الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : وإذا قال لها : إذا حضت حيضة فأنت طالق فإنما يقع عليها بعد ما ينقطع عنها الدم ، وتغتسل ; لأن الشرط مضى حيضة كاملة ولا يتيقن به إلا بعد الحكم بطهرها ، فإن كانت أيامها عشرة فبنفس الانقطاع يتيقن بطهرها ، وإن كانت أيامها دون العشرة ، فإنما يحكم بطهرها إذا اغتسلت أو ذهب وقت صلاة بعد انقطاع الدم ; فلهذا توقف الوقوع عليه .

ولو قال : إذا حضت حيضة ، فأنت طالق فقالت : قد حضت حيضة لم تصدق في القياس إذا كذبها الزوج ; لأنها تدعي وجود شرط الطلاق ، ومجرد قولها في ذلك ليس بحجة في حق الزوج كما لو كان الشرط دخولها الدار وهذا ; لأن دعواها شرط الطلاق كدعواها نفس الطلاق ، وفي الاستحسان القول قولها ; لأن حيضها لا يعلمه غيرها فلا بد من قبول قولها فيه ; كما لو قال : إن كنت تحبينني أو تبغضينني ، وجب قبول قولها في ذلك مادام في المجلس .

وكذلك لو قال لها : إن شئت إلا أن هناك تقدر على الاختيار في المجلس فبالتأخير عنه تصير مفرطة ، وهنا لا تقدر على الإخبار بالحيض ما لم تر الدم ، فوجب قبول قولها متى أخبرت به .

( قال ) : ويدخل في هذا الاستحسان بعض [ ص: 104 ] القياس معناه أن الزوج لما علق وقوع الطلاق بالحيض ، صار ذلك من أحكام الحيض بجعله . وقولها حجة تامة في أحكام الحيض كحرمة وطئها إذا أخبرت برؤية الدم ، وحل الوطء إذا أخبرت بانقطاع الدم وكذلك في حكم انقضاء العدة بالحيض يقبل قولها ; لأن الشرع سلطها على الإخبار فكذلك الزوج بتعليق الطلاق به يصير مسلطا لها على الإخبار ، وإذا قال : إذا حضت ، فأنت طالق وفلانة معك فقالت : حضت فقياس الاستحسان الأول أن يقع الطلاق على فلانة كما يقع عليها ; لأن قولها حجة تامة فيما لا يعلمه غيرها فيكون ثبوت هذا الشرط بقولها كثبوت شرط آخر بالبينة أو بتصديق الزوج ، ولكنا ندع القياس فيه ، ونقول : لا يقع على الأخرى شيء حتى يعلم أنها قد حاضت ; لأن في ذلك حق الضرة وهي ما سلطتها ولا رضيت بخبرها في حق نفسها ثم قبول قولها فيما ما لا يعلمه غيرها لأجل الضرورة ، وذلك في حق نفسها خاصة كما في حل الوطء ، وانقضاء العدة .

والحكم يثبت بحسب الحاجة ألا ترى أن الملك للمستحق إذا ثبت بإقرار المشتري ، لم يرجع على البائع بالثمن ، وإن شهادة امرأتين ورجل بالسرقة حجة في حق المال دون القطع فلهذا مثله ، ولو قال لها : إذا ولدت غلاما فأنت طالق واحدة ، وإذا ولدت جارية فأنت طالق ثنتين فولدت غلاما وجارية ، فإن علم أنها ولدت الجارية أولا طلقت اثنتين بولادتها الجارية ثم انقضت عدتها بولادة الغلام ، وإن علم أنها ولدت الغلام أولا طلقت واحدة بولادتها الغلام وانقضت عدتها بولادة الجارية ، فإن لم يعلم أيهما أولا ، لم يقع في القضاء إلا تطليقة واحدة ; لأن التيقن فيها ، وفي الثانية شك ، والطلاق بالشك لا يقع وفيما بينه وبين الله تعالى ينبغي أن يأخذ بتطليقتين حتى إذا كان طلقها قبل هذا واحدة فلا ينبغي أن يتزوجها حتى تنكح زوجا غيره ; لاحتمال أنها مطلقة ثلاثا ، ولأن يترك امرأة يحل له وطؤها خير من أن يطأ امرأة محرمة عليه ، وإن ولدت غلاما وجاريتين في بطن واحد فإن علم أنها ولدت الجاريتين أولا ، فهي طالق ثنتين بولادة الأولى منهما ، وقد انقضت عدتها بولادة الغلام ، وإن ولدت الغلام أولا ، طلقت واحدة بولادة الغلام ، وتطليقتين بولادة الجارية الأولى وقد انقضت عدتها بولادة الأخرى ، وإن ولدت إحدى الجاريتين أولا ثم الغلام ثم الجارية ، طلقت تطليقتين بولادة الجارية الأولى ، والثالثة بولادة الغلام ، وانقضت عدتها بولادة الأخرى ، وإن لم يعلم كيف كانت الولادة فنقول في وجه : هي طالق اثنتين وفي وجهين : هي طالق ثلاثا ففي القضاء لا تطلق الاثنتين ; لأن اليقين فيها ، وفي التنزه [ ص: 105 ] ينبغي أن يأخذ بثلاث تطليقات احتياطا وقد انقضت عدتها بيقين بولادة الآخر منهم .

وإذا قال لها : كلما ولدت ولدا ، فأنت طالق وقال : إذا ولدت غلاما ، فأنت طالق فولدت جارية ، فهي طالق واحدة ; لأن الجارية ولد فيقع بها تطليقة بحكم الكلام الأول ، فإن ولدت بعدها غلاما في ذلك البطن ، انقضت عدتها بولادة الغلام ; لأنها معتدة وضعت جميع ما في بطنها .

ولا يقع عليها بولادة الغلام شيء ; لأن أوان الوقوع بعد وجود الشرط وهي ليست في عدته بعد ولادة الغلام فهو بمنزلة ما لو قال لها : إذا انقضت عدتك فأنت طالق ، وإن ولدت الغلام أولا ، وقع به تطليقتان أحدهما بالغلام الأول ; لأن الغلام ولد ، والثانية بالكلام الثاني ; لأنه غلام ، وكذلك ولو قال لها : إذا ولدت غلاما فأنت طالق ثم قال : إذا ولدت ولدا ، فأنت طالق فولدت غلاما طلقت اثنتين ; لأنه ولد وغلام وكذلك لو قال : إذا كلمت فلانا ، فأنت طالق ثم قال : إذا كلمت إنسانا ، فأنت طالق فكلمت فلانا تطلق اثنتين ; لأنه إنسان وفلان .

وكذلك إذا قال : إن تزوجت فلانة ، فهي طالق ثم قال : كل امرأة أتزوجها ، فهي طالق فتزوج فلانة ، تطلق اثنتين ; لأنها فلانة وامرأة ، والشيء الواحد يصلح شرطا للحنث في أيمان كثيرة ، ولو قال لامرأته : كلما ولدت غلاما ، فأنت طالق فولدت غلاما وجارية في بطن واحد ، فإن علم أنها ولدت الغلام أولا ، وقع عليها تطليقة بولادة الغلام ، وانقضت عدتها بولادة الجارية ، وإن علم أنها ولدت الجارية أولا ، وقعت عليها تطليقة بولادة الغلام وعليها العدة بثلاث حيض ، وله أن يراجعها في العدة ، إذا علم أن الغلام ولد آخرا ، وإذا لم يعلم أيهما أول ، فعليهما الأخذ بالاحتياط في كل حكم فيلزمها العدة بثلاث حيض ; لجواز أن تكون ولدت الجارية أولا وليس للزوج أن يراجعها في هذه العدة ; لجواز أن تكون ولدت الغلام أولا ، ولو مات أحدهما لم يتوارثا ; لجواز أن تكون ولدت الغلام أولا ثم انتقضت عدتها بولادة الجارية ، والميراث لا يثبت بالشك .

التالي السابق


الخدمات العلمية