الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أو احتجم ) أي فعل ما لا يظن الفطر به كفصد وكحل ولمس وجماع بهيمة بلا إنزال أو إدخال أصبع في دبر ونحو ذلك ( فظن فطره به فأكل عمدا قضى ) في الصور كلها ( وكفر ) لأنه ظن في غير محله حتى لو أفتاه مفت يعتمد على قوله أو سمع حديثا ولم يعلم تأويله لم يكفر للشبهة وإن أخطأ المفتي ولم يثبت الأثر إلا في الأدهان - [ ص: 412 ] وكذا الغيبة عند العامة زيلعي لكن جعلها في الملتقى كالحجامة ورجحه في البحر للشبهة ( ككفارة المظاهر ) الثابتة بالكتاب ، وأما هذه فبالسنة ومن ثم شبهوها بها ثم إنما يكفر - [ ص: 413 ] إن نوى ليلا ، ولم يكن مكرها ولم يطرأ مسقط كمرض وحيض ، واختلف فيما لو مرض بجرح نفسه أو سوفر به مكروها والمعتمد لزومها وفي المعتاد حمى وحيضا والمتيقن قتال عدو لو أفطر ، ولم يحصل العذر والمعتمد سقوطها ولو تكرر فطره ولم يكفر للأول يكفيه واحدة ولو في رمضانين عند محمد وعليه الاعتماد بزازية ومجتبى وغيرهما واختار بعضهم للفتوى أن الفطر بغير الجماع تداخل وإلا لا ولو أكل عمدا شهرة بلا عذر يقتل ، وتمامه في شرح الوهبانية .

التالي السابق


( قوله : أي فعل إلخ ) أشار إلى أن الحكم ليس قاصرا على الحجامة ط واحترز به عما لو فعل ما يظن الفطر به كما لو أكل أو جامع ناسيا أو احتلم أو أنزل بنظر أو ذرعه القيء فظن أنه أفطر فأكل عمدا فلا كفارة للشبهة كما مر ( قوله : بلا إنزال ) أما لو أنزل فلا كفارة عليه بأكله عمدا ; لأنه أكل وهو مفطر ط ( قوله : أو إدخال أصبع ) أي يابسة كما تقدم ح فلو مبتلة فلا كفارة لأكله بعد تحقق الإفطار بالبلة ط ( قوله : ونحو ذلك ) كأكله بعد قبلة بشهوة أو مضاجعة ومباشرة فاحشة بلا إنزال إمداد ( قوله : في الصور كلها ) أي المذكورة في قوله وإن جامع إلخ ( قوله وكفر ) ترك بيان وقت وجوب القضاء والكفارة إشعارا بأنه على التراخي كما قال محمد وقال أبو يوسف إنه على الفور ، وعن أبي حنيفة روايتان كما في التمرتاشي وقيل بين رمضانين وقال الكرخي والأول الصحيح ، وكذا لا يكره نفله كما في الزاهدي وإنما قدم القضاء إشعارا بأنه ينبغي أن يقدمه على الكفارة ويستحب التتابع كما في الهداية قهستاني .

( قوله : لأنه إلخ ) علة لقوله أو احتجم إلخ ( قوله : حتى إلخ ) تفريع على مفهوم قوله ; لأنه ظن في غير محله أي فلو كان الظن في محله فلا كفارة حتى لو أفتاه إلخ ط ( قوله : يعتمد على قوله ) كحنبلي يرى الحجامة مفطرة إمداد قال في البحر : لأن العامي يجب عليه تقليد العالم إذا كان يعتمد على فتواه ثم قال وقد علم من هذا أن مذهب العامي فتوى مفتيه من غير تقييد بمذهب ولهذا قال في الفتح : الحكم في حق العامي فتوى مفتيه ، وفي النهاية ويشترط أن يكون المفتي ممن يؤخذ منه الفقه ويعتمد على فتواه في البلدة وحينئذ تصير فتواه شبهة ولا معتبر بغيره . ا هـ .

وبه يظهر أن " يعتمد " مبني للمجهول فلا يكفي اعتماد المستفتي وحده فافهم ( قوله : أو سمع حديثا ) كقوله صلى الله عليه وسلم { أفطر الحاجم والمحجوم } وهذا عند محمد ; لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم أقوى من قول المفتي فأولى أن يورث شبهة وعن أبي يوسف خلافه ; لأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث زيلعي ( قوله : ولم يعلم تأويله ) .

أما إن علم تأويله ثم أكل تجب الكفارة لانتفاء الشبهة وقول الأوزاعي أنه يفطر لا يورث شبهة لمخالفته القياس مع فرض علم الآكل كون الحديث مؤولا ثم تأويله أنه منسوخ أو أن اللذين قال فيهما صلى الله عليه وسلم ذلك كانا يغتابان وتمامه في الفتح وعلى الثاني فالمراد ذهاب الثواب كما يأتي ( قوله : ولم يثبت الأثر ) عطف على أخطأ المفتي أي وإن لم يثبت الأثر . ا هـ . ح والمراد غير حديث الحاجم والمحجوم فإنه ثابت صحيح .

وأما أحاديث فطر المغتاب فكلها مدخولة كما في الفتح وفيه عن البدائع ، ولو لمس أو قبل امرأة بشهوة أو ضاجعها ولم ينزل فظن أنه أفطر فأكل عمدا كان عليه الكفارة إلا إذا تأول حديثا أو استفتى فقيها فأفطر فلا كفارة عليه وإن أخطأ الفقيه ولم يثبت الحديث ; لأن ظاهر الفتوى والحديث يعتبر شبهة ا هـ ( قوله : إلا في الأدهان ) استثناء من قوله لم يكفر يعني أنه إن ادهن ثم أكل كفر ; لأنه متعمد ; ولم [ ص: 412 ] يستند إلى دليل شرعي ; لأنه لا يعتد بفتوى الفقيه أو بتأويله الحديث هنا ; لأن هذا مما لا يشتبه على من له شمة من الفقه نقله الكمال عن البدائع ، لكن يخالفه ما في الخانية من أن الذي اكتحل أو دهن نفسه أو شاربه ثم أكل متعمدا عليه الكفارة إلا إذا كان جاهلا فأفتي له بالفطر . ا هـ .

قال في الإمداد : فعلى هذا يكون قولنا إلا إذا أفتاه فقيه شاملا لمسألة دهن الشارب ا هـ وهو كما ترى مرجح لعدم الاستئناء فالأولى للشارح تركه ح . قلت : لكن ما نذكره عن الخانية وغيرها في الغيبة يؤيد ما في البدائع ( قوله : وكذا الغيبة ) ; لأن الفطر به يخالف القياس والحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم { ثلاث تفطر الصائم } مؤول بالإجماع بذهاب الثواب بخلاف حديث الحجامة ، فإن بعض العلماء أخذ بظاهره مثل الأوزاعي وأحمد إمداد ولم يعتد بخلاف الظاهرية في الغيبة ; لأنه حدث بعدما مضى السلف على تأويله بما قلنا فتح وفي الخانية قال بعضهم : هذا والحجامة سواء وعامة المشايخ قالوا عليه الكفارة على كل حال ; لأن العلماء أجمعوا على ترك العمل بظاهر الحديث وقالوا : أراد به ثواب الآخرة ، وليس في هذا قول معتبر فهذا ظن .

ما استند إلى دليل فلا يورث شبهة ا هـ ونحوه في السراج وكذا في الفتح عن البدائع وجزم به في الهداية أيضا وشروحها قال الرحمتي وإذا لم يعد الحديث والفتوى شبهة في الغيبة فعد دهن الشارب أولى . ا هـ .

قلت : ولذا سوى بينهما في الفتح عن البدائع وكذا في المعراج عن المبسوط ( قوله : للشبهة ) قد علمت أن ما خالف الإجماع لا يورث شبهة والعمل على ما عليه الأكثر والله تعالى أعلم .

مطلب في الكفارة ( قوله : ككفارة المظاهر ) مرتبط بقوله وكفر أي مثلها في الترتيب فيعتق أولا فإن لم يجد صام شهرين متتابعين فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا لحديث الأعرابي المعروف في الكتب الستة فلو أفطر ولو لعذر استأنف إلا لعذر الحيض وكفارة القتل يشترط في صومها التتابع أيضا وهكذا كل كفارة شرع فيها العتق نهر ، وتمام فروع المسألة في البحر وفيه أيضا ولا فرق في وجوب الكفارة بين الذكر والأنثى والحر والعبد والسلطان وغيره ، ولهذا صرح في البزازية بالوجوب على الجارية فيما لو أخبرت سيدها بعدم طلوع الفجر عالمة بطلوعه فجامعها مع عدم الوجوب عليه وبأنه إذا لزمت السلطان ، وهو موسر بماله الحلال وليس عليه تبعة لأحد يفتى بإعتاق الرقبة وقال أبو نصر محمد بن سلام : يفتى بصيام شهرين ; لأن المقصود من الكفارة الانزجار ويسهل عليه إفطار شهر وإعتاق رقبة فلا يجعل الزجر . ا هـ . ( قوله : ومن ثم ) أي من أجل ثبوت كفارة الظهار بالكتاب وثبوت كفارة الإفطار بالسنة ، شبهوا الثانية لكونها أدنى حالا بالأولى لقوتها بثبوتها بالكتاب ط ومقتضاه الإكفار بإنكارها دون الأولى يؤيده أنه في الفتح ذكر أن سعيد بن جبير ذهب إلى أنها منسوخة .

[ تنبيه ] في التشبيه إشارة إلى أنه لا يلزم كونها مثلها من كل وجه فإن المسيس في أثنائها يقطع التتابع في كفارة الظهار مطلقا عمدا أو نسيانا ليلا أو نهارا للآية بخلاف كفارة الصوم والقتل فإنه لا يقطعه فيهما إلا الفطر بعذر أو بغير عذر فتأمل ، فقد زلت بعض الأقدام في هذا المقام رملي ونحوه في القهستاني وأراد بغير العذر ما سوى الحيض .

[ ص: 413 ] والحاصل : أنه لا يقطع التتابع هنا الوطء ليلا عمدا أو نهارا ناسيا بخلاف كفارة الظهار ( قوله : إن نوى ليلا ) أي بنية معينة لما مر من خلاف الشافعي فيهما فكان شبهة لسقوط الكفارة ( قوله : ولم يكن مكرها ) أي ولو على الجماع كما مر ولو كانت هي المكرهة لزوجها عليه وعليه الفتوى كما في الظهيرية خلافا لما في الاختيار من وجوبها عليهما لو لإكراه منها كما في بعض نسخ البحر ( قوله : ولم يطرأ ) أي بعد إفطاره عمدا مقيما ناويا ليلا فتجب الكفارة لولا المسقط ( قوله : مسقط ) أي سماوي لا صنع له فيه ولا في سببه رحمتي ( قوله : كمرض ) أي مبيح للإفطار ( قوله : والمعتمد لزومها ) أي بعد ذلك ; لأنه فعل عبد والأولى أن يقول : عدم سقوطها ; لأنها كانت لازمة والخلاف في سقوطها وقيد بالسفر مكرها إذ لو سافر طائعا بعدما أفطر اتفقت الروايات على عدم سقوطها .

أما لو أفطر بعد ما سافر لم تجب نهر أي وإن حرم عليه لو سافر بعد الفجر كما يأتي ( قوله : وفي المعتاد ) عطف على قوله فيما وهو اسم مفعول فيه ضمير هو نائب الفاعل عائد على الموصوف : أي الشخص المعتاد وحمى بغير تنوين مفعول به منصوب بفتحة مقدرة على ألف التأنيث المقصورة وحيضا معطوف عليه أي واختلف في الشخص الذي اعتاد حمى وحيضا والواو بمعنى أو وفي بعض النسخ وحيض ، فيحتمل أنه مرفوع أو مجرور لكن الجر غير جائز ; لأن إضافة الوصف المفرد إلى معموله المجرد من أل لا تجوز وأما الرفع فعلى إسناد المعتاد إلى الحمى والحيض أي الذي اعتاده حمى وحيض والأصوب النصب وقوله : والمتيقن اسم فاعل مجرور بالعطف على معتاد وقتال مفعول ( قوله : لو أفطر ) أي كل من المعتاد والمتيقن ( قوله : والمعتمد سقوطها ) كذا صححه في البزازية وقاضي خان في شرح الجامع الصغير في المعتاد حمى وحيضا وشبهه بمن أفطر على ظن الغروب ، ثم ظهر عدمه وعليه مشى الشرنبلالي ، وهو مخالف لما في البحر حيث قال : وإذا أفطرت على ظن أنه يوم حيضها فلم تحض الأظهر وجوب الكفارة كما لو أفطر على ظن أنه يوم مرضه . ا هـ .

وكتبت فيما علقته عليه جعل الثانية مشبها بها ; لأنها بالإجماع بخلاف مسألة الحيض فإن فيها اختلاف المشايخ والصحيح الوجوب كما نص على ذلك في التتارخانية . ا هـ .

ولذا جزم بالوجوب في المسألتين في السراج والفيض . والحاصل : اختلاف التصحيح فيهما ولم أر من ذكر خلافا في سقوطها عمن تيقن قتال عدو والفرق كما في جامع الفصولين أن القتال يحتاج إلى تقدم الإفطار ليتقوى بخلاف المرض ( قوله : ولم يكفر للأول ) أما لو كفر فعليه أخرى في ظاهر الرواية للعلم بأن الزجر لم يحصل بالأولى بحر ( قوله : وعليه الاعتماد ) نقله في البحر عن الأسرار ونقل قبله عن الجوهرة لو جامع في رمضانين فعليه كفارتان وإن لم يكفر للأولى في ظاهر الرواية وهو الصحيح . ا هـ .

قلت : فقد اختلف الترجيح كما ترى ويتقوى الثاني بأنه ظاهر الرواية ( قوله : إن الفطر ) إن شرطية ح ( قوله : وإلا لا ) أي وإن كان الفطر المتكرر في يومين بجماع لا تتداخل الكفارة ، وإن لم يكفر للأول لعظم الجناية ولذا أوجب الشافعي الكفارة به دون الأكل والشرب ( قوله : وتمامه في شرح الوهبانية ) قال في الوهبانية : ولو أكل الإنسان عمدا وشهرة ولا عذر فيه قيل بالقتل يؤمر [ ص: 414 ] قال الشرنبلالي صورتها : تعمد من لا عذر له الأكل جهارا يقتل ; لأنه مستهزئ بالدين أو منكر لما ثبت منه بالضرورة ولا خلاف في حل قتله والأمر به فتعبير المؤلف بيقتل ليس بلازم الضعف . ا هـ . ح .




الخدمات العلمية