الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : ولو قال : قد طلقتك وأنا صغير ، أو قال : وأنا نائم لم يقع بهذا شيء ; لأنه أضاف إلى حالة معهودة تنافي صحة الإيقاع ، فكان منكرا للإيقاع لا مقرا به . ولو قال : وأنا مجنون ، فإن عرف بالجنون قبل هذا لم تطلق ; لأنه أضاف إلى حالة معهودة تنافي صحة الإيقاع ، وإن لم يعرف بالجنون طلقت ; لأنه أقر بطلاقها ، وأضافه إلى حالة لم تعرف تلك الحالة منه ; فلا يعتبر قوله في الإضافة فلهذا تطلق في الحال .

، وإن قال : قلت لك أنت طالق إن كلمت فلانا ، وقالت هي : طلقتني فالقول قول الزوج ; لأن تعليق الطلاق بالشرط يمين ، واليمين غير الطلاق ألا ترى أنه لا يقع الطلاق بها ما لم يوجد الحنث فهي تدعي عليه إيقاع الطلاق ، والزوج منكر لذلك فالقول قوله ، وإن قال : أنت طالق ثلاثا ، إن لم أطلقك لم تطلق حتى يموت أحدهما قبل أن يطلقها ; لأن كلمة إن للشرط ، فقد جعل عدم إيقاع الطلاق عليها شرطا ، ولا يتيقن بوجود هذا الشرط ما بقيا حيين ، فهو كقوله : إن لم آت البصرة فأنت طالق .

ثم إن مات الزوج وقع عليها قبل موته بقليل وليس لذلك القليل حد معروف ، ولكن قبيل موته يتحقق عجزه من إيقاع الطلاق عليها فيتحقق شرط الحنث ، فإن كان لم يدخل بها فلا ميراث لها ، وإن كان قد دخل بها فلها الميراث بحكم الفرار حين وقع الثلاث بإيقاعه قبيل موته بلا فصل ، وإن ماتت المرأة وقع الطلاق أيضا قبل موتها .

وفي النوادر يقول : لا يقع ; لأنه قادر على أنه يطلقها ما لم تمت ، وإنما عجز بموتها فلو وقع الطلاق ، لوقع بعد الموت وهو نظير قوله : إن لم آت البصرة ، وجه ظاهر الرواية أن الإيقاع من حكمة الوقوع بعد الموت ، وهو قد تحقق العجز عن إيقاعه قبيل موتها ; لأنه يعقبه الوقوع كما لو قال لها : أنت طالق مع موتك فيقع الطلاق قبيل موتها بلا فصل .

ولا ميراث للزوج ; لأن الفرقة وقعت بينهما قبل موتها بإيقاع الطلاق عليها ، وإن قال : أنت طالق متى لم أطلقك طلقت كما سكت ; لأن كلمة متى تستعمل للوقت فقد أضاف الطلاق إلى وقت بعد يمينه لا يطلقها فيه ، وقد وجد ذلك الوقت كما سكت ، وكذلك إن قال : متى ما لم أطلقك .

فأما إذا قال : إذا لم أطلقك ، أو إذا ما لم أطلقك .

فإن قال : عنيت بإذا الشرط فهو بمنزلة أن لا يقع الطلاق حتى يموت أحدهما ، وإن قال : عنيت به متى وقع الطلاق كما سكت ; لأن إذا تستعمل لكل واحدة منهما .

وإن لم تكن له نية فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تطلق حتى يموت أحدهما وعند أبي يوسف [ ص: 112 ] ومحمد رحمهما الله تعالى كما سكت يقع ، وأصل الخلاف بين أهل اللغة والنحو فالكوفيون منهم يقولون إذا قد تستعمل للوقت وقد تستعمل للشرط على السواء فيجازى به مرة ولا يجازى به أخرى ، وإذا كان بمعنى الشرط سقط فيه معنى الوقت أصلا كحرف أن وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى والبصريون رحمهم الله تعالى يقولون : إذا للوقت ، ولكن قد تستعمل للشرط مجازا ، ولا يسقط به معنى الوقت إذا أريد به الشرط بمنزلة متى وهو مذهب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فهما يقولان : إذا تستعمل فيما هو كائن لا محالة ، وليس فيه معنى الخطر قال الله تعالى { إذا الشمس كورت } و { إذا السماء انفطرت } .

ويقال الرطب إذا اشتدت الحر ، والبرد إذا جاء الشتاء ، والشرط ما هو على خطر الوجود فعرفنا أنه للوقت حقيقة فعند عدم النية يحمل اللفظ على حقيقته ، ألا ترى أنه لو قال لامرأته : إذا شئت فأنت طالق ، لم يخرج الأمر من يدها بقيامها عن المجلس بمنزلة قوله : متى شئت بخلاف قوله : إن شئت .

وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول : " إذا " قد تكون للشرط حقيقة يقول الرجل : إذا زرتني ، زرتك ، وإذا أكرمتني ، أكرمتك ، والمراد الشرط دل عليه قول القائل شعر :

استغن ما أغناك ربك بالغنى وإذا تصبك حصاصة فتحمل

معناه وإن تصبك ، فعند عدم النية هنا ، إن حمل على معنى الشرط ، لم يقع الطلاق حتى يموت أحدهما .

وإن جعل بمعنى متى ، طلقت في الحال ، وقد عرفنا أن الطلاق غير واقع فلا نوقعه بالشك ; ولهذا قلنا في مسألة المشيئة لا يخرج الأمر من يدها بقيامها عن المجلس ; لأنا إن جعلنا " إذا " بمعنى الشرط ، خرج الأمر من يدها .

وإن جعلناها بمعنى متى ، لم يخرج الأمر من يدها ، وقد عرفنا كون الأمر في يدها بيقين فلا نخرجه من يدها بالشك ، وفي الكتاب قال : ألا ترى أنه لو قال : إذا سكت عن طلاقك ، فأنت طالق تطلق كما سكت ، وهذا لا حجة فيه ; لأنه لو قال : إن سكت ، وإن قال : كلما لم أطلقك ، فأنت طالق ، وقد دخل بها ثم سكت فهي طالق ثلاثا يتبع بعضها بعضا ; لأنه أضاف الطلاق إلى وقت لا يطلقها فيه بكلمة كلما .

وعقيب سكوته يوجد ثلاثة أوقات بهذه الصفة ، بعضها على أثر البعض فتطلق ثلاثا بطريق الإتباع ولا يقعن معا حتى إذا لم يكن بها لا يقع إلا واحدة ، وإن قال : متى ما لم أطلقك واحدة فأنت طالق ثلاثا ، ثم قال موصلا بكلامه : أنت طالق واحدة فقد بر في يمينه استحسانا ، ولا يقع عليها إلا واحدة .

وفي القياس تطلق ثلاثا ، وهو قول زفر رحمه الله تعالى ; لأنه إلى أن يفرغ [ ص: 113 ] من قوله : أنت طالق واحدة يوجد وقت موصوف بأنه لم يطلقها فيه ، وإن لطف ، وذلك يكفي شرطا للحنث ، ولكنه استحسن فقال : البر مراد الحالف ، ولا يتأتى له البر إلا بعد أن يجعل هذا القدر مستثنى ، وما لا يستطاع الامتناع عنه ، يجعل عفوا .

وأصل المسألة فيما إذا قال : إن ركبت هذه الدابة ، وهو راكبها فأخذ في النزول في الحال ، ولو سكت ساعة ثم قال : أنت طالق واحدة ، فقد طلقت ثلاثا قبل قوله واحدة ، وهذا : لأن السكوت فيما بين الكلامين يستطاع الامتناع عنه ، وعلى هذا لو قال : ما لم أقم من مقعدي هذا فأنت طالق ، إن قام كما سكت لم تطلق استحسانا ، وإن سكت هنيهة طلقت ، ولو قال : أنت طالق حين لم أطلقك ولا نية له ، فهي طالق كما سكت ; لأن حرف " لم " عبارة عن الماضي وقد مضى حين لم يطلقها فيه ، فكان الوقت المضاف إليه الطلاق موجودا كما سكت .

وكذلك لو قال : زمان لم أطلقك ، أو يوم لم أطلقك ، أو حيث لم أطلقك ; لأن حرف " حيث " عبارة عن المكان وكم من مكان لم يطلقها فيه ، ولو قال : حين لا أطلقك لا تطلق في الحال ; لأن حرف " لا " للاستقبال ، وإن نوى بحين وقتا يسيرا أو طويلا ، تعمل نيته ، وإن لم يكن له نية ، فهو على ستة أشهر فما لم تمض ستة أشهر بعد يمينه لا تطلق ; لأن حين تستعمل بمعنى ساعة قال الله تعالى : { حين تمسون وحين تصبحون } أي وقت الصباح والمساء .

وتستعمل بمعنى قيام الساعة قال الله تعالى : { تمتعوا حتى حين } ، وتستعمل بمعنى أربعين سنة قال الله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } .

وتستعمل بمعنى ستة أشهر قال الله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين } فإذا نوى شيئا ، كان المنوي من محتملات لفظه ، وإن لم ينو شيئا ، كان على ستة أشهر هكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما حين سئل عمن حلف لا يكلم فلانا حينا قال : هو على ستة أشهر فإن النخلة يدرك ثمرها في ستة أشهر ، وقال الله تعالى { تؤتي أكلها كل حين } ولأنه متى أراد به ساعة ، لا يستعمل فيه لفظ الحين عادة ، ومتى أراد به أربعين سنة ، أو قيام الساعة ، استعمل فيه لفظ الأبد فتعين ستة أشهر مرادا به .

وكذلك لو قال : زمان لا أطلقك فإن لفظة حين وزمان يستعملان استعمالا واحدا يقول الرجل لغيره لم ألقك منذ حين ، ولم ألقك منذ زمان .

ولو قال : يوم لا أطلقك فإذا مضى بعد يمينه يوم لم يطلقها فيه ، طلقت حتى إذا قال هذا قبل طلوع الفجر فكما غربت الشمس تطلق ; لأن اليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس حتى يقدر الصوم بالإمساك فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية