الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 340 - 342 ] كاستسعاء معتق ، [ ص: 343 ] وشفعة جار ، وحكم على عدو ، أو بشهادة كافر ، أو ميراث [ ص: 344 ] ذي رحم ، أو مولى أسفل ، أو بعلم سبق مجلسه

التالي السابق


وشبه بما تقدم في النقض فقال ( ك ) حكم ب ( استسعاء ) أي سعي رقيق ( معتق ) بضم فسكون ففتح بعضه من أحد المشتركين فيه ولا مال له يقوم فيه نصيب شريكه ، وامتنع شريكه من إعتاق نصيبه فحكم على الرقيق بالسعي في اكتساب مال يشتري به بعضه الرقيق من مالكه لتتميم حريته فينقص هذا الحكم لضعف دليله . طفي جعله تت مشبها بما قبله وهو الصواب ، ولا يصح كونه مثالا لما قبله إذ ليس مخالفا قاطعا ولا جلي قياس ولا سنة لأن المراد بمخالف السنة أن لا يكون الحكم مستندا سنة أصلا ، وليس كذلك هنا ، لأنه روي في الصحيح { من أعتق شركا له من مملوك فعليه عتق كله إن كان له مال يبلغ ثمنه ، فإن لم يكن له مال عتق منه ما أعتق } ، وروي فيه { فإن لم يكن مال استسعى العبد غير مشقوق عليه } فأخذ مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما والجمهور بالرواية الأولى وأبو حنيفة رضي الله عنه بالثانية ، ورد بأنه لا حجة له فيها لأن الدارقطني قال راوي الحديث عن قتادة شعبة وهشام ولم يذكرا فيه الاستسعاء وهما أثبت ووافقهما همام ففصل الاستسعاء من الحديث وجعله من رأي قتادة .

عياض الأصيلي وابن القصار الذين أسقطوا السعاية أولى من الذين ذكروها ، وإذا ليست في الأحاديث الأخر من رواية ابن عمر . ابن عبد البر مسقطها أثبت من الذين ذكروها ، وقد اختلف فيها عن ابن أبي عروبة فمرة ذكرها ومرة أسقطها ، فدل أنها ليست عنده من الحديث ، أفاده الأبي في شرح مسلم ا هـ . البناني جعل " ز " الكاف للتمثيل وهو غير ظاهر والحق كما قال ابن مرزوق أنها للتشبيه وهو الذي ارتضاه تت وجد عج والشيخ أحمد ، ثم قال واعلم أن ما مشى عليه المصنف من نقض الحكم في هذه المسائل هو مذهب [ ص: 343 ] ابن الماجشون وحده واعترف بهذا في ضحيه ولم يزل الشيوخ يستبعدونه ويعتمدون خلافه ، وهو قول ابن القاسم وابن عبد الحكم ، ولذا لم يعرج ابن شاس ولا ابن الحاجب على قول ابن الماجشون ، فكان على المصنف أن لا يذكره هنا لما علمت ، ولأنه لا يلائم قوله الآتي ورفع الخلاف ، بل ينافيه قال في المدونة وإذا قضى القاضي بقضية فيها اختلاف بين العلماء ، ثم تبين أن الحق في غير ما قضى به رجع فيه ، ولا ينقض ما حكم به غيره مما فيه اختلاف بين العلماء .

( و ) كحكم ب ( شفعة جار ) فينقض لضعف دليله . ابن الماجشون من الخطأ الذي ينقض حكم العدل العالم به الحكم باستسعاء العبد المعتق بعضه وبالشفعة للجار وتوريث العمة والخالة والمولى الأسفل طفي وأما شفعة الجار فقال بها أبو حنيفة والكوفيون رضي الله تعالى عنهم محتجين بحديث { الجار أحق بصقبه } ، والصقب روي بالصاد والسين المهملين القريب .

وبحديث الترمذي وأبي داود { جار الدار أحق بدار الجار } إلا أن الأحاديث التي جاءت في أن لا شفعة إلا لشريك أسانيدها جيدة ، وليس في شيء منها اضطراب ، بخلاف حديث { الجار أحق بصقبه } ، فقد ظهر لك أن هذين الأمرين ليسا مخالفين للسنة ، إذ لكل من القولين حجة ، وكذا ما بعدهما من شهادة الكافر لمثله وميراث ذوي الرحم ومولى أسفل من المختلف فيه ، إذ قال بها أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه له حجج لا نطيل بها ، وكذا الحكم بعلم سبق مجلسه قاله الشافعي رضي الله عنه .

( و ) ك ( حكم على عدو ) للحاكم فينقض لإتهامه فيه بالجور . ابن المواز إذا حكم القاضي على شخص فأقام المحكوم عليه بينة أن القاضي عدو له فلا يجوز قضاؤه عليه ( أو ) حكم ب ( شهادة ) شخص ( كافر ) على مثله . طفي محل الخلاف إذا شهد الكافر على مثله والقائل بقبولها الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه وأما شهادته على مسلم فالإجماع على عدم قبولها .

( و ) كحكم ب ( ميراث ذي رحم ) كخالة وعمة ( أو ) ميراث ( مولى ) بفتح الميم [ ص: 344 ] واللام ( أسفل ) أي عتيق من معتقه بكسر الفوقية ( أو ) حكم ( ب ) سبب ( علم ) من القاضي بشيء ( سبق ) علمه به ( مجلسه ) أي القاضي ، سواء علمه قبل ولايته أو بعدها ، واحترز عن حكمه بما علمه في مجلسه فإنه لا ينقض . اللخمي لا يقضي القاضي بما كان عنده من العلم قبل أن يلي القضاء ولا بعد أن وليه ولم يكن في مجلس قضائه ، أو كان فيه وقبل أن يتحاكما إليه أو يجلسا للحكومة ، مثل أن يسمعهما أو أحدهما يقر للآخر فلما تقدم للحكومة أنكر وهو في ذلك شاهد .

وقد اختلف إن أقر بعد أن جلسا للخصومة ثم أنكر فقال ابن القاسم لا يحكم بعلمه . وقال عبد الملك وسحنون يحكم به ورأيا أنهما لما جلسا للمحاكمة فقد رضيا أن يحكم بينهما بما يقولانه ، وكذا إذا أقر ولم ينكر حتى حكم ثم أنكر بعد الحكم وقال ما أقررت بشيء فلا ينظر إلى إنكاره ، هذا هو المشهور من المذهب . طفي والقائل بالنقض في هذه المسائل وفيما ماثلها ابن الماجشون لأنه لا يمنع عنده الخلاف النقض وإن كان قويا . ابن رشد لا خلاف في نقض حكم من قبله إن كان خطأ لم يختلف فيه ، وإن اختلف فيه فلا يرده . وقيل يرده إن كان شاذا . وقال ابن الماجشون يرده وإن كان الخلاف قويا مشهورا إن كان خلاف سنة قائمة .

ابن عرفة الشيخ عن ابن الماجشون من الخطأ الذي ينقض فيه حكم العدل العالم الحكم باستسعاء العبد والشفعة للجار وتوريث العمة والخالة والمولى الأسفل وشبهها ، ولما ذكرها المازري قال وابن عبد الحكم لم ير النقض في شيء من هذه المسائل لأن نقلها غير قطعي وقول ابن الماجشون بعيد لأن الاستسعاء ورد به حديث ثابت . ابن عبد البر ما قال هذا غير ابن الماجشون ، وقد اعترف في توضيحه بأن هذا لابن الماجشون وحده ، ونص ابن حبيب عن ابن الماجشون يرد ما اختلف الناس فيه مما في كتاب الله تعالى أو فيه سنة قائمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كاستسعاء العبد وشفعة الجار وشهادة اليهودي والنصراني لمثله وميراث العمة والخالة والمولى الأسفل ، وكذا ما تواطأ عليه أهل المدينة أو شاع العمل به [ ص: 345 ] عن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم . وأما ما كان من رأي العلماء أو استحسانهم فلا ينقضه وإن كان على خلاف رأي أهل المدينة ، ثم قال وابن عبد الحكم لا ينقض الخلاف كائنا ما كان ، والذي حكى سحنون عن ابن القاسم يلائم قول ابن عبد الحكم أنه لا ينقض ما اختلف فيه فقد ظهر لك أن ما درج عليه المصنف في هذه المسائل هو قول عبد الملك ، وما زال الشيوخ يستبعدونه ويعتمدون خلافه ، وهو قول ابن القاسم وابن عبد الحكم ، ولذا لم يعرج ابن شاس ولا ابن الحاجب على قول عبد الملك هذا ، فكان على المصنف أن لا يذكره لما علمت ، و لأنه لا يلائم قوله الآتي ورفع الخلاف بل ينافيه .

قال في المدونة إذا قضى القاضي بقضية فيها اختلاف بين العلماء ثم تبين له أن الحق في غير ما قضى به رجع فيه ولا ينقض ما حكم فيه غيره مما فيه اختلاف . ا هـ . وقول ابن الماجشون مشكل في نحو شفعة الجار واستسعاء المعتق بعضه لتعلق المخالف فيه بسنة قائمة كما علمت ، وهب أنها عنده مرجوحة فهي راجحة عند المخالف ، وكذا كل ما تعلق فيه المخالف بسنة وغيره بمثلها فقد ظهر لك ما قلناه سابقا أن الصواب جعل قوله كاستسعاء عتق إلخ تشبيها ، وهو الذي يؤخذ من صنيعه في توضيحه ، فإنه لما ذكر عن القرافي نقض الحكم إذا خالف نص كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جلي ، قال : قال ابن حبيب عن ابن الماجشون ويرد ما اختلف فيه الناس إلى آخر ما تقدم عنه فلم يجعله مثالا بل تشبيها .

البناني أجاب بعضهم عن المصنف بأن ما ذكره هو الذي عليه الجماعة ، وقول ابن عبد الحكم بعدم النقض انفرد به عن أصحابه وأن النقض في هذه المسائل لمخالفة عمل أهل المدينة كما ذكره المازري في شرح التلقين ، فإنه بعد أن ذكر الخلاف المذكور في نقض الحكم في هذه المسائل قال ما نصه أشار ابن الماجشون إلى أن هؤلاء الذاهبين إلى خلاف مذهبه خالفوا في حكم ما تواطأ عليه أهل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكان ذلك كمخالفة السنة القائمة لا سيما ومذهب مالك إجماع أهل المدينة حجة وابن عبد الحكم لم ير النقض في [ ص: 346 ] شيء من هذه المسائل ، لكون أدلتها ليست بقطعية . ثم قال وما قاله ابن الماجشون بعيد عن تجديد النظر في الأدلة كيف والاستسعاء قد ورد به حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الشفعة للجار مع ورود أحاديث تقتضيها . ا هـ . فيؤخذ منه ترجيح قول ابن الماجشون لما تقدم من أن ما خالف عمل أهل المدينة ينقض بمنزلة ما خالف قاطعا ، وأن النقض ليس محصورا في مخالفة القاطع ، ولعل استبعاد المازري له من جهة الدليل فلم يرتضه المصنف ، وكذلك ابن يونس لما نقل قول ابن الماجشون بالنقض في هذه الأمثلة التي ذكرها المصنف بعينها ، وقول ابن عبد الحكم بعدمه فيها قال ما نصه قال ابن حبيب لا يعجبني ما انفرد به ابن عبد الحكم انفرد بعدم النقض عن أصحابه .

وقال ابن دبوس في كتابه المسمى بالإعلام بما ينزل عند القضاة والحكام بعد ذكره الخلاف المذكور ، ونقله عن ابن حبيب أن ما قاله ابن الماجشون قاله مطرف وأصبغ ، وروى أكثره عن مالك وأنه رأي علماء أهل المدينة في القديم والحديث ما نصه قال ابن حبيب . قلت لابن عبد الحكم فمن حكم بحكم أهل العراق بالشفعة للجار ونكاح المحرم وميراث العمة والخالة والمولى الأسفل إلخ فقال هذا كله عندي مما إذا حكم فيه حاكم بإمضائه أمضيته ولا أرده . قال ابن حبيب ولم يعجبني انفراد ابن عبد الحكم بهذا القول دون أصحابه ولم نأخذ به . وقولنا فيه كقول ابن الماجشون وأصبغ ورواه مطرف عن مالك . ا هـ . وبهذا يتبين أن ما مشى المصنف عليه هو الموافق لنقل الأئمة ، واستبعاد المازري له من جهة النظر لا يضعفه ، وأن قول ابن عبد الحكم بعدم النقض هو الضعيف لانفراده به عن أصحابه ، وقول ابن عبد البر لم يقل بالنقض غير عبد الملك مردود بما نقله ابن حبيب عن مطرف وأصبغ وروايته عن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه ، والله أعلم .




الخدمات العلمية