الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( فإن نام فاحتلم لم يفطر ) لقوله صلى الله عليه وسلم { ثلاث لا يفطرن الصيام القيء والحجامة والاحتلام } ، ولأنه لم توجد صورة الجماع ولا معناه وهو الإنزال عن شهوة بالمباشرة ( وكذا إذا نظر إلى امرأة فأمنى ) لما بينا فصار كالمتفكر إذا أمنى [ ص: 330 ] وكالمستمني بالكف على ما قالوا ( ولو ادهن لم يفطر ) لعدم المنافي ( وكذا إذا احتجم ) لهذا ولما روينا ( ولو اكتحل لم يفطر ) لأنه ليس بين العين والدماغ منفذ والدمع يترشح كالعرق والداخل من المسام لا ينافي [ ص: 331 ] كما لو اغتسل بالماء البارد ( ولو قبل لا يفسد صوم ) يريد به إذا لم ينزل لعدم المنافي صورة ومعنى بخلاف الرجعة والمصاهرة لأن الحكم هناك أدير على السبب على ما يأتي في موضعه إن شاء الله . ( وإن أنزل بقبلة أو لمس فعليه القضاء دون الكفارة ) لوجود معنى الجماع ووجود المنافي صورة أو معنى يكفي لإيجاب القضاء احتياطا ، أما الكفارة فتفتقر إلى كمال الجناية لأنها تندرئ بالشبهات كالحدود ( ولا بأس بالقبلة إذا أمن على نفسه ) أي الجماع أو الإنزال ( ويكره إذا لم يأمن ) لأن عينه ليس بمفطر وربما يصير فطرا بعاقبته فإن أمن يعتبر عينه وأبيح له ، وإن لم يأمن تعتبر عاقبته وكره له ، والشافعي أطلق فيه في الحالين والحجة عليه ما ذكرنا [ ص: 332 ] والمباشرة الفاحشة مثل التقبيل في ظاهر الرواية وعن محمد أنه كره المباشرة الفاحشة لأنها قلما تخلو عن الفتنة .

التالي السابق


( قوله لقوله عليه الصلاة والسلام { ثلاث لا يفطرن الصيام } ) رواه الترمذي { ثلاث لا يفطرن الصائم : الحجامة ، والقيء ، والاحتلام } وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه وهو ضعيف ، وذكره البزار من حديث أخي عبد الرحمن وهو أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه مسندا ، وضعفه أيضا أحمد كابن معين لسوء حفظه ، وإن كان رجلا صالحا ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وأخرجه الدارقطني بطريق آخر فيه هشام بن سعد عن زيد بن أسلم ، وهشام هذا ضعفه النسائي وأحمد وابن معين ولينه ابن عدي وقال : يكتب حديثه ، وقال عبد الحق : يكتب حديثه ، ولا يحتج به ، لكن قد احتج به مسلم ، واستشهد به البخاري . ورواه البزار أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثلاث لا يفطرن الصائم : القيء ، والحجامة ، والاحتلام } .

قال : وهذا من أحسنها إسنادا وأصحها ا هـ . وفيه سليمان بن حبان قال ابن معين : صدوق وليس بحجة . وأخرجه الطبراني من حديث ثوبان ، وقال : لا يروى عن ثوبان إلا بهذا الإسناد ، تقرد به ابن وهب . فقد ظهر أن هذا الحديث يجب أن يرتقي إلى درجة الحسن لتعدد طرقه ، وضعف رواته إنما هو من قبل الحفظ لا العدالة فالتضافر دليل الإجادة في خصوصه ، والمراد من القيء ما ذرع الصائم على ما سيظهر ( قوله وكذا إذا نظر إلى امرأة ) بشهوة إلى وجهها أو فرجها كرر النظر أو لا لا يفطر إذا أنزل ( لما بينا ) أنه لم توجد صورة الجماع ولا معناه وهو للإنزال عن مباشرة وهو حجة على مالك في قوله : [ ص: 330 ] إذا كرره فأنزل أفطر .

وما روي عنه عليه الصلاة والسلام { لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى } والمراد به الحل والحرمة ، وليس يلزم من الحظر الإفطار بل إنما يتعلق بفوات الركن ، وهو بالجماع لا بكل إنزال لعدم الفطر فيما إذا أنزل بالتفكر في جمال امرأة فإنه لم يفطر . وغاية ما يجب أن يعتبر معنى الجماع كالجماع . وهو أيضا منتف لأنه الإنزال عن مباشرة لا مطلقا لما ذكرنا ( قوله على ما قالوا ) عادته في مثله إفادة الضعف مع الخلاف . وعامة المشايخ على الإفطار .

وقال المصنف في التجنيس : أنه المختار كأنه اعتبرت المباشرة المأخوذة في معنى الجماع أعم من كونها مباشرة الغير أولا بأن يراد مباشرة هي سبب الإنزال سواء كان ما بوشر مما يشتهى عادة أو لا ، ولهذا أفطر بالإنزال في فرج البهيمة والميتة وليس مما يشتهى عادة ، هذا ولا يحل الاستمناء بالكف ذكر المشايخ فيه أنه عليه الصلاة والسلام قال { ناكح اليد ملعون ، فإن غلبته الشهوة ففعل إرادة تسكينها به فالرجاء أن لا يعاقب } ( قوله لهذا ) أي عدم المنافي ( ولما روينا ) من حديث { ثلاث لا يفطرن الصائم } ومذهب أحمد أن الحجامة تفطر لقوله عليه الصلاة والسلام { أفطر الحاجم والمحجوم } رواه الترمذي ، وهو معارض بما رويناه ، وبما روي { أنه عليه الصلاة والسلام احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم } رواه البخاري وغيره . وقيل لأنس : أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لا إلا من أجل الضعف . رواه البخاري .

وقال أنس : { أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أفطر هذا ثم رخص عليه الصلاة والسلام في الحجامة بعد للصائم } ، وكان أنس يحتجم وهو صائم . رواه الدارقطني وقال في رواية : كلهم ثقات ولا أعلم له علة ( قوله ولو اكتحل لم يفطر ) سواء وجد طعمه في حلقه أو لا لأن الموجود في حلقه أثره داخلا من المسام والمفطر الداخل من المنافذ كالمدخل والمخرج لا من المسام الذي هو خلل البدن للاتفاق فيمن شرع في الماء يجد برده في بطنه ولا يفطر . وإنما كره أبو حنيفة ذلك أعني الدخول في الماء والتلفف بالثوب المبلول لما فيه من إظهار الضجر في إقامة العبادة لا لأنه قريب من الإفطار ولو بزق فوجد لون الدم فيه الأصح أنه لا يفطر . وقيل : يفطر لتحقق وصول دم إلى بطن من بطونه ، وهو [ ص: 331 ] قول مالك وسنذكر الخلاف فيها ( قوله بخلاف الرجعة إلخ ) أي لو قبل المطلقة الرجعية صار مراجعا وبالقبلة أيضا مع شهوة ينتشر لها الذكر تثبت حرمة أمهات المقبلة وبناتها ( لأن الحكم ) وهو ثبوت الرجعة وحرمة المصاهرة ( أدبر على السبب ) لأنه يؤخذ فيهما بالاحتياط فتعدى من الحقيقة إلى الشبهة فأقيم السبب فيه مقام المسبب أعني الوطء ( قوله أما الكفارة فتفتقر إلى كمال الجناية لأنها تندرئ بالشبهات ) فكانت عقوبة وهو أعلى عقوبة للإفطار في الدنيا فيتوقف لزومها على كمال الجناية ، ولو قال بالواو كانا تعليلين وهو أحسن ويكون نفس قوله تفتقر إلى كمال الجناية تعليلا أي لا تجب لأنها تفتقر إلى كمال الجناية إذ كانت أعلى العقوبات في هذا الباب ، ولأنها تندرئ بالشبهات وفي كون ذلك مفطرا شبهة حيث كان معنى الجماع لا صورته فلا تجب ( قوله : لأن عينه ) ذكر على معنى التقبيل .

وفي الصحيحين { أنه عليه الصلاة والسلام : كان يقبل ويباشر وهو صائم } { وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبلها . وهو صائم } متفق عليه ، والمس في جميع ما ذكرنا كالتقبيل [ ص: 332 ] قوله مثل التقبيل ) وروى أبو داود بإسناد جيد عن أبي هريرة { أنه عليه الصلاة والسلام سأله رجل عن المباشرة للصائم فرخص له . وأتاه آخر فنهاه . فإذا الذي رخص له شيخ ، والذي نهاه شاب } وهذا يفيد التفصيل الذي اعتبرناه ( والمباشرة كالتقبيل في ظاهر الرواية خلافا لمحمد في المباشرة الفاحشة ) وهي تجردهما متلازقي البطنين ، وهذا أخص من مطلق المباشرة وهو المفاد في الحديث ، فجعل الحديث دليلا على محمد محل نظر ، إذ لا عموم للفعل المثبت في أقسامه بل ولا في الزمان وفهمه فيه من إدخال الراوي لفظ كان على المضارع .

وقول محمد وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة ( قوله : لأنها قلما تخلو عن الفتنة ) قلنا : الكلام فيما إذا كان بحال يأمن . فإن خاف قلنا بالكراهة والأوجه الكراهة لأنها إذا كانت سببا غالبا تنزل سببا فأقل الأمور لزوم الكراهة من غير ملاحظة تحقق الخوف بالفعل . كما هو قواعد الشرع




الخدمات العلمية