الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ويفعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى ) لأنه تكرار الأركان ( إلا أنه لا يستفتح ولا يتعوذ ) لأنهما لم يشرعا إلا مرة واحدة ( ولا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى ) خلافا للشافعي رحمه الله في الركوع والرفع منه لقوله عليه الصلاة والسلام { لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن : تكبيرة الافتتاح ، وتكبيرة القنوت [ ص: 310 ] وتكبيرات العيدين ، وذكر الأربع في الحج } والذي يروى من الرفع محمول على الابتداء ، كذا نقل عن ابن الزبير .

التالي السابق


( قوله لقوله صلى الله عليه وسلم ) غريب بهذا اللفظ ، وقد روى الطبراني بسنده عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم { لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن : حين يفتتح الصلاة ، وحين يدخل المسجد الحرام فينظر إلى البيت ، وحين يقوم على المروة ، وحين يقف مع الناس عشية عرفة ، وبجمع ، والمقامين حين يرمي الجمرة } وذكره البخاري معلقا في كتابه المفرد في رفع اليدين فقال : وقال وكيع عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم { لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن : في افتتاح الصلاة ، وفي استقبال الكعبة ، وعلى الصفا والمروة ، وبعرفات ، وبجمع ، وفي المقامين ، وعند الجمرتين } وقال : قال شعبة : لم يسمع الحكم عن مقسم إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها ، فهو مرسل وغير محفوظ . قال : وأيضا فهم يعني : أصحابنا خالفوا هذا الحديث في تكبيرات العيدين وتكبيرة القنوت انتهى . وقال في الإمام : [ ص: 310 ] اعترض عليه بوجوه تفرد ابن أبي ليلى وترك الاحتجاج به . ورواه وكيع عنه بالوقف على ابن عباس وابن عمر ، قال الحاكم : ووكيع أثبت من كل من روى هذا عن ابن أبي ليلى ، وبرواية جماعة من التابعين بأسانيد صحيحة عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما كانا يرفعان أيديهما عند الركوع ، وبعد رفع الرأس منه .

وقد أسنداه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وبأنه روي عن الحكم قال في جميع الروايات : ترفع الأيدي وليس في شيء منها لا ترفع إلا فيها : ويستحيل أن يكون لا ترفع إلا فيها صحيحا .

وقد تواترت الأخبار بالرفع في غيرها كثيرا ، فمنها الاستسقاء ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا حاصله ، وأحسنها أن الحصر غير مراد لما ذكر من ثبوت الرفع في غير المذكورة ، فإذا ثبت عند الركوع والرفع منه وجب القول به ، وقد ثبت وهو ما أخرجه الستة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ثم كبر ، فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك ، وإذا رفع من الركوع فعل مثل ذلك ، ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود } وجوابه المعارضة بما في أبي داود والترمذي عن وكيع عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة قال : قال عبد الله بن مسعود : { ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يرفع يديه إلا في أول مرة } . وفي لفظ : { فكان يرفع يديه في أول مرة ثم لا يعود } . قال الترمذي حديث حسن ، وأخرجه النسائي عن ابن المبارك عن سفيان إلخ ، وما نقل عن ابن المبارك أنه قال : لم يثبت عندي حديث ابن مسعود فغير ضائر بعد ما ثبت بالطريق التي ذكرنا . والقدح في عاصم بن كليب غير مقبول ، فقد وثقه ابن معين وأخرج له مسلم حديثه في الهدي وغيره عن علي ، وفي عبد الرحمن بأنه لم يسمع من علقمة باطل لأنه عن رجل مجهول ، وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال : مات سنة تسع وتسعين وسنه سن إبراهيم النخعي ، وما المانع حينئذ من سماعه من علقمة والاتفاق على سماع النخعي منه ، وصرح الخطيب في كتاب المتفق والمفترق في ترجمة عبد الرحمن هذا أنه سمع أباه وعلقمة ، وما قيل إن الحديث صحيح وإنما المنكر فيه على وكيع زيادة ثم لا يعود . نقل عن الدارقطني ومحمد بن نصر المروزي وابن القطان فإنما هو ظن ظنوه ولذا نسب غير هؤلاء الوهم إلى سفيان الثوري كالبخاري في كتابه في رفع اليدين . وقال ابن أبي حاتم : إنه سأل أباه عنه فقال : هذا خطأ يقال وهم فيه الثوري ، فعرفنا أنه لما روي من طرق بدون هذه الزيادة ظنوها خطأ . واختلفوا في الغالط ، وغاية الأمر أن الأصل رواه مرة بتمامه ومرة بعضه بحسب تعلق الغرض ، وبالجملة فزيادة العدل الضابط مقبولة خصوصا وقد توبع عليها ، فرواه ابن المبارك فيما قدمناه من رواية النسائي .

وأخرج الدارقطني وابن عدي عن محمد بن جابر عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال { صليت [ ص: 311 ] مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يرفعوا أيديهم إلا عند استفتاح الصلاة } واعترف الدارقطني بتصويب إرسال إبراهيم إياه عن ابن مسعود ، وتضعيف ابن جابر ، وقول الحاكم فيه أحسن ما قيل فيه إنه يسرق الحديث من كل من يذاكره فممنوع . قال الشيخ في الإمام : العلم بهذه الكلية متعذر ، وأحسن من ذلك قول ابن عدي : كان إسحاق بن أبي إسرائيل يفضل محمد بن جابر على جماعة هم أفضل منه وأوثق ، وقد روى عنه من الكبار أيوب وابن عوف وهشام بن حسان والثوري وشعبة وابن عيينة وغيرهم ، ولولا أنه في المحل الرفيع لم يرو عنه هؤلاء .

ومما يؤيد صحة هذه الزيادة رواية أبي حنيفة من غير الطريق المذكور ، وذلك أنه اجتمع مع الأوزاعي بمكة في دار الحناطين كما حكى ابن عيينة فقال الأوزاعي : ما بالكم لا ترفعون عند الركوع والرفع منه ، فقال : لأجل أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء ، فقال الأوزاعي : كيف لم يصح وقد حدثني الزهري عن سالم عن أبيه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه } فقال أبو حنيفة : حدثنا حماد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن عبد الله بن مسعود { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة ثم لا يعود لشيء من ذلك } فقال الأوزاعي : أحدثك عن الزهري عن سالم عن أبيه وتقول حدثني حماد عن إبراهيم ؟ فقال أبو حنيفة : كان حماد أفقه من الزهري ، وكان إبراهيم أفقه من سالم ، وعلقمة ليس بدون من ابن عمر في الفقه ، وإن كانت لابن عمر صحبة وله فضل صحبة فالأسود له فضل كثير ، وعبد الله ، فرجح بفقه الرواة كما رجح الأوزاعي بعلو الإسناد وهو المذهب المنصور عندنا .

وروى الطحاوي ثم البيهقي من حديث الحسن بن عياش بسند صحيح عن الأسود قال " رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود " قال : ورأيت إبراهيم والشعبي يفعلان ذلك ، وعارضه الحاكم برواية طاوس بن كيسان عن ابن عمر رضي الله عنهما " كان يرفع يديه في الركوع وعند الرفع منه " .

وروى الطحاوي عن أبي بكر النهشلي عن عاصم بن كليب عن أبيه " أن عليا رضي الله عنه رفع يديه في أول التكبير ثم لم يعد " وما في الترمذي عن علي رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه وسلم { كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر ورفع يديه حذو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ، ويصنعه إذا رفع من الركوع ولا يرفع يديه في شيء من الصلاة وهو قاعد ، وإذا قام من السجدتين رفع كذلك } صححه الترمذي ، فمحمول على النسخ للاتفاق على نسخ الرفع عند السجود .

واعلم أن الآثار عن الصحابة والطرق عنه صلى الله عليه وسلم [ ص: 312 ] كثيرة جدا ، والكلام فيها واسع من جهة الطحاوي وغيره ، والقدر المتحقق بعد ذلك كله ثبوت رواية كل من الأمرين عنه صلى الله عليه وسلم الرفع عند الركوع وعدمه فيحتاج إلى الترجيح لقيام التعارض ، ويترجح ما صرنا إليه بأنه قد علم بأنه كانت أقوال مباحة في الصلاة وأفعال من جنس هذا الرفع وقد علم نسخها ، فلا يبعد أن يكون هو أيضا مشمولا بالنسخ خصوصا وقد ثبت ما يعارضه ثبوتا لا مرد له ، بخلاف عدمه فإنه لا يتطرق إليه احتمال عدم الشرعية لأنه ليس من جنس ما عهد فيه ذلك بل من جنس السكون الذي هو طريق ما أجمع على طلبه في الصلاة : أعني الخشوع ، وكذا بأفضلية الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاله أبو حنيفة للأوزاعي .

وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال : ذكر عنده وائل بن حجر : أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه عند الركوع وعند السجود ، فقال أعرابي : لم يصل مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة أرى قبلها قط : أفهو أعلم من عبد الله وأصحابه حفظ ولم يحفظوا .

وفي رواية وقد حدثني من لا أحصي عن عبد الله أنه رفع يديه في بدء الصلاة فقط ، وحكاه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله عالم بشرائع الإسلام وحدوده متفقد لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ملازم له في إقامته وأسفاره ، وقد صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى ، فيكون الأخذ به عند التعارض أولى من إفراد مقابله ومن القول بسنية كل من الأمرين والله سبحانه وتعالى أعلم




الخدمات العلمية