الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 60 ] وقال الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام مجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن تيمية رحمة الله عليه : الحمد لله نستعينه ونستهديه ; ونستغفره ونتوب إليه ; ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ; ومن يضلل فلا هادي له .

                ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ; أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فهدى به من الضلالة . وبصر به من العمى وأرشد به من الغي . وفتح به أعينا عميا ; وآذانا صما ; وقلوبا غلفا حيث بلغ الرسالة وأدى الأمانة ; ونصح الأمة ; وجاهد في الله حق جهاده ; وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه ; صلى الله عليه وعلى [ ص: 61 ] آله وسلم تسليما ; وجزاه عنا أفضل ما جزى نبيا عن أمته .

                أما بعد : فهذه : " قاعدة في الحسبة " .

                أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله ; وأن تكون كلمة الله هي العليا ; فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك وبه أنزل الكتب وبه أرسل الرسل وعليه جاهد الرسول والمؤمنون : قال الله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .

                وقد أخبر عن جميع المرسلين أن كلا منهم يقول لقومه : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وعباداته تكون بطاعته وطاعة رسوله وذلك هو الخير والبر ; والتقوى والحسنات ; والقربات والباقيات والصالحات والعمل الصالح ; وإن كانت هذه الأسماء بينها فروق لطيفة ليس هذا موضعها .

                وهذا الذي يقاتل عليه الخلق كما قال تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } . وفي الصحيحين عن أبي موسى [ ص: 62 ] الأشعري رضي الله عنه قال : { سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ; ويقاتل حمية . ويقاتل رياء : فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } " .

                وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم ; والتناصر لدفع مضارهم ; ولهذا يقال : الإنسان مدني بالطبع . فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة . وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة ; ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد والناهي عن تلك المفاسد فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمر وناه .

                فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية ولا من أهل دين فإنهم يطيعون ملوكهم فيما يرون أنه يعود بمصالح دنياهم ; مصيبين تارة ومخطئين أخرى وأهل الأديان الفاسدة من المشركين وأهل الكتاب المستمسكين به بعد التبديل أو بعد النسخ والتبديل : مطيعون فيما يرون أنه يعود عليهم بمصالح دينهم ودنياهم .

                وغير أهل الكتاب منهم من يؤمن بالجزاء بعد الموت . ومنهم من لا يؤمن به وأما أهل الكتاب فمتفقون على الجزاء بعد الموت ; ولكن الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض . فإن الناس لم يتنازعوا في [ ص: 63 ] أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة ولهذا يروى : " { الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة } " .

                وإذا كان لا بد من طاعة آمر وناه فمعلوم أن دخول المرء في طاعة الله ورسوله خير له وهو الرسول النبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر . ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وذلك هو الواجب على جميع الخلق قال الله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } . وقال : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } . وقال : { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم } { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } .

                وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته للجمعة : " { إن خير الكلام كلام الله ; وخير الهدي هدي محمد ; وشر الأمور [ ص: 64 ] محدثاتها } " . وكان يقول في خطبة الحاجة : " { من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا } " .

                وقد بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأفضل المناهج والشرائع وأنزل عليه أفضل الكتب فأرسله إلى خير أمة أخرجت للناس وأكمل له ولأمته الدين وأتم عليهم النعمة وحرم الجنة إلا على من آمن به وبما جاء به ولم يقبل من أحد إلا الإسلام الذي جاء به فمن ابتغى غيره دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين .

                وأخبر في كتابه أنه أنزل الكتاب والحديد ليقوم الناس بالقسط ; فقال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } .

                ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة أمور عليهم وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها ; وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى ; ففي سنن أبي داود عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 65 ] قال : " { إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم } " . وفي سننه أيضا عن أبي هريرة مثله . وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا أحدهم } " .

                فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم : كان هذا تنبيها على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك ; ولهذا كانت الولاية - لمن يتخذها دينا يتقرب به إلى الله ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان - من أفضل الأعمال الصالحة حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر } " .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية