الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب الإطعام في كفارة اليمين ( قال ) رضي الله تعالى عنه : بلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمولى له أرقا وفي رواية ( 1 ) برقا : إني أحلف على قوم أن لا أعطيهم ، ثم يبدو لي فأعطيهم ، فإذا أنا فعلت ذلك فأطعم عني عشرة مساكين ، كل مسكين نصف صاع من حنطة ، أو صاعا من تمر ، وفي هذا دليل أنه لا بأس للإنسان أن يحلف مختارا بخلاف ما يقوله المتشفعة : أن ذلك مكروه بظاهر قوله { : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } ، ولكنا نقول : قد حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة من غير ضرورة كانت له في ذلك ، وتأويل تلك الآية أنه يجازف في الحلف من غير مراعاة البر والحنث ، وفيه دليل على أن الحالف إذا رأى الحنث خيرا يجوز له أن يحنث نفسه ، وقد روينا فيه حديث عبد الرحمن بن سمرة ، وفي حديث أبي مالك الأشعري رحمه الله تعالى قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين نستحمله فحلف أن لا يحملنا ، ثم رجع قوم عنده بخمس ذود ، وقالوا : حملنا عليها . فقلت : لعله نسي يمينه فأتيته فأخبرته بذلك . قال : إني أحلف ثم أرى غيره خيرا منه فأتحلل يميني ، وفيه دليل أن أوان التكفير ما بعد الحنث كما هو مذهبنا ، وأن [ ص: 150 ] ما روي فليكفر يمينه ، وليأت الذي هو خير ، محمول على التقديم والتأخير ، وكذلك قوله : ثم يأت بالذي هو خير ; لأن ثم قد تكون بمعنى الواو . قال الله تعالى { ثم كان من الذين آمنوا } ، أي وكان { ثم الله شهيد } ، أي والله شهيد ، وفيه دليل أن التوكيل بالتكفير جائز .

بخلاف ما يقوله بعض الناس : أنه لا توكيل في العبادة أصلا لظاهر قوله { : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } ، ولكنا نقول : المقصود فيما هو مالي الابتداء بإخراج جزء من المال عن ملكه ، وذلك يتحقق بالنائب ، وفيه دليل أن الوظيفة لكل مسكين نصف صاع من حنطة ، أو صاع من تمر أو صاع من شعير ، وهكذا روي عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم وذكر بعده عن علي رضي الله عنه نصف صاع من حنطة ، وقد بينا هذه المسألة في كتاب الظهار ، وكفارة اليمين مثله ، وقد بينا أن دقيق الحنطة وسويقها بمنزلة الحنطة ; لأن ما هو المقصود يحصل للفقير بهما مع سقوط مؤنة الطحن عنه ، وقد بينا أن طعام الإباحة تتأدى به الكفارة عندنا ، والمعتبر فيه أكلتان مشبعتان ، سواء كان خبز البر مع الطعام أو بغير إدام ، وإن أعطى قيمة الطعام يجوز ، فكذلك في كفارة اليمين ، وكذلك إن غداهم وأعطاهم قيمة العشاء اعتبارا للبعض بالكل ; وهذا لأن المقصود واحد ، وقد أتى من كل وظيفة بنصفه ، وإن غداهم وعشاهم ، وفيهم صبي فطم ، أو فوق ذلك شيئا لم يجز ; لأنه لا يستوفي كمال الوظيفة كما يستوفيه البالغ ، وعليه طعام مسكين واحد مكانه ، فإن أعطى عشرة مساكين كل مسكين مدا من حنطة ، فعليه أن يعيد عليهم مدا مدا ، وإن لم يقدر عليهم استقبل الطعام ; لأن الواجب لا يتأدى إلا بإيصال وظيفة كاملة إلى كل مسكين ، وذلك نصف صاع من حنطة وذكر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه لو أوصى بأن يطعم عنه عشرة مساكين في كفارة يمينه ، فغدى الوصي عشرة مساكين ، ثم ماتوا قبل أن يعشيهم ، فعليه الاستقبال ; لأن الوظيفة في طعام الإباحة الغداء والعشاء ، فلا يتأدى الواجب إلا باتصال وظيفة كاملة إلى كل مسكين ، ولا يكون الوصي ضامنا لما أطعم ; لأنه فيما صنع كان ممتثلا لأمره ، وكان بقاؤهم إلى أن يعشيهم ليس في وسعه ، ولو كان أوصى بأن يطعم عنه عشرة مساكين غداء وعشاء ، ولم يذكر الكفارة فغدى الوصي عشرة فماتوا فإنه يعشي عشرة أخرى ، ويكفي ذلك ; لأن الموصى به أكلتان فقط دون إسقاط الكفارة بهما ، وقد وجد بخلاف الأول ثم قد بينا في باب الظهار أن المسكين الواحد في الأيام المتفرقة كالمساكين عندنا ، وعند تفريق الدفعات في يوم واحد فيه اختلاف بين المشايخ ، فكذلك في اليمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية