأخ والولد وارثا زيادة على النص ، وهذا بخلاف حجب الحرمان لأن حجب الحرمان باعتبار تقديم الأقرب على الأبعد ، وإنما يتحقق ذلك إذا كان الأقرب مستحقا . فأما حجب النقصان باعتبار أن السبب مع وجود الولد والإخوة لا يوجب له إلا أقل النصيبين ، وفي هذا المعنى لا فرق بين أن يكون الولد والأخ وارثا ، ولا يكون وارثا وحجتنا في ذلك أن من ليس بوارث جعل في استحقاق الميراث كالميت . فكذلك في الحجب هو كالميت وكما أنه مع الرق لا يخرج من أن يكون ولدا فبالموت لا يخرج من أن يكون ولدا ، ثم شرطنا كونه ولدا حيا للحجب بالاتفاق . فكذلك يشترط كونه وارثا حرا للحجب ونفس حجب النقصان على [ ص: 149 ] حجب الحرمان في المعنى لا فرق بينهما لأن في حجب الحرمان تقديم الأقرب في الكل ، وفي حجب النقصان تقديم الحاجب على المحجوب في البعض . فإذا شرط هناك صفة الوراثة في الحاجب . فكذلك يشترط هنا والله أعلم بالصواب . .

التالي السابق


الخدمات العلمية