الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 425 ] وقال الشيخ رحمه الله فصل وأما قوله : هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة ؟ فهذه " المسألة " وإن كان الناس يتنازعون فيها ؟ إما نزاعا كليا وإما حاليا . فحقيقة الأمر : أن " الخلطة " تارة تكون واجبة أو مستحبة والشخص الواحد قد يكون مأمورا بالمخالطة تارة وبالانفراد تارة . وجماع ذلك : أن " المخالطة " إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات : كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله . وكذلك الاختلاط بهم في الحج وفي غزو الكفار والخوارج المارقين وإن كان أئمة ذلك فجارا وإن كان في تلك الجماعات فجار [ ص: 426 ] وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانا : إما لانتفاعه به وإما لنفعه له ونحو ذلك . ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه ; إما في بيته ، كما قال طاوس : نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه ، وإما في غير بيته . فاختيار المخالطة مطلقا خطأ واختيار الانفراد مطلقا خطأ . وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا وما هو الأصلح له في كل حال فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم .

                وكذلك " السبب وترك السبب " : فمن كان قادرا على السبب ولا يشغله عما هو أنفع له في دينه فهو مأمور به مع التوكل على الله وهذا خير له من أن يأخذ من الناس ولو جاءه بغير سؤال ، وسبب مثل هذا عبادة الله ، وهو مأمور أن يعبد الله ويتوكل عليه فإن تسبب بغير نية صالحة أو لم يتوكل على الله فهو [ غير ] مطيع في هذا وهذا ، وهذه [ غير ] طريق الأنبياء والصحابة . وأما من كان من الفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون [ ص: 427 ] ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف فهذا إما أن يكون عاجزا عن الكسب أو قادرا عليه بتفويت ما هو فيه أطوع لله من الكسب ففعل ما هو فيه أطوع هو المشروع في حقه وهذا يتنوع بتنوع أحوال الناس . وقد تقدم أن الأفضل يتنوع " تارة " بحسب أجناس العبادات كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة ، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر ، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء . و " تارة " يختلف باختلاف الأوقات كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة .

                و " تارة " باختلاف عمل الإنسان الظاهر كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالاتفاق وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف . و " تارة " باختلاف الأمكنة : كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة ونحوها ، والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة ، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل . [ ص: 428 ] و " تارة " باختلاف مرتبة جنس العبادة : فالجهاد للرجال أفضل من الحج وأما النساء فجهادهن الحج ، والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها ; بخلاف الأيمة فإنها مأمورة بطاعة أبويها .

                و " تارة " يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه : فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس ويتبعون أهواءهم . فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس ويأمرهم بمثل ذلك . والله بعث محمدا بالكتاب والحكمة وجعله رحمة للعباد وهديا لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له فعلى المسلم أن يكون ناصحا للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له . وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات [ ص: 429 ] البدنية - كالصلاة والصيام - أفضل له والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا . فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم . والله سبحانه وتعالى أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية