الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وكنت وأنا بالديار المصرية في سنة إحدى عشرة وسبعمائة قد استفتيت عن [ ص: 313 ] التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فكتبت في ذلك جوابا مبسوطا وقد أحببت إيراده هنا لما في ذلك من مزيد الفائدة فإن هذه القواعد - المتعلقة بتقرير التوحيد وحسم مادة الشرك والغلو - كلما تنوع بيانها ووضحت عباراتها كان ذلك نورا على نور . والله المستعان . وصورة السؤال : المسئول من السادة العلماء أئمة الدين أن يبينوا ما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين .

                التالي السابق


                وصورة الجواب : الحمد لله رب العالمين . أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة . ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين واستفاضت به السنن من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته ويشفع أيضا لعموم الخلق . فله صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين لكن ما له فيها أفضل مما لغيره فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل وله من الفضائل التي ميزه الله بها على سائر النبيين ما يضيق هذا الموضع عن بسطه ومن ذلك " المقام [ ص: 314 ] المحمود " الذي يغبطه به الأولون والآخرون وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة منها في الصحيحين أحاديث متعددة وفي السنن والمساند مما يكثر عدده .



                وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن الشفاعة إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع بعض الدرجات وبعضهم أنكر الشفاعة مطلقا . وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به في حياته بحضرته كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " فيسقون . وفي البخاري أيضا عن ابن عمر أنه قال : ربما ذكرت قول الشاعر - وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب -

                وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

                والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكره عمر بن الخطاب قد جاء مفسرا في سائر أحاديث الاستسقاء وهو من جنس الاستشفاع به وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته ونحن نقدمه بين أيدينا شافعا وسائلا لنا بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم وكذلك معاوية بن أبي سفيان - لما أجدب الناس بالشام - استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي فقال : " اللهم إنا نستشفع - ونتوسل - بخيارنا . يا يزيد ارفع يديك " فرفع يديه ودعا الناس حتى سقوا .

                [ ص: 315 ] ولهذا قال العلماء : يستحب أن يستسقى بأهل الدين والصلاح وإذا كانوا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحسن . وهذا الاستشفاع والتوسل حقيقته التوسل بدعائه ; فإنه كان يدعو للمتوسل به المستشفع به والناس يدعون معه كما { أن المسلمين لما أجدبوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي فقال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا . فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال : اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا وما في السماء قزعة ; فنشأت سحابة من جهة البحر فمطروا أسبوعا لا يرون فيه الشمس ; حتى دخل عليهم الأعرابي - أو غيره - فقال : يا رسول الله انقطعت السبل وتهدم البنيان فادع الله يكشفها عنا . فرفع يديه وقال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب ومنابت الشجر وبطون الأودية فانجابت عن المدينة كما ينجاب الثوب } . والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما . وفي حديث آخر في سنن أبي داود وغيره { أن رجلا قال له : إنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك . فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رئي ذلك في وجوه أصحابه وقال ويحك أتدري ما الله ؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك } .

                وهذا يبين أن معنى الاستشفاع بالشخص - في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - هو استشفاع بدعائه وشفاعته ليس هو السؤال بذاته ; فإنه لو كان هذا [ ص: 316 ] السؤال بذاته لكان سؤال الخلق بالله تعالى أولى من سؤال الله بالخلق ولكن لما كان معناه هو الأول أنكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " نستشفع بالله عليك " ولم ينكر قوله نستشفع بك على الله ; لأن الشفيع يسأل المشفوع إليه أن يقضي حاجة الطالب ; والله تعالى لا يسأل أحدا من عباده أن يقضي حوائج خلقه وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله تعالى في مثل قوله : -

                شفيعي إليك الله لا رب غيره وليس إلى رد الشفيع سبيل

                فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالم . وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله سبحانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما خطأ وضلال ; بل هو سبحانه المسئول المدعو الذي يسأله كل من في السموات والأرض ; ولكن هو تبارك وتعالى يأمر عباده فيطيعونه وكل من وجبت طاعته من المخلوقين فإنما وجبت لأن ذلك طاعة لله تعالى فالرسل يبلغون عن الله أمره ; فمن أطاعهم فقد أطاع الله ومن بايعهم فقد بايع الله . قال الله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وقال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } . وأولو الأمر من أهل العلم وأهل الإمارة إنما تجب طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله .

                قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه ما لم يؤمر بمعصية الله فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة } وقال صلى الله عليه وسلم { لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق } . [ ص: 317 ] وأما الشافع فسائل لا تجب طاعته في الشفاعة وإن كان عظيما وفي الحديث الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بريرة أن تمسك زوجها ولا تفارقه لما أعتقت وخيرها النبي صلى الله عليه وسلم فاختارت فراقه وكان زوجها يحبها فجعل يبكي فسألها النبي صلى الله عليه وسلم أن تمسكه فقالت أتأمرني ؟ فقال لا إنما أنا شافع } . وإنما قالت " أتأمرني ؟ " وقال : " إنما أنا شافع " لما استقر عند المسلمين أن طاعة أمره واجبة بخلاف شفاعته فإنه لا يجب قبول شفاعته ولهذا لم يلمها النبي صلى الله عليه وسلم على ترك قبول شفاعته فشفاعة غيره من الخلق أولى أن لا يجب قبولها . والخالق جل جلاله أمره أعلى وأجل من أن يكون شافعا إلى مخلوق بل هو سبحانه أعلى شأنا من أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه . قال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } . ودل الحديث المتقدم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستشفع به إلى الله عز وجل : أي يطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة في الدنيا والآخرة ; فأما في الآخرة فيطلب منه الخلق الشفاعة في أن يقضي الله بينهم وفي أن يدخلوا الجنة ويشفع في أهل الكبائر من أمته ويشفع في بعض من يستحق النار أن لا يدخلها ويشفع في بعض من دخلها أن يخرج منها .



                [ ص: 318 ] ولا نزاع بين جماهير الأمة أنه يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين للثواب . ولكن كثيرا من أهل البدع والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعته لأهل الكبائر فقالوا : لا يشفع لأهل الكبائر بناء على أن أهل الكبائر عندهم لا يغفر الله لهم ولا يخرجهم من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا غيرها

                ومذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وسائر أهل السنة والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر وأنه لا يخلد في النار من أهل الإيمان أحد ; بل يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال ذرة من إيمان لكن هذا الاستسقاء والاستشفاع والتوسل به وبغيره كان يكون في حياته بمعنى أنهم يطلبون منه الدعاء فيدعو لهم فكان توسلهم بدعائه والاستشفاع به طلب شفاعته والشفاعة دعاء .



                فأما التوسل بذاته في حضوره أو مغيبه أو بعد موته - مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم بدعائهم - فليس هذا مشهورا عند الصحابة والتابعين بل عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان ومن بحضرتهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا استسقوا وتوسلوا واستشفعوا بمن كان حيا كالعباس وكيزيد بن الأسود ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا في هذه الحال بالنبي صلى الله عليه وسلم لا عند قبره ولا غير قبره بل عدلوا إلى البدل كالعباس [ ص: 319 ] وكيزيد بل كانوا يصلون عليه في دعائهم وقد قال عمر : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا .

                فجعلوا هذا بدلا عن ذلك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به ويقولوا في دعائهم في الصحراء بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به ; فيقولون : نسألك أو نقسم عليك بنبيك أو بجاه نبيك ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس .

                وروى بعض الجهال { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم ; } وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين وقد أخبرنا سبحانه عن موسى وعيسى عليهما السلام أنهما وجيهان عند الله فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها } وقال تعالى : { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين } .

                فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل ; فكيف بسيد ولد آدم صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون ; وصاحب الكوثر [ ص: 320 ] والحوض المورود الذي آنيته عدد نجوم السماء وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا ؟ . وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة حين يتأخر عنها آدم وأولو العزم - نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ويتقدم هو إليها وهو صاحب اللواء آدم ومن دونه تحت لوائه وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على ربه عز وجل وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا ذو الجاه العظيم صلى الله عليه وسلم وعلى آله .



                ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه : { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } { لقد أحصاهم وعدهم عدا } وقال تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا } { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا } . والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب والله تعالى لا شريك له كما قال سبحانه : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } . [ ص: 321 ] وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن اتخاذ القبور مساجد ولعن من يفعل ذلك ونهى عن اتخاذ قبره عيدا وذلك لأن أول ما حدث الشرك في بني آدم كان في قوم نوح . قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام .

                وثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض وقد قال الله تعالى عن قومه إنهم قالوا : { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } { وقد أضلوا كثيرا } . قال غير واحد من السلف : هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم فلما طال عليهم الأمد عبدوهم ; وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا عن ابن عباس وذكر أن هذه الآلهة صارت إلى العرب وسمى قبائل العرب الذين كانت فيهم هذه الأصنام . فلما علمت الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حسم مادة الشرك بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد - وإن كان المصلي يصلي لله عز وجل كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس لئلا يشابه المصلين للشمس ; وإن كان المصلي إنما يصلي لله تعالى وكان الذي يقصد الدعاء بالميت أو عند قبره أقرب إلى الشرك من الذي لا يقصد إلا الصلاة لله عز وجل - لم يكونوا يفعلون ذلك . وكذلك علم الصحابة أن التوسل به إنما هو التوسل بالإيمان به وطاعته [ ص: 322 ] ومحبته وموالاته أو التوسل بدعائه وشفاعته فلهذا لم يكونوا يتوسلون بذاته مجردة عن هذا وهذا . فلما لم يفعل الصحابة رضوان الله عليهم شيئا من ذلك ولا دعوا بمثل هذه الأدعية - وهم أعلم منا وأعلم بما يحب الله ورسوله وأعلم بما أمر الله به رسوله من الأدعية وما هو أقرب إلى الإجابة منا بل توسلوا بالعباس وغيره ممن ليس مثل النبي صلى الله عليه وسلم - دل عدولهم عن التوسل بالأفضل إلى التوسل بالمفضول أن التوسل المشروع بالأفضل لم يكن ممكنا .

                وقد قال صلى الله عليه وسلم { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } رواه مالك في موطئه ورواه غيره وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني } وفي الصحيحين أنه قال في مرض موته { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } يحذر ما فعلوا قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا . وفي صحيح مسلم عن جندب { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه [ ص: 323 ] قال : { لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله } . وقد روى الترمذي حديثا صحيحا { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علم رجلا أن يدعو فيقول : اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي اللهم شفعه في } وروى النسائي نحو هذا الدعاء . وفي الترمذي وابن ماجه عن عثمان بن العتبية { أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ادع الله أن يعافيني فقال : إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك . فقال : فادعه . فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا رسول الله يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى اللهم فشفعه في } قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . ورواه النسائي عن عثمان بن العتبية ولفظه { أن رجلا أعمى قال : يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري . قال فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري اللهم فشفعه في قال فرجع وقد كشف الله عن بصره } .



                وقال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا روح حدثنا شعبة عن عمير بن يزيد [ ص: 324 ] الليثي المديني قال : سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن العتبية { أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ادع الله أن يعافيني فقال إن شئت أخرت ذلك فهو خير لآخرتك وإن شئت دعوت لك قال : لا بل ادع الله لي فأمره أن يتوضأ وأن يصلي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى اللهم فشفعني فيه وشفعه في . قال ففعل الرجل فبرأ } . فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء . فمن الناس من يقول : هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقا حيا وميتا .

                وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه ويظن هؤلاء أن توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته أن يقضي حوائجهم ويظنون أن التوسل به لا يحتاج إلى أن يدعو هو لهم ولا إلى أن يطيعوه فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أو لم يدع الجميع عندهم توسل به وسواء أطاعوه أو لم يطيعوه ويظنون أن الله تعالى يقضي حاجة هذا الذي توسل به بزعمهم ولم يدع له الرسول كما يقضي حاجة هذا الذي توسل بدعائه ودعا له الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كلاهما متوسل به عندهم ويظنون أن كل من سأل الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد توسل به كما توسل به ذلك الأعمى وأن ما أمر به الأعمى مشروع لهم . وقول هؤلاء باطل شرعا وقدرا فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله . [ ص: 325 ] ومن الناس من يقولون : هذه قضية عين يثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها والفرق ثابت شرعا وقدرا بين من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وبين من لم يدع له ولا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر . وهذا الأعمى شفع له النبي صلى الله عليه وسلم فلهذا قال في دعائه " اللهم فشفعه في " . فعلم أنه شفيع فيه ولفظه : { إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك فقال : ادع لي } فهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي ويدعو هو أيضا لنفسه ويقول في دعائه " اللهم فشفعه في " فدل ذلك على أن معنى قوله : " أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد " أي بدعائه وشفاعته كما قال عمر " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا " .

                فالحديثان معناهما واحد فهو صلى الله عليه وسلم علم رجلا أن يتوسل به في حياته كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلا عنه . فلو كان التوسل به حيا وميتا سواء والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول لم يعدلوا عن التوسل به - وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه وأقربهم إليه وسيلة - إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله . [ ص: 326 ] وكذلك لو كان أعمى توسل به ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى فعدولهم عن هذا إلى هذا - مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله وما يشرع من الدعاء وينفع وما لم يشرع ولا ينفع وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن - دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه . ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه وذلك أن التوسل به حيا هو الطلب لدعائه وشفاعته وهو من جنس مسألته أن يدعو لهم وهذا مشروع ; فما زال المسلمون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم .

                وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء لا عند قبره ولا عند غير قبره كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين ; يسأل أحدهم الميت حاجته أو يقسم على الله به ونحو ذلك . وإن كان قد روي في ذلك حكايات عن بعض المتأخرين ; بل طلب الدعاء مشروع من كل مؤمن لكل مؤمن حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر لما استأذنه في العمرة : { لا تنسنا يا أخي من دعائك } - إن صح [ ص: 327 ] الحديث - وحتى { أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر للطالب } وإن كان الطالب أفضل من أويس بكثير . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول : ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة } مع أن طلبه من أمته الدعاء ليس هو طلب حاجة من المخلوق بل هو تعليم لأمته ما ينتفعون به في دينهم وبسبب ذلك التعليم والعمل بما علمهم يعظم الله أجره : فإنا إذا صلينا عليه مرة صلى الله علينا عشرا وإذا سألنا الله له الوسيلة حلت علينا شفاعته يوم القيامة وكل ثواب يحصل لنا على أعمالنا فله مثل أجرنا من غير أن ينقص من أجرنا شيء ; فإنه صلى الله عليه وسلم قال : { من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا } وهو الذي دعا أمته إلى كل خير وكل خير تعمله أمته له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء . ولهذا لم يكن الصحابة والسلف يهدون إليه ثواب أعمالهم ولا يحجون عنه [ ص: 328 ] ولا يتصدقون ولا يقرءون القرآن ويهدون له لأن كل ما يعمله المسلمون من صلاة وصيام وحج وصدقة وقراءة له صلى الله عليه وسلم مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء ; بخلاف الوالدين فليس كل ما عمله المسلم من الخير يكون لوالديه مثل أجره ولهذا يهدي الثواب لوالديه وغيرهما .

                ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم مطيع لربه عز وجل في قوله تعالى { فإذا فرغت فانصب } { وإلى ربك فارغب } فهو صلى الله عليه وسلم لا يرغب إلى غير الله وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : { يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون } . فهؤلاء من أمته وقد مدحهم بأنهم لا يسترقون والاسترقاء أن يطلب من غيره أن يرقيه والرقية من نوع الدعاء وكان هو صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه وغيره ولا يطلب من أحد أن يرقيه ورواية من روى في هذا : " لا يرقون " ضعيفة غلط ; فهذا مما يبين حقيقة أمره لأمته بالدعاء أنه ليس من باب سؤال المخلوق للمخلوق الذي غيره أفضل منه ; فإن من لا يسأل الناس - بل لا يسأل إلا الله - أفضل ممن يسأل الناس ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم .



                ودعاء الغائب للغائب أعظم إجابة من دعاء الحاضر لأنه أكمل إخلاصا وأبعد عن الشرك فكيف يشبه دعاء من يدعو لغيره بلا سؤال منه إلى دعاء [ ص: 329 ] من يدعو الله بسؤاله وهو حاضر ؟ وفي الحديث : { أعظم الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب } وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به : آمين ولك بمثله } . وذلك أن المخلوق يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه والمخلوق قادر على دعاء الله ومسألته فلهذا كان طلب الدعاء جائزا كما يطلب منه الإعانة بما يقدر عليه والأفعال التي يقدر عليها .

                فأما ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يجوز أن يطلب إلا من الله سبحانه لا يطلب ذلك لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم ولا يجوز أن يقال لغير الله : اغفر لي واسقنا الغيث وانصرنا على القوم الكافرين أو اهد قلوبنا ونحو ذلك ; ولهذا روى الطبراني في معجمه { أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فجاءوا إليه فقال إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله } وهذا في الاستعانة مثل ذلك . فأما ما يقدر عليه البشر فليس من هذا الباب وقد قال سبحانه : [ ص: 330 ] { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم } وفي دعاء موسى عليه السلام { اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وإليك المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ; ولا حول ولا قوة إلا بك } وقال أبو يزيد البسطامي : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق . وقال أبو عبد الله القرشي : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } .

                قال طائفة من السلف : كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء فقال الله تعالى : هؤلاء الذين تدعونهم هم عبادي كما أنتم عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي ويتقربون إلي كما تتقربون إلي فنهى سبحانه عن دعاء الملائكة والأنبياء مع إخباره لنا أن الملائكة يدعون لنا ويستغفرون مع هذا فليس لنا أن نطلب ذلك منهم . وكذلك الأنبياء والصالحون وإن كانوا أحياء في قبورهم وإن قدر أنهم يدعون للأحياء وإن وردت به آثار فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك ولم يفعل ذلك أحد من السلف لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم وعبادتهم من دون الله تعالى ; بخلاف الطلب من أحدهم في حياته فإنه لا يفضي إلى الشرك ; ولأن ما تفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون بعد الموت هو بالأمر الكوني [ ص: 331 ] فلا يؤثر فيه سؤال السائلين بخلاف سؤال أحدهم في حياته فإنه يشرع إجابة السائل وبعد الموت انقطع التكليف عنهم . وقال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } . فبين سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال تعالى : { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } وقال تعالى : { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } وقال تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } وقال تعالى عن صاحب يس : { وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون } { أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون } { إني إذا لفي ضلال مبين } { إني آمنت بربكم فاسمعون } وقال تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال تعالى : { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } وقال تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } .



                [ ص: 332 ] فالشفاعة نوعان : -

                أحدهما : الشفاعة التي نفاها الله تعالى كالتي أثبتها المشركون ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة وضلالهم وهي شرك .

                والثاني : أن يشفع الشفيع بإذن الله وهذه التي أثبتها الله تعالى لعباده الصالحين ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي ويسجد . قال : { فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال : أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع } فإذا أذن له في الشفاعة شفع صلى الله عليه وسلم لمن أراد الله أن يشفع فيه .

                قال أهل هذا القول : ولا يلزم من جواز التوسل والاستشفاع به - بمعنى أن يكون هو داعيا للمتوسل به - أن يشرع ذلك في مغيبه وبعد موته ; مع أنه هو لم يدع للمتوسل به بل المتوسل به أقسم له أو سأل بذاته مع كون الصحابة فرقوا بين الأمرين ; وذلك لأنه في حياته يدعو هو لمن توسل به ودعاؤه هو لله سبحانه أفضل دعاء الخلق فهو أفضل الخلق وأكرمهم على الله فدعاؤه لمن دعا له وشفاعته له أفضل دعاء مخلوق لمخلوق فكيف يقاس هذا بمن لم يدع له الرسول ولم يشفع له ؟ ومن سوى بين من دعا له الرسول وبين من لم يدع له الرسول وجعل هذا التوسل كهذا التوسل فهو من أضل الناس .

                وأيضا فإنه ليس في طلب الدعاء منه ودعائه هو والتوسل بدعائه ضرر [ ص: 333 ] بل هو خير بلا شر وليس في ذلك محذور ولا مفسدة فإن أحدا من الأنبياء عليهم السلام لم يعبد في حياته بحضوره فإنه ينهى من يعبده ويشرك به ولو كان شركا أصغر كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم من سجد له عن السجود له وكما قال { لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء محمد } وأمثال ذلك .

                وأما بعد موته فيخاف الفتنة والإشراك به كما أشرك بالمسيح والعزير وغيرهما عند قبورهم . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله } أخرجاه في الصحيحين وقال { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد } وقال { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } يحذر ما فعلوا .



                وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان أحدهما : أن لا نعبد إلا الله . والثاني : أن لا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بعبادة مبتدعة . وهذان الأصلان هما تحقيق " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " كما قال تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } . قال الفضيل بن عياض : أخلصه وأصوبه . قالوا : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا . والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة . وذلك تحقيق قوله تعالى { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } . [ ص: 334 ] وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول في دعائه له : اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا . وقال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } . وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } وفي لفظ في الصحيح { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وفي الصحيح وغيره أيضا يقول الله تعالى : { أنا أغنى الشركاء عن الشرك ; من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء ; وهو كله للذي أشرك } . ولهذا قال الفقهاء : العبادات مبناها على التوقيف كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قبل الحجر الأسود وقال " والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك " والله سبحانه أمرنا باتباع الرسول وطاعته . وموالاته ومحبته . وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما وضمن لنا بطاعته ومحبته محبة الله وكرامته . فقال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } وقال تعالى : { وإن تطيعوه تهتدوا } وقال تعالى : { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم } وأمثال ذلك في القرآن كثير .



                ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا عما مضت به السنة وجاءت به الشريعة [ ص: 335 ] ودل عليه الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة وما علمه قال به وما لم يعلمه أمسك عنه ولا يقفو ما ليس له به علم ولا يقول على الله ما لم يعلم فإن الله تعالى قد حرم ذلك كله .

                وقد جاء في الأحاديث النبوية ذكر ما سأل الله تعالى به كقوله صلى الله عليه وسلم { اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم } رواه أبو داود وغيره وفي لفظ : { اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه . وقد اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وهو الحلف بالمخلوقات ; فلو حلف بالكعبة أو بالملائكة ; أو بالأنبياء أو بأحد من الشيوخ أو بالملوك لم تنعقد يمينه ; ولا يشرع له ذلك ; بل ينهى عنه إما نهي تحريم ; وإما نهي تنزيه . فإن للعلماء في ذلك قولين .

                والصحيح أنه نهي تحريم . ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { من حلف بغير الله فقد أشرك } ولم يقل أحد من العلماء المتقدمين أنه تنعقد اليمين بأحد من الأنبياء إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم فإن عن أحمد روايتين في أنه تنعقد اليمين به وقد طرد بعض أصحابه - كابن عقيل - الخلاف في سائر الأنبياء وهذا ضعيف .

                وأصل القول بانعقاد اليمين بالنبي ضعيف شاذ ولم يقل به أحد من العلماء [ ص: 336 ] فيما نعلم والذي عليه الجمهور كمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا تنعقد اليمين به كإحدى الروايتين عن أحمد وهذا هو الصحيح . وكذلك الاستعاذة بالمخلوقات بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته ولهذا احتج السلف - كأحمد وغيره - على أن كلام الله غير مخلوق فيما احتجوا به بقول النبي صلى الله عليه وسلم { أعوذ بكلمات الله التامات } قالوا : فقد استعاذ بها ولا يستعاذ بمخلوق .

                وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا } فنهى عن الرقى التي فيها شرك كالتي فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } .



                ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والإقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره التي تتضمن الشرك ; بل نهوا عن كل ما لا يعرف معناه من ذلك خشية أن يكون فيه شرك بخلاف ما كان من الرقى المشروعة فإنه جائز . فإذا لا يجوز أن يقسم لا قسما مطلقا ولا قسما على غيره إلا بالله عز وجل ولا يستعيذ إلا بالله عز وجل . والسائل لله بغير الله إما أن يكون مقسما عليه وإما أن يكون طالبا بذلك السبب : كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم ; وكما يتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين . [ ص: 337 ] فإن كان إقساما على الله بغيره فهذا لا يجوز . وإن كان سؤالا بسبب يقتضي المطلوب كالسؤال بالأعمال التي فيها طاعة الله ورسوله مثل السؤال بالإيمان بالرسول ومحبته وموالاته ونحو ذلك فهذا جائز . وإن كان سؤالا بمجرد ذات الأنبياء والصالحين فهذا غير مشروع وقد نهى عنه غير واحد من العلماء وقالوا : إنه لا يجوز ورخص فيه بعضهم والأول أرجح كما تقدم وهو سؤال بسبب لا يقتضي حصول المطلوب بخلاف من كان طالبا بالسبب المقتضي لحصول المطلوب كالطلب منه سبحانه بدعاء الصالحين وبالأعمال الصالحة فهذا جائز ; لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا وإذا توسلنا بدعائهم وأعمالنا كنا متوسلين إليه تعالى بوسيلة كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } والوسيلة هي الأعمال الصالحة وقال تعالى : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } .



                وأما إذا لم نتوسل إليه سبحانه بدعائهم ولا بأعمالنا ولكن توسلنا بنفس ذواتهم لم يكن نفس ذواتهم سببا يقتضي إجابة دعائنا فكنا متوسلين بغير وسيلة ولهذا لم يكن هذا منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا صحيحا ولا مشهورا عن السلف . وقد نقل في ( منسك المروذي عن أحمد دعاء فيه سؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز القسم به [ ص: 338 ] وأكثر العلماء على النهي في الأمرين ولا ريب أن لهم عند الله الجاه العظيم - كما قال تعالى في حق موسى وعيسى عليهما السلام وقد تقدم ذكر ذلك - لكن ما لهم عند الله من المنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا لهم ; فإذا توسلنا إلى الله تعالى بإيماننا بنبيه ومحبته وموالاته واتباع سنته فهذا أعظم الوسائل . وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يجوز أن يكون وسيلة فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بالإيمان بالمتوسل به ولا بطاعته فبأي شيء يتوسل ؟ .



                والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه : اشفع لنا عنده وهذا جائز . وإما أن يقسم عليه كما يقول بحياة ولدك فلان وبتربة أبيك فلان وبحرمة شيخك فلان ونحو ذلك والإقسام على الله تعالى بالمخلوقين لا يجوز ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق . وإما أن يسأل بسبب يقتضي المطلوب كما قال الله تعالى . { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } وسيأتي بيان ذلك . وقد تبين أن الإقسام على الله سبحانه بغيره لا يجوز ولا يجوز أن يقسم بمخلوق أصلا وأما التوسل إليه بشفاعة المأذون لهم في الشفاعة فجائز والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما طلب الصحابة منه [ ص: 339 ] الاستسقاء وقوله " أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة " أي بدعائه وشفاعته لي ولهذا تمام الحديث " اللهم فشفعه في " . فالذي في الحديث متفق على جوازه وليس هو مما نحن فيه وقد قال تعالى { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } . فعلى قراءة الجمهور بالنصب : إنما يسألون بالله وحده لا بالرحم وتساؤلهم بالله تعالى يتضمن إقسام بعضهم على بعض بالله وتعاهدهم بالله . وأما على قراءة الخفض فقد قال طائفة من السلف : هو قولهم أسألك بالله وبالرحم وهذا إخبار عن سؤالهم وقد يقال إنه ليس بدليل على جوازه فإن كان دليلا على جوازه فمعنى قوله أسألك بالرحم ليس إقساما بالرحم - والقسم هنا لا يسوغ - لكن بسبب الرحم أي لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقا كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة وكسؤالنا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته . ومن هذا الباب ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن ابن أخيه عبد الله بن جعفر كان إذا سأله بحق جعفر أعطاه وليس هذا من باب الإقسام ; فإن الإقسام بغير جعفر أعظم بل من باب حق الرحم لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر وجعفر حقه على علي .



                ومن هذا الباب : الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم { في دعاء الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة [ ص: 340 ] ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك . أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت } .

                وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف فإن كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو من هذا الباب لوجهين : -

                ( أحدهما ) لأن فيه السؤال لله تعالى بحق السائلين وبحق الماشين في طاعته وحق السائلين أن يجيبهم وحق الماشين أن يثيبهم وهذا حق أوجبه الله تعالى وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق تعالى شيئا . ومنه قوله تعالى { كتب ربكم على نفسه الرحمة } وقوله تعالى { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } وقوله تعالى { وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله } .

                وفي الصحيح في حديث معاذ { حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم } . وفي الصحيح عن أبي ذر { عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما . فلا تظالموا } .

                وإذا كان حق السائلين والعابدين له هو الإجابة والإثابة ; بذلك فذاك سؤال لله بأفعاله ; كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم { أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك [ ص: 341 ] أنت كما أثنيت على نفسك } فالاستعاذة بمعافاته التي هي فعله كالسؤال بإثابته التي هي فعله .

                وروى الطبراني في ( كتاب الدعاء { عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول : يا عبدي إنما هي أربع : واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين خلقي ; فالتي لي أن تعبدني لا تشرك بي شيئا والتي هي لك أجزيك بها أحوج ما تكون إليه والتي بيني وبينك منك الدعاء ومني الإجابة والتي بينك وبين خلقي فأت إلى الناس ما تحب أن يأتوه إليك } .

                وتقسيمه في الحديث إلى قوله : واحدة لي وواحدة لك هو مثل تقسيمه في حديث الفاتحة حيث يقول الله تعالى : { قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ; نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل } . والعبد يعود عليه نفع النصفين والله تعالى يحب النصفين ; لكن هو سبحانه يحب أن يعبد ; وما يعطيه العبد من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك فإنما يحبه لكونه طريقا إلى عبادته والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولا ; وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة والهداية إلى الصراط المستقيم ; وبذلك يصل إلى العبادة إلى غير ذلك مما يطول الكلام فيما يتعلق بذلك وليس هذا موضعه وإن كنا خرجنا عن المراد .

                ( الوجه الثاني ) أن الدعاء له سبحانه وتعالى والعمل له سبب لحصول مقصود العبد فهو كالتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين من أمته وقد تقدم أن الدعاء بالنبي صلى الله عليه وسلم والصالح إما أن يكون إقساما به [ ص: 342 ] أو سببا به فإن كان قوله " بحق السائلين عليك " إقساما فلا يقسم على الله إلا به وإن كان سببا فهو سبب بما جعله هو سبحانه سببا وهو دعاؤه وعبادته .

                فهذا كله يشبه بعضه بعضا وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق من غير دعاء منه ولا عمل صالح منا .



                وإذا قال السائل : أسألك بحق الملائكة أو بحق الأنبياء وحق الصالحين ; ولا يقول لغيره أقسمت عليك بحق هؤلاء - فإذا لم يجز له أن يحلف به ولا يقسم على مخلوق به فكيف يقسم على الخالق به ؟ وإن كان لا يقسم به وإنما يتسبب به فليس في مجرد ذوات هؤلاء سبب يوجب تحصيل مقصوده ولكن لا بد من سبب منه كالإيمان بالملائكة والأنبياء أو منهم كدعائهم . ولكن كثيرا من الناس تعودوا كما تعودوا الحلف بهم حتى يقول أحدهم : وحقك على الله وحق هذه الشيبة على الله . وإذا قال القائل : أسألك بحق فلان أو بجاهه : أي أسألك بإيماني به ومحبتي له وهذا من أعظم الوسائل . قيل : من قصد هذا المعنى فهو معنى صحيح لكن ليس هذا مقصود عامة هؤلاء فمن قال : أسألك بإيماني بك وبرسولك ونحو ذلك أو بإيماني برسولك ومحبتي له ونحو ذلك فقد أحسن في ذلك كما قال تعالى في دعاء المؤمنين : { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار } وقال تعالى : { الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } وقال تعالى : { إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين } وقال تعالى : { ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } . وكان ابن مسعود يقول : اللهم أمرتني فأطعت ودعوتني فأجبت وهذا سحر فاغفر لي . ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر فأووا إلى الغار وانطبقت عليهم الصخرة ثم دعوا الله سبحانه بأعمالهم الصالحة ففرج عنهم وهو ما ثبت في الصحيحين . وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا خالد بن خراش العجلاني وإسماعيل بن إبراهيم قالا حدثنا صالح المري عن ثابت عن أنس قال : دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ثقيل فلم نبرح حتى قبض فبسطنا عليه ثوبه وله أم عجوز كبيرة عند رأسه فالتفت إليها بعضنا وقال : يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله . قالت : وما ذاك مات ابني ؟ قلنا : نعم . قالت : أحق ما تقولون ؟ قلنا : نعم . فمدت يديها إلى الله فقالت : اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعقبني عند كل شدة فرجا فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم . قال : فكشفت الثوب عن وجهه فما برحنا حتى طعمنا معه .



                وروي في كتاب الحلية لأبي نعيم { أن داود قال : بحق آبائي عليك إبراهيم وإسحاق ويعقوب . فأوحى الله تعالى إليه : يا داود وأي حق لآبائك علي ؟ } وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فالإسرائيليات يعتضد بها ولا يعتمد عليها . [ ص: 344 ] وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه . وأما المخلوق الغائب والميت فلا يطلب منه شيء . يحقق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه به لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته ; ودعاؤه وشفاعته صلى الله عليه وسلم من أعظم الوسائل عند الله عز وجل . وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى ويقسم عليه بذاته والله تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات بل لا يقسم بها بحال فلا يقال أقسمت عليك يا رب بملائكتك ولا بكعبتك ولا بعبادك الصالحين كما لا يجوز أن يقسم الرجل بهذه الأشياء بل إنما يقسم بالله تعالى بأسمائه وصفاته ولهذا كان السنة أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته فيقول { أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك } . الحديث كما جاءت به السنة .

                وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين الإسلام : وكذلك قوله " اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وبكلماتك التامات " . [ ص: 345 ] مع أن هذا الدعاء الثالث في جواز الدعاء به قولان للعلماء قال الشيخ أبو الحسن القدوري في كتابه المسمى بشرح الكرخي : قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف قال : قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول " بمعاقد العز من عرشك " أو " بحق خلقك " . وهو قول أبي يوسف قال أبو يوسف : " معقد العز من عرشه " هو الله فلا أكره هذا وأكره أن يقول : " بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام " قال القدوري : المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق فلا يجوز - يعني وفاقا - وهذا من أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما يقتضي المنع أن يسأل الله بغيره . فإن قيل : الرب سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته وليس لنا أن نقسم عليه إلا به . فهلا قيل : يجوز أن يقسم عليه بمخلوقاته وأن لا يقسم على مخلوق إلا بالخالق تعالى ؟ قيل لأن إقسامه بمخلوقاته من باب مدحه والثناء عليه وذكر آياته وإقسامنا نحن بذلك شرك إذا أقسمنا به لحض غيرنا أو لمنعه أو تصديق خبر أو تكذيبه .

                ومن قال لغيره : أسألك بكذا . فإما أن يكون مقسما فهذا لا يجوز بغير الله تعالى والكفارة في هذا على المقسم لا على المقسم عليه كما صرح بذلك أئمة الفقهاء . وإن لم يكن مقسما فهو من باب السؤال فهذا لا كفارة فيه على واحد منهما . فتبين أن السائل لله بخلقه إما أن يكون حالفا بمخلوق وذلك لا يجوز . وإما أن يكون سائلا به وقد تقدم تفصيل ذلك . وإذا قال " بالله أفعل كذا " [ ص: 346 ] فلا كفارة فيه على واحد منهما وإذا قال : " أقسمت عليك بالله لتفعلن أو " والله لتفعلن " فلم يبر قسمه لزمت الكفارة الحالف . والذي يدعو بصيغة السؤال فهو من باب السؤال به وأما إذا أقسم على الله تعالى مثل أن يقول : أقسمت عليك يا رب لتفعلن كذا كما كان يفعل البراء بن مالك وغيره من السلف فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره } وفي الصحيح { أنه قال لما قال أنس بن النضر : والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أنس كتاب الله القصاص فعفا القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره } وهذا من باب الحلف بالله لتفعلن هذا الأمر فهو إقسام عليه تعالى به وليس إقساما عليه بمخلوق . وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه وأنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .



                وقد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم { إذا كانت لكم حاجة فاسألوا الله بجاهي } حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب الحديث وإنما المشروع الصلاة عليه في دعاء . ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الصلاة عليه لم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به كما لم يذكر أحد من العلماء [ ص: 347 ] دعاء غير الله والاستعانة المطلقة بغيره في حال من الأحوال ; وإن كان بينهما فرق ; فإن دعاء غير الله كفر ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين - لا الأنبياء ولا غيرهم - عن أحد من السلف وأئمة العلم وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين بخلاف قولهم : أسألك بجاه نبينا أو بحقه فإن هذا مما نقل عن بعض المتقدمين فعله ولم يكن مشهورا بينهم ولا فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بل السنة تدل على النهي عنه كما نقل ذلك عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما . ورأيت في فتاوي الفقيه أبي محمد بن عبد السلام قال : لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم إن صح حديث الأعمى : فلم يعرف صحته - ثم رأيت عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما من العلماء أنهم قالوا : لا يجوز الإقسام على الله بأحد من الأنبياء ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي صلى الله عليه وسلم لكن قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به - وقد تقدم أن هذا الحديث لا يدل إلا على التوسل بدعائه ليس من باب الإقسام بالمخلوق على الله تعالى ولا من باب السؤال بذات الرسول كما تقدم . والذين يتوسلون بذاته لقبول الدعاء عدلوا عما أمروا به وشرع لهم - وهو من أنفع الأمور لهم - إلى ما ليس كذلك فإن الصلاة عليه من أعظم الوسائل التي بها يستجاب الدعاء وقد أمر الله بها . والصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } . [ ص: 348 ] وفي الصحيح عنه أنه قال . { من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا } وعن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره : إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه ثم يصلي على النبي ثم يدعو بعده بما شاء } رواه أحمد وأبو داود - وهذا لفظه - والترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث صحيح .

                وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ; ثم صلوا علي ; فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو ; فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة } . وفي سنن أبي داود والنسائي عنه { أن رجلا قال : يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل كما يقولون فإذا انتهيت سل تعطه } وفي المسند عن جابر بن عبد الله قال " من قال حين ينادي المنادي : اللهم رب هذه الدعوة القائمة والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه رضاء لا سخط بعده استجاب الله له دعوته ؟ . وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة } رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي : حديث حسن . [ ص: 349 ] وعن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء قلما ترد على داع دعوته : عند حصول النداء والصف في سبيل الله } رواه أبو داود .

                وفي المسند والترمذي وغيرهما عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة . جاء الموت بما فيه } . { قال أبي : قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي ؟ قال ما شئت قلت ; الربع ؟ قال : ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت : النصف . قال ؟ ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت : الثلثين ؟ قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت : أجعل لك صلاتي كلها ؟ قال إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك وفي لفظ إذا تكفى همك ويغفر ذنبك } . وقول السائل : أجعل لك من صلاتي ؟ يعني من دعائي ; فإن الصلاة في اللغة هي الدعاء قال تعالى : { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { اللهم صل على آل أبي أوفى } { وقالت : امرأة : صل علي يا رسول الله وعلى زوجي فقال صلى الله عليك وعلى زوجك } . فيكون مقصود السائل أي يا رسول الله إن لي دعاء أدعو به أستجلب به [ ص: 350 ] الخير وأستدفع به الشر فكم أجعل لك من الدعاء قال : " ما شئت " فلما انتهى إلى قوله : أجعل لك صلاتي كلها ؟ قال { إذا تكفى همك ويغفر ذنبك } . وفي الرواية الأخرى { إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك } . وهذا غاية ما يدعو به الإنسان من جلب الخيرات ودفع المضرات ; فإن الدعاء فيه تحصيل المطلوب واندفاع المرهوب كما بسط ذلك في مواضعه .



                وقد ذكر علماء الإسلام وأئمة الدين الأدعية الشرعية وأعرضوا عن الأدعية البدعية فينبغي اتباع ذلك . والمراتب في هذا الباب ثلاث : - ( إحداها أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم فيقول : يا سيدي فلان أغثني أو أنا أستجير بك أو أستغيث بك أو انصرني على عدوي . ونحو ذلك فهذا هو الشرك بالله . والمستغيث بالمخلوقات قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به ; وإنما هو شيطان دخله وأغواه لما أشرك بالله كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك ومثل هذا واقع كثيرا في زماننا وغيره وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري وقضى حوائجهم فظنوا أن ذلك من بركة الاستغاثة ( بي أو بغيري وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون الماضية كما ثبت ذلك فهذا أشرك بالله نعوذ بالله من ذلك [ ص: 351 ] وأعظم من ذلك أن يقول : اغفر لي وتب علي كما يفعله طائفة من الجهال المشركين . وأعظم من ذلك أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاة أفضل من استقبال القبلة حتى يقول بعضهم : هذه قبلة الخواص والكعبة قبلة العوام . وأعظم من ذلك أن يرى السفر إليه من جنس الحج حتى يقول إن السفر إليه مرات يعدل حجة وغلاتهم يقولون : الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة . ونحو ذلك فهذا شرك بهم وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه .



                ( الثانية أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين : ادع الله لي أو ادع لنا ربك أو اسأل الله لنا كما تقول النصارى لمريم وغيرها - فهذا أيضا لا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة ; وإن كان السلام على أهل القبور جائزا ومخاطبتهم جائزة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم { السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون . يغفر الله لنا ولكم نسأل الله لنا ولكم العافية . اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم } . وروى أبو عمر بن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام } . [ ص: 352 ] وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات لا دعاء ولا غيره . وفي موطأ مالك أن ابن عمر كان يقول : " السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت " ثم ينصرف . وعن عبد الله بن دينار قال : رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو لأبي بكر وعمر . وكذلك أنس بن مالك وغيره نقل عنهم أنهم كانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى لا يدعون مستقبلي الحجرة وإن كان قد وقع في بعض ذلك طوائف من الفقهاء والصوفية والعامة من لا اعتبار بهم فلم يذهب إلى ذلك إمام متبع في قوله ولا من له في الأمة لسان صدق عام .



                ومذهب الأئمة الأربعة - مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد - وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة . واختلفوا في وقت السلام عليه فقال الثلاثة - مالك والشافعي وأحمد - : يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه وقال أبو حنيفة : لا يستقبل الحجرة وقت السلام كما لا يستقبلها وقت الدعاء باتفاقهم . ثم في مذهبه قولان : - [ ص: 353 ] قيل يستدبر الحجرة وقيل يجعلها عن يساره . فهذا نزاعهم في وقت السلام وأما في وقت الدعاء فلم يتنازعوا في أنه إنما يستقبل القبلة لا الحجرة . والحكاية التي تذكر عن مالك أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة فأمره بذلك وقال : " هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم " : كذب على مالك ليس لها إسناد معروف وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره مثل ما ذكروا عنه أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلي الحجرة يدعون لأنفسهم فأنكر مالك ذلك وذكر أنه من البدع التي لم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان وقال : لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها . ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعا لكانوا هم أعلم بذلك وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم والداعي يدعو الله وحده . وقد نهي عن استقبال الحجرة عند دعائه لله تعالى كما نهي عن استقبال الحجرة عند الصلاة لله تعالى كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي مرثد [ ص: 354 ] الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } . فلا يجوز أن يصلي إلى شيء من القبور لا قبور الأنبياء ولا غيرهم لهذا الحديث الصحيح .



                ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر بل هذا من البدع المحدثة وكذلك قصد شيء من القبور لا سيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء فإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى فدعاء الميت نفسه أولى أن لا يجوز كما أنه لا يجوز أن يصلي مستقبله فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى . فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئا : لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك ولا يجوز أن يشكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين ; ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته فإن ذلك في حياته لا يفضي إلى الشرك وهذا يفضي إلى الشرك لأنه في حياته مكلف أن يجيب سؤال من سأله لما له في ذلك من الأجر والثواب وبعد الموت ليس مكلفا بل ما يفعله من ذكر لله تعالى ودعاء ونحو ذلك - كما أن موسى يصلي في قبره ; وكما صلى الأنبياء خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ببيت المقدس وتسبيح أهل الجنة والملائكة - فهم يمتعون بذلك وهم يفعلون ذلك بحسب ما يسره الله لهم ويقدره لهم ليس هو من باب التكليف الذي يمتحن به العباد . وحينئذ . فسؤال السائل للميت لا يؤثر في ذلك شيئا ; بل ما جعله الله فاعلا له هو يفعله وإن لم يسأله العبد ; كما يفعل الملائكة ما يؤمرون به وهم إنما [ ص: 355 ] يطيعون أمر ربهم لا يطيعون أمر مخلوق ; كما قال سبحانه وتعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } فهم لا يعملون إلا بأمره سبحانه وتعالى . ولا يلزم من جواز الشيء في حياته جوازه بعد موته ; فإن بيته كانت الصلاة فيه مشروعة وكان يجوز أن يجعل مسجدا . ولما دفن فيه حرم أن يتخذ مسجدا ; كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } يحذر ما فعلوا . ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا . وفي صحيح مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } . وقد كان صلى الله عليه وسلم في حياته يصلي خلفه وذلك من أفضل الأعمال ولا يجوز بعد موته أن يصلي الرجل خلف قبره وكذلك في حياته يطلب منه أن يأمر وأن يفتي وأن يقضي ولا يجوز أن يطلب ذلك منه بعد موته . وأمثال ذلك كثير . وقد كره مالك وغيره أن يقول الرجل : زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هذا اللفظ لم يرد . والأحاديث المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة بل كذب . وهذا اللفظ صار مشتركا في عرف المتأخرين يراد به ( الزيارة البدعية : التي في معنى الشرك ; كالذي يزور القبر ليسأله أو يسأل الله به أو يسأل الله عنده . [ ص: 356 ] و ( الزيارة الشرعية : هي أن يزوره لله تعالى : للدعاء له والسلام عليه كما يصلي على جنازته . فهذا الثاني هو المشروع ولكن كثير من الناس لا يقصد بالزيارة إلا المعنى الأول فكره مالك أن يقول : زرت قبره لما فيه من إيهام المعنى الفاسد الذي يقصده أهل البدع والشرك .



                ( الثالثة أن يقال : أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهي عنه . وتقدم أيضا أن هذا ليس بمشهور عن الصحابة بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس وغيره . وقد تبين ما في لفظ " التوسل " من الاشتراك بين ما كانت الصحابة تفعله وبين ما لم يكونوا يفعلونه فإن لفظ التوسل والتوجه في عرف الصحابة ولغتهم هو التوسل والتوجه بدعائه وشفاعته . ولهذا يجوز أن يتوسل ويتوجه بدعاء كل مؤمن وإن كان بعض الناس من المشايخ المتبوعين يحتج بما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور أو فاستعينوا بأهل القبور } فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء بذلك ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة . [ ص: 357 ] وقد قال تعالى : { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا } وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه غير مشروع وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو أقرب من ذلك - عن اتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك - ولعن أهله تحذيرا من التشبه بهم فإن ذلك أصل عبادة الأوثان . كما قال تعالى : { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } . فإن هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح . فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروهم ثم اتخذوا الأصنام على صورهم كما تقدم ذكر ذلك عن ابن عباس وغيره من علماء السلف . فمن فهم معنى قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وحده وأنه يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه وكذلك الاستغاثة لا تكون إلا بالله والتوكل لا يكون إلا عليه { وما النصر إلا من عند الله } فالنصر المطلق - وهو خلق ما يغلب به العدو - لا يقدر عليه إلا الله وفي هذا القدر كفاية لمن هداه الله والله أعلم .

                وهذا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الشرك هو كذلك في شرائع غيره من الأنبياء : ففي التوراة أن موسى عليه السلام نهى بني إسرائيل عن دعاء الأموات وغير ذلك من الشرك وذكر أن ذلك من أسباب عقوبة الله لمن فعله ; وذلك أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد وإن تنوعت شرائعهم كما في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { إنا معشر الأنبياء ديننا واحد } . [ ص: 358 ] وقد قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } { وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } وقال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } { منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين } { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره من الأولين والآخرين كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع .



                [ ص: 359 ] فصل وإذا تبين ما أمر الله به ورسوله وما نهى الله عنه ورسوله - في حق أشرف الخلق وأكرمهم على الله عز وجل وسيد ولد آدم وخاتم الرسل والنبيين وأفضل الأولين والآخرين وأرفع الشفعاء منزلة وأعظمهم جاها عند الله تبارك وتعالى - تبين أن من دونه من الأنبياء والصالحين أولى بأن لا يشرك به ولا يتخذ قبره وثنا يعبد ولا يدعى من دون الله لا في حياته ولا في مماته .

                ولا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين مثل أن يقول : يا سيدي فلانا أغثني وانصرني وادفع عني أو أنا في حسبك ونحو ذلك ; بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام وهؤلاء المستغيثون بالغائبين والميتين عند قبورهم وغير قبورهم - لما كانوا من جنس عباد الأوثان - صار الشيطان يضلهم ويغويهم كما يضل عباد الأوثان ويغويهم فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاث به وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة كما تخاطب الشياطين الكهان وبعض ذلك صدق لكن لا بد أن يكون في ذلك ما هو كذب بل الكذب أغلب عليه من الصدق .

                [ ص: 360 ] وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذي جاء من الغيب حتى فعل ذلك أو يظن أن الله تعالى صور ملكا - على صورته - فعل ذلك ويقول أحدهم : هذا سر الشيخ وحاله وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به المستغيث به كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم كما كان ذلك في أصنام مشركي العرب وهو اليوم موجود في المشركين من الترك والهند وغيرهم ; وأعرف من ذلك وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي وبغيري في حال غيبتنا عنهم فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به قد جئنا في الهواء ودفعنا عنهم ولما حدثوني بذلك بينت لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين وهذا من أكبر الأسباب التي بها أشرك المشركون وعبدة الأوثان .

                وكذلك المستغيثون من النصارى بشيوخهم الذين يسمونهم العلامس يرون أيضا من يأتي على صورة ذلك الشيخ النصراني الذي استغاثوا به فيقضي بعض حوائجهم .

                وهؤلاء الذين يستغيثون بالأموات من الأنبياء والصالحين والشيوخ وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم غاية أحدهم أن يجرى له بعض هذه الأمور أو يحكى لهم بعض هذه الأمور فيظن أن ذلك كرامة وخرق عادة بسبب هذا العمل .

                ومن هؤلاء من يأتي إلى قبر الشيخ [ ص: 361 ] الذي يشرك به ويستغيث به فينزل عليه من الهواء طعام أو نفقة أو سلاح أو غير ذلك مما يطلبه فيظن ذلك كرامة لشيخه وإنما ذلك كله من الشياطين . وهذا من أعظم الأسباب التي عبدت بها الأوثان .

                وقد قال الخليل عليه السلام ( { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } كما قال نوح عليه السلام ومعلوم أن الحجر لا يضل كثيرا من الناس إلا بسبب اقتضى ضلالهم ولم يكن أحد من عباد الأصنام يعتقد أنها خلقت السماوات والأرض بل إنما كانوا يتخذونها شفعاء ووسائط لأسباب : منهم من صورها على صور الأنبياء والصالحين . ومنهم : من جعلها تماثيل وطلاسم للكواكب والشمس والقمر . ومنهم من جعلها لأجل الجن . ومنهم : من جعلها لأجل الملائكة .

                فالمعبود لهم في قصدهم إنما هو الملائكة والأنبياء والصالحون أو الشمس أو القمر . وهم في نفس الأمر يعبدون الشياطين : فهي التي تقصد من الإنس أن يعبدوها وتظهر لهم ما يدعوهم إلى ذلك كما قال تعالى : { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } { قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } . وإذا كان العابد ممن لا يستحل عبادة الشياطين أوهموه أنه إنما يدعو [ ص: 362 ] الأنبياء والصالحين والملائكة وغيرهم ممن يحسن العابد ظنه به وأما إن كان ممن لا يحرم عبادة الجن عرفوه أنهم الجن .

                وقد يطلب الشيطان المتمثل له في صورة الإنسان أن يسجد له أو أن يفعل به الفاحشة أو أن يأكل الميتة ويشرب الخمر أو أن يقرب لهم الميتة وأكثرهم لا يعرفون ذلك بل يظنون أن من يخاطبهم إما ملائكة وإما رجال من الجن يسمونهم رجال الغيب ويظنون أن رجال الغيب أولياء الله غائبون عن أبصار الناس وأولئك جن تمثلت بصور الإنس أو رئيت في غير صور الإنس وقال تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } كان الإنس إذا نزل أحدهم بواد يخاف أهله قال : أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه وكانت الإنس تستعيذ بالجن فصار ذلك سببا لطغيان الجن وقالت : الإنس تستعيذ بنا وكذلك الرقى ; والعزائم الأعجمية : هي تتضمن أسماء رجال من الجن يدعون ; ويستغاث بهم ويقسم عليهم بمن يعظمونه فتطيعهم الشياطين بسبب ذلك في بعض الأمور . وهذا من جنس السحر والشرك قال تعالى : { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } .

                وكثير من هؤلاء يطير في الهواء وتكون الشياطين قد حملته وتذهب به إلى مكة وغيرها ويكون مع ذلك زنديقا يجحد الصلاة وغيرها مما فرض الله ورسوله ويستحل المحارم التي حرمها الله ورسوله وإنما يقترن به أولئك الشياطين لما فيه من الكفر والفسوق والعصيان حتى إذا آمن بالله ورسوله وتاب والتزم طاعة الله ورسوله فارقته تلك الشياطين وذهبت تلك الأحوال الشيطانية من الإخبارات والتأثيرات ; وأنا أعرف من هؤلاء عددا كثيرا بالشام ومصر والحجاز واليمن وأما الجزيرة والعراق وخراسان والروم ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها وبلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم . وإنما ظهرت هذه الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان بحسب ظهور أسبابها فحيث قوي الإيمان والتوحيد ونور الفرقان والإيمان وظهرت آثار النبوة والرسالة ضعفت هذه الأحوال الشيطانية وحيث ظهر الكفر والفسوق والعصيان قويت هذه الأحوال الشيطانية والشخص الواحد الذي يجتمع فيه هذا وهذا الذي تكون فيه مادة تمده للإيمان ومادة تمده للنفاق يكون فيه من هذا الحال وهذا الحال .

                والمشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام مثل البخشية والطونية والبدى [ ص: 364 ] ونحو ذلك من علماء المشركين وشيوخهم الذين يكونون للكفار من الترك والهند الجوار وغيرهم تكون الأحوال الشيطانية فيهم أكثر ويصعد أحدهم في الهواء ويحدثهم بأمور غائبة ويبقى الدف الذي يغنى لهم به يمشي في الهواء ويضرب رأس أحدهم إذا خرج عن طريقهم ولا يرون أحدا يضرب له ويطوف الإناء الذي يشربون منه عليهم ولا يرون من يحمله ويكون أحدهم في مكان فمن نزل منهم عنده ضيفه طعاما يكفيهم ويأتيهم بألوان مختلفة . وذلك من الشياطين تأتيه من تلك المدينة القريبة منه أو من غيرها تسرقه وتأتي به . وهذه الأمور كثيرة عند من يكون مشركا أو ناقص الإيمان من الترك وغيرهم وعند التتار من هذا أنواع كثيرة .



                وأما الداخلون في الإسلام إذا لم يحققوا التوحيد واتباع الرسول بل دعوا الشيوخ الغائبين واستغاثوا بهم فلهم من الأحوال الشيطانية نصيب بحسب ما فيهم مما يرضي الشيطان . ومن هؤلاء قوم فيهم عبادة ودين مع نوع جهل يحمل أحدهم فيوقف بعرفات مع الحجاج من غير أن يحرم إذا حاذى المواقيت ولا يبيت بمزدلفة ولا يطوف طواف الإفاضة ويظن أنه حصل له بذلك عمل صالح وكرامة عظيمة من كرامات الأولياء ولا يعلم أن هذا من تلاعب الشيطان به . فإن مثل هذا الحج ليس مشروعا ولا يجوز باتفاق علماء المسلمين ومن ظن أن هذا عبادة وكرامة لأولياء الله فهو ضال جاهل . ولهذا لم يكن أحد من الأنبياء والصحابة يفعل بهم مثل هذا فإنهم أجل [ ص: 365 ] قدرا من ذلك وقد جرت هذه القضية لبعض من حمل هو وطائفة معه من الإسكندرية إلى عرفة فرأى ملائكة تنزل وتكتب أسماء الحجاج فقال : هل كتبتموني ؟ قالوا أنت : لم تحج كما حج الناس أنت لم تتعب ولم تحرم ولم يحصل لك من الحج الذي يثاب الناس عليه ما حصل للحجاج . وكان بعض الشيوخ قد طلب منه بعض هؤلاء أن يحج معهم في الهواء فقال لهم : هذا الحج لا يسقط به الفرض عنكم لأنكم لم تحجوا كما أمر الله ورسوله .



                ودين الإسلام مبني على أصلين : على أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيء وعلى أن يعبد بما شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهذان هما حقيقة قولنا : " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " . فالإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيما وخوفا ورجاء وإجلالا وإكراما . والله عز وجل له حق لا يشركه فيه غيره فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله ولا يخاف إلا الله ولا يطاع إلا الله .

                والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله تعالى أمره ونهيه وتحليله وتحريمه فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه ; والرسول صلى الله عليه وسلم واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده وتحليله وتحريمه ; وسائر ما بلغه من كلامه . وأما في إجابة الدعاء وكشف البلاء والهداية والإغناء فالله تعالى هو الذي يسمع كلامهم ويرى مكانهم ويعلم سرهم ونجواهم ; وهو سبحانه قادر على [ ص: 366 ] إنزال النعم وإزالة الضر والقسم من غير احتياج منه إلى أن يعرفه أحد أحوال عباده أو يعينه على قضاء حوائجهم . والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خلقها ويسرها . فهو مسبب الأسباب وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . { يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن } فأهل السموات يسألونه وأهل الأرض يسألونه وهو سبحانه لا يشغله سمع كلام هذا عن سمع كلام هذا ولا يغلطه اختلاف أصواتهم ولغاتهم بل يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات ولا يبرمه إلحاح الملحين بل يحب الإلحاح في الدعاء .

                وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحكام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابتهم كما قال تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } إلى غير ذلك من مسائلهم . فلما سألوه عنه سبحانه وتعالى قال : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } فلم يقل سبحانه " فقل " بل قال تعالى : { فإني قريب أجيب دعوة الداع } . فهو قريب من عباده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لما كانوا يرفعون أصواتهم بالذكر والدعاء فقال : { أيها الناس أربعوا على أنفسكم [ ص: 367 ] فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا قام أحدكم إلى صلاته فلا يبصقن قبل وجهه فإن الله قبل وجهه ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا ولكن عن يساره أو تحت قدمه } وهذا الحديث في الصحيح من غير وجه . وهو سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته . وهو سبحانه غني عن العرش وعن سائر المخلوقات لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته بل هو الحامل بقدرته العرش وحملة العرش .

                وقد جعل تعالى العالم طبقات ولم يجعل أعلاه مفتقرا إلى أسفله فالسماء لا تفتقر إلى الهواء والهواء لا يفتقر إلى الأرض فالعلي الأعلى رب السماوات والأرض وما بينهما الذي وصف نفسه بقوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } أجل وأعظم وأغنى وأعلى من أن يفتقر إلى شيء بحمل أو غير حمل بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد الذي كل ما سواه مفتقر إليه وهو مستغن عن كل ما سواه . وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع قد بين فيه التوحيد الذي بعث الله به رسوله قولا وعملا فالتوحيد القولي مثل سورة الإخلاص { قل هو الله أحد } والتوحيد العملي { قل يا أيها الكافرون } ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 368 ] يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك . وقد كان أيضا يقرأ في ركعتي الفجر وركعتي الطواف : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } الآية . وفي الركعة الثانية بقوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } . فإن هاتين الآيتين ; فيهما دين الإسلام وفيهما الإيمان القولي والعملي فقوله تعالى { آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } إلى آخرها يتضمن الإيمان القولي والإسلام . وقوله : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } - الآية إلى آخرها - يتضمن الإسلام والإيمان العملي فأعظم نعمة أنعمها الله على عباده الإسلام والإيمان وهما في هاتين الآيتين والله سبحانه وتعالى أعلم . فهذا آخر السؤال والجواب الذي أحببت إيراده هنا بألفاظه ; لما اشتمل عليه من المقاصد المهمة والقواعد النافعة في هذا الباب مع الاختصار . فإن التوحيد هو سر القرآن ولب الإيمان وتنويع العبارة بوجوه الدلالات من أهم الأمور وأنفعها للعباد في مصالح المعاش والمعاد والله أعلم .




                الخدمات العلمية