الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وهو سبحانه ذكر وجل القلب من ذكره ثم ذكر زيادة الإيمان عند تلاوة كتابه علما وعملا . ثم لا بد من التوكل على الله فيما لا يقدر عليه ومن طاعته فيما يقدر عليه وأصل ذلك " الصلاة " و " الزكاة " . فمن قام بهذه الخمس كما أمر لزم أن يأتي بسائر الواجبات . بل " الصلاة نفسها " إذا فعلها كما أمر فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ; كما روي عن ابن مسعود وابن عباس : إن في الصلاة منتهى ومزدجرا عن معاصي الله فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا " . وقوله : " لم يزدد إلا بعدا " إذا كان ما ترك من الواجب منها أعظم مما فعله ، أبعده ترك الواجب الأكثر من الله أكثر مما قربه فعل الواجب الأقل ، وهذا [ ص: 31 ] كما في " الصحيح " { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا } . وقد قال تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } . وفي السنن عن عمار { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها ، إلا ثلثها . . حتى قال : إلا عشرها } وعن ابن عباس قال : ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها . وهذا وإن لم يؤمر بإعادة الصلاة عند أكثر العلماء لكن يؤمر بأن يأتي من التطوعات بما يجبر نقص فرضه .

                ومعلوم أن من حافظ على الصلوات بخشوعها الباطن وأعمالها الظاهرة وكان يخشى الله الخشية التي أمره بها ; فإنه يأتي بالواجبات ; ولا يأتي كبيرة . ومن أتى الكبائر - مثل الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ; وغير ذلك - فلا بد أن يذهب ما في قلبه من تلك الخشية والخشوع والنور ; وإن بقي أصل التصديق في قلبه . وهذا من " الإيمان " الذي ينزع منه عند فعل الكبيرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن } . فإن " المتقين " كما وصفهم الله بقوله : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } فإذا طاف بقلوبهم طائف من الشيطان [ ص: 32 ] تذكروا فيبصرون . قال سعيد بن جبير : هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله ; فيكظم الغيظ . وقال ليث عن مجاهد : هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه . والشهوة والغضب مبدأ السيئات فإذا أبصر رجع ثم قال : { وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } . أي : وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون . قال ابن عباس : لا الإنس تقصر عن السيئات . ولا الشياطين تمسك عنهم . فإذا لم يبصر بقي قلبه في غي والشيطان يمده في غيه . وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب . فذلك النور والإبصار . وتلك الخشية والخوف يخرج من قلبه . وهذا : كما أن الإنسان يغمض عينيه فلا يرى شيئا وإن لم يكن أعمى ; فكذلك القلب بما يغشاه من رين الذنوب لا يبصر الحق . وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر . وهكذا جاء في الآثار : قال أحمد بن حنبل في كتاب ( الإيمان ) : حدثنا يحيى عن أشعث عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ينزع منه الإيمان ; فإن تاب أعيد إليه } . وقال : حدثنا يحيى عن عوف قال : قال الحسن : " يجانبه الإيمان ما دام كذلك فإن راجع راجعه الإيمان " .

                وقال أحمد : حدثنا معاوية عن أبي إسحاق عن الأوزاعي قال : وقد قلت للزهري حين ذكر هذا الحديث - { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } فإنهم يقولون : فإن لم يكن مؤمنا فما هو ؟ قال : فأنكر ذلك . وكره مسألتي عنه . وقال أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي . عن سفيان عن إبراهيم بن [ ص: 33 ] مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال لغلمانه : من أراد منكم الباءة زوجناه لا يزني منكم زان إلا نزع الله منه نور الإيمان فإن شاء أن يرده رده وإن شاء أن يمنعه منعه . وقال أبو داود السجستاني : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية بن الوليد حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الله بن ربيعة الحضرمي أنه أخبره { عن أبي هريرة أنه كان يقول : إنما الإيمان كثوب أحدكم يلبسه مرة ويقلعه أخرى } وكذلك رواه بإسناده عن عمر وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا . وفي حديث عن أبي هريرة مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم { إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة فإذا انقطع رجع إليه الإيمان } . وهذا ( إن شاء الله ) يبسط في موضع آخر .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية