الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وسئل رحمه الله تعالى عن إجبار الأب لابنته البكر البالغ على النكاح : هل يجوز أم لا ؟

                التالي السابق


                فأجاب : وأما إجبار الأب لابنته البكر البالغة على النكاح : ففيه قولان مشهوران ; هما روايتان عن أحمد . " أحدهما " أنه يجبر البكر البالغ كما هو مذهب مالك والشافعي وهو اختيار الخرقي والقاضي وأصحابه .

                و " الثاني " لا يجبرها كمذهب أبي حنيفة وغيره وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز ابن جعفر . وهذا القول هو الصواب . والناس متنازعون في " مناط الإجبار " هل [ ص: 23 ] هو البكارة ؟ أو الصغر ؟ أو مجموعها ؟ أو كل منهما ؟ على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره .

                والصحيح أن مناط الإجبار هو الصغر وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح ; فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر فقيل له : إن البكر تستحي ؟ فقال : إذنها صماتها } وفي لفظ في الصحيح { البكر يستأذنها أبوها } فهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم لا تنكح حتى تستأذن . وهذا يتناول الأب وغيره وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة ; وأن الأب نفسه يستأذنها . وأيضا فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها وبضعها أعظم من مالها فكيف يجوز أن يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها وأيضا : فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع .

                وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام ; فإن الشارع لم يجعل البكارة سببا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع .

                وأيضا : فإن الذين قالوا بالإجبار اضطربوا فيما إذا عينت كفؤا وعين الأب كفؤا آخر : هل يؤخذ بتعيينها ؟ أو بتعيين الأب ؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد . فمن جعل العبرة بتعيينها نقض أصله ومن جعل [ ص: 24 ] العبرة بتعيين الأب كان في قوله من الفساد والضرر والشر ما لا يخفى فإنه قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { الأيم أحق بنفسها من وليها ; والبكر تستأذن وإذنها صماتها } وفي رواية : { الثيب أحق بنفسها من وليها } .

                فلما جعل الثيب أحق بنفسها دل على أن البكر ليست أحق بنفسها ; بل الولي أحق وليس ذلك إلا للأب والجد . هذه عمدة المجبرين وهم تركوا العمل بنص الحديث وظاهره ; وتمسكوا بدليل خطابه ; ولم يعلموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم . وذلك أن قوله : { الأيم أحق بنفسها من وليها } يعم كل ولي وهم يخصونه بالأب والجد .

                " و الثاني " قوله : { والبكر تستأذن } وهم لا يوجبون استئذانها ; بل قالوا : هو مستحب حتى طرد بعضهم قياسه ; وقالوا لما كان مستحبا اكتفى فيه بالسكوت وادعى أنه حيث يجب استئذان البكر فلا بد من النطق . وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد . وهذا مخالف لإجماع المسلمين قبلهم ; ولنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة المستفيضة ; واتفاق الأئمة قبل هؤلاء أنه إذا زوج البكر أخوها أو عمها فإنه يستأذنها ; وإذنها صماتها .

                وأما المفهوم : فالنبي صلى الله عليه وسلم فرق بين البكر والثيب ; كما قال في الحديث الآخر : { لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر } فذكر في هذه لفظ " الإذن " وفي هذه لفظ " الأمر " وجعل إذن هذه الصمات ; كما أن إذن تلك النطق . فهذان هما الفرقان اللذان فرق بهما النبي صلى الله عليه وسلم بين البكر [ ص: 25 ] والثيب ; لم يفرق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار ; وذلك لأن " البكر " لما كانت تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها ; بل تخطب إلى وليها ووليها يستأذنها فتأذن له ; لا تأمره ابتداء : بل تأذن له إذا استأذنها وإذنها صماتها .

                وأما الثيب فقد زال عنها حياء البكر فتتكلم بالنكاح فتخطب إلى نفسها وتأمر الولي أن يزوجها . فهي آمرة له وعليه أن يعطيها فيزوجها من الكفء إذا أمرته بذلك . فالولي مأمور من جهة الثيب ومستأذن للبكر . فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم .

                وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح : فهذا مخالف للأصول والعقول والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده . فكيف يكرهها على مباضعة ومعاشرة من تكره مباضعته ومعاشرة من تكره معاشرته والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له ونفورها عنه . فأي مودة ورحمة في ذلك ؟ ثم إنه إذا وقع الشقاق بين الزوجين فقد أمر الله ببعث حكم من أهله وحكم من أهلها .

                و " والحكمان " كما سماهما الله عز وجل : هما حكمان عند أهل المدينة وهو أحد القولين للشافعي وأحمد وعند أبي حنيفة والقول الآخر : هما " وكيلان " والأول أصح ; لأن الوكيل [ ص: 26 ] ليس بحكم ولا يحتاج فيه إلى أمر الأئمة ولا يشترط أن يكون من الأهل ولا يختص بحال الشقاق ولا يحتاج في ذلك إلى نص خاص ; ولكن إذا وقع الشقاق فلا بد من ولي لهما يتولى أمرهما ; لتعذر اختصاص أحدهما بالحكم على الآخر . فأمر الله أن يجعل أمرهما إلى اثنين من أهلهما فيفعلان ما هو الأصلح من جمع بينهما وتفريق : بعوض أو بغيره . وهنا يملك الحكم الواحد مع الآخر الطلاق بدون إذن الرجل ويملك الحكم الآخر مع الأول بذل العوض من مالها بدون إذنها ; لكونهما صارا وليين لهما . وطرد هذا القول : أن الأب يطلق على ابنه الصغير والمجنون : إذا رأى المصلحة ; كما هو إحدى الروايتين عن أحمد .

                وكذلك يخالع عن ابنته إذا رأى المصلحة لها . وأبلغ من ذلك أنه إذا طلقها قبل الدخول فللأب أن يعفو عن نصف الصداق إذا قيل : هو الذي بيده عقدة النكاح . كما هو قول مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه . والقرآن يدل على صحة هذا القول ; وليس الصداق كسائر مالها ; فإنه وجب في الأصل نحلة وبضعها عاد إليها من غير نقص وكان إلحاق الطلاق بالفسوخ فوجب ألا يتنصف ; لكن الشارع جبرها بتنصيف الصداق ; لما حصل لها من الانكسار به ولهذا جعل ذلك عوضا عن المتعة عند ابن عمر والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه فأوجبوا المتعة لكل مطلقة ; إلا لمن طلقت بعد الفرض وقبل [ ص: 27 ] الدخول والمسيس فحسبها ما فرض لها . وأحمد في الرواية الأخرى مع أبي حنيفة وغيره لا يوجبون المتعة إلا لمن طلقت قبل الفرض والدخول ويجعلون المتعة عوضا عن نصف الصداق ويقولون : كل مطلقة فإنها تأخذ صداقا ; إلا هذه . وأولئك يقولون : الصداق استقر قبل الطلاق بالعقد والدخول والمتعة سببها الطلاق فتجب لكل مطلقة ; لكن المطلقة بعد الفرض وقبل المسيس متعت بنصف الصداق فلا تستحق الزيادة .

                وهذا القول أقوى من ذلك القول : فإن الله جعل الطلاق سبب المتعة فلا يجعل عوضا عما سببه العقد والدخول ; لكن يقال على هذا : فالقول الثالث أصح ; وهو الرواية الأخرى عن أحمد : أن كل مطلقة لها متعة ; كما دل عليه ظاهر القرآن وعمومه حيث قال : { وللمطلقات متاع بالمعروف } وأيضا فإنه قد قال : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا } . فأمر بتمتيع المطلقات قبل المسيس ولم يخص ذلك بمن لم يفرض لها مع أن غالب النساء يطلقن بعد الفرض .

                وأيضا فإذا كان سبب المتعة هو الطلاق فسبب المهر هو العقد . فالمفوضة التي لم يسم لها مهرا يجب لها مهر المثل بالعقد ويستقر بالموت على القول الصحيح الذي دل عليه حديث بروع بنت واشق التي تزوجت ومات عنها زوجها قبل أن يفرض لها مهر وقضى لها النبي صلى الله عليه وسلم بأن { لها مهر امرأة من نسائها لا وكس ولا شطط } لكن هذه لو طلقت قبل [ ص: 28 ] المسيس لم يجب لها نصف المهر بنص القرآن ; لكونها لم تشترط مهرا مسمى والكسر الذي حصل لها بالطلاق انجبر بالمتعة ; وليس هذا موضع بسط هذه المسائل .

                ولكن " المقصود " : أن الشارع لا يكره المرأة على النكاح إذا لم ترده ; بل إذا كرهت الزوج وحصل بينهما شقاق فإنه يجعل أمرها إلى غير الزوج لمن ينظر في المصلحة من أهلها ; مع من ينظر في المصلحة من أهله فيخلصها من الزوج بدون أمره ; فكيف تؤسر معه أبدا بدون أمرها . والمرأة أسيرة مع الزوج ; كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { اتقوا الله في النساء ; فإنهن عوان عندكم ; أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله } .




                الخدمات العلمية