الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل والتذكر اسم جامع لكل ما أمر الله بتذكره كما قال : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } أي قامت الحجة عليكم بالنذير الذي جاءكم وبتعميركم عمرا يتسع للتذكر .

                [ ص: 189 ] وقد أمر سبحانه بذكر نعمه في غير موضع كقوله : { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة } .

                والمطلوب بذكرها شكرها كما قال : { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون } { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } .

                وقوله : { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم } يتناول كل من خوطب بالقرآن . وكذلك قوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } . فالرسول من أنفس من خوطب بهذا الكلام إذ هي كاف الخطاب .

                ولما خوطب به أولا قريش ثم العرب ثم سائر الأمم صار يخص ويعم بحسب ذلك .

                وفيه ما يخص قريشا كقوله : { لإيلاف قريش } { إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } . وقوله : { وإنه لذكر لك ولقومك } .

                وفيه ما يعم العرب ويخصهم كقوله : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته } والأميون يتناول العرب قاطبة دون أهل الكتاب .

                ثم قال : { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } . فهذا يتناول كل من دخل في الإسلام بعد دخول العرب فيه إلى يوم القيامة كما قال ذلك مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد وغيرهما .

                فإن قوله { وآخرين منهم } أي في الدين دون النسب إذ لو كانوا منهم في النسب لكانوا من الأميين .

                وهذا كقوله تعالى : { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } .

                وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنهم فقال : { لو كان الإيمان معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس } . فهذا يدل على دخول هؤلاء لا يمنع دخول غيرهم من الأمم .

                وإذا كانوا هم منهم فقد دخلوا في قوله : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } . فالمنة على جميع المؤمنين عربهم وعجمهم سابقهم ولاحقهم . والرسول منهم لأنه إنسي مؤمن . وهو من العرب أخص لكونه عربيا جاء بلسانهم وهو من قريش أخص .

                والخصوص يوجب قيام الحجة لا يوجب الفضل إلا بالإيمان والتقوى لقوله : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .

                ولهذا كان الأنصار أفضل من الطلقاء من قريش وهم ليسوا من ربيعة ولا مضر بل من قحطان .

                وأكثر الناس على أنهم من ولد هود ليسوا من ولد إبراهيم .

                وقيل إنهم من ولد إسماعيل لحديث أسلم لما قال { ارموا فإن أباكم كان راميا } وأسلم من خزاعة وخزاعة من ولد إبراهيم .

                وفي هذا كلام ليس هذا موضعه إذ المقصود أن الأنصار أبعد نسبا من كل ربيعة ومضر مع كثرة هذه القبائل . و [ مع هذا هم أفضل ] من جمهور قريش إلا من السابقين الأولين من المهاجرين وفيهم قرشي وغير قرشي .

                ومجموع السابقين ألف وأربعمائة غير مهاجري الحبشة .

                [ ص: 192 ] فقوله : { لقد جاءكم } يخص قريشا والعرب ثم يعم سائر البشر لأن القرآن خطاب لهم . والرسول من أنفسهم والمعنى ليس بملك لا يطيقون الأخذ منه ولا جني .

                ثم يعم الجن لأن الرسول أرسل إلى الإنس والجن والقرآن خطاب للثقلين والرسول منهم جميعا كما قال : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } فجعل الرسل التي أرسلها من النوعين مع أنهم من الإنس .

                فإن الإنس والجن مشتركون مع كونهم أحياء ناطقين مأمورين منهيين . فإنهم يأكلون ويشربون وينكحون وينسلون ويغتذون وينمون بالأكل والشرب . وهذه الأمور مشتركة بينهم . وهم يتميزون بها عن الملائكة فإن الملائكة لا تأكل ولا تشرب ولا تنكح ولا تنسل .

                فصار الرسول من أنفس الثقلين باعتبار القدر المشترك بينهم الذي تميزوا به عن الملائكة حتى كان الرسول مبعوثا إلى الثقلين دون الملائكة .

                وكذلك قوله : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } هو كقوله : { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة } وقوله : { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } .

                ثم قال : { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } . والمقصود أنه أمر بذكر النعم وشكرها .

                وقال : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } في غير موضع . وقال للمؤمنين : { واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } فذكر النعم من الذكر الذي أمروا به .

                ومما أمروا به تذكرة قصص الأنبياء المتقدمين كما قال : { واذكر في الكتاب إبراهيم } { واذكر في الكتاب موسى } { واذكر في الكتاب إسماعيل } { واذكر في الكتاب إدريس } وقال { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب } { واذكر إسماعيل واليسع } .

                ومما أمروا به تذكرة ما وعدوا به من الثواب والعقاب . قال تعالى : { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } .

                [ ص: 194 ] ومما أمروا بتذكره آيات الله التي يستدلون بها على قدرته وعلى المعاد كقوله : { ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا } { أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } .

                وقد قال لموسى : { وذكرهم بأيام الله } وهي تتناول أيام نعمه وأيام نقمه ليشكروا ويعتبروا .

                ولهذا قال : { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } . فإن ذكر النعم يدعو إلى الشكر ; وذكر النقم يقتضي الصبر على فعل المأمور وإن كرهته النفس . وعن المحظور وإن أحبته النفس لئلا يصيبه ما أصاب غيره من النقمة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية