الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الحج عن الغير

الأصل أن كل من أتى بعبادة ما ، [ ص: 596 ] له جعل ثوابها لغيره وإن نواها عند الفعل لنفسه لظاهر الأدلة . وأما قوله تعالى - { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } - أي إلا إذا وهبه له كما حققه الكمال ، [ ص: 597 ] أو اللام بمعنى على كما في - { ولهم اللعنة } - ولقد أفصح الزاهدي عن اعتزاله هنا والله الموفق .

التالي السابق


باب الحج عن الغير

اعترض في الفتح بأن إدخال أل على الغير غير واقع على وجه الصحة بل هو ملزوم الإضافة ا هـ لكن قال بعض أئمة النحاة : منع قوم دخول الألف واللام على غير وكل وبعض ، وقالوا هذه كما لا تتعرف بالإضافة لا تتعرف بالألف واللام .

[ ص: 595 ] مطلب في دخول أل على غير . وعندي أنها تدخل عليها ، فيقال فعل الغير كذا ، والكل خير من البعض ، وهذا لأن الألف واللام هنا ليست للتعريف ولكنها المعاقبة للإضافة ، لأنه قد نص أن غيرا تتعرف بالإضافة في بعض المواضع . ثم إن الغير قد يحمل على الضد والكل على الجملة والبعض على الجزء ، فيصلح دخول الألف واللام عليه أيضا من هذا الوجه ، يعني أنها تتعرف على طريقة حمل النظير على النظير ، فإن الغير نظير الضد والكل نظير الجملة ، والبعض نظير الجزء ، وحمل النظير على النظير سائغ شائع في لسان العرب كحمل الضد على الضد ، كما لا يخفى على من تتبع كلامهم ، وقد نص العلامة الزمخشري على وقوع هذين الحملين وشيوعهما في لسانهم في الكشاف أفاده ابن كمال . مطلب في إهداء ثواب الأعمال للغير ( قوله بعبادة ما ) أي سواء كانت صلاة أو صوما أو صدقة أو قراءة أو ذكرا أو طوافا أو حجا أو عمرة ، أو غير ذلك من زيارة قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والشهداء والأولياء والصالحين ، وتكفين الموتى ، وجميع أنواع البر كما في الهندية ط وقدمنا في الزكاة عن التتارخانية عن المحيط الأفضل لمن يتصدق نفلا أن ينوي لجميع المؤمنين والمؤمنات لأنها تصل إليهم ولا ينقص من أجره شيء . ا هـ .

وفي البحر بحث أن إطلاقهم شامل للفريضة لكن لا يعود الفرض في ذمته لأن عدم الثواب لا يستلزم عدم السقوط عن ذمته ا هـ . على أن الثواب لا ينعدم كما علمت ، وسنذكر فيما لو أهل بحج عن أبويه أنه قيل إنه يجزيه عن حج الفرض ، وهذا يؤيد ما بحثه في البحر ، ويؤيده أيضا قوله في جامع الفتاوى ، وقيل لا يجوز في الفرائض . وبحث أيضا أن الظاهر أنه لا فرق بين أن ينوي به عند الفعل للغير أو يفعله لنفسه ثم يجعل ثوابه لغيره لإطلاق كلامهم . ا هـ . قلت : وإذا قلنا بشموله للفريضة أفاد ذلك لأن الفرض ينويه عن نفسه ، فإذا صح جعل ثوابه لغيره دل على أنه لا يلزم في وصول الثواب أن ينوي الغير عند الفعل ، وقدمنا في آخر الجنائز قبيل باب الشهيد عن ابن القيم الحنبلي أنه اختلف عندهم في أنه هل يشترط نية الغير عند الفعل ؟ فقيل لا لكون الثواب له فله التبرع به لمن أراد ، وقيل نعم وهو الأولى لأنه إذا وقع له لم يقبل انتقاله عنه ، وقدمنا عنه أيضا أنه لا يشترط في الوصول أن يهديه بلفظه كما لو أعطى فقيرا بنية الزكاة لأن السنة لم تشترط ذلك في حديث الحج عن الغير ونحوه ، نعم لو فعله لنفسه ثم نوى جعل ثوابه لغيره لم يكف كما لو نوى أن يهب أو يعتق أو يتصدق ، وأنه يصح إهداء نصف الثواب أو ربعه . ويوضحه أنه لو أهدى الكل إلى أربعة يحصل لكل ربعه ، وتمامه هناك . مطلب فيمن أخذ في عبادته شيئا من الدنيا .

[ تنبيه ] قال في البحر : ولم أر حكم من أخذ شيئا من الدنيا ليجعل شيئا من عبادته للمعطي ، وينبغي أن لا يصح ذلك ا هـ أي لأنه إن كان أخذه على عبادة سابقة يكون ذلك بيعا لها ، وذلك باطل قطعا ، وإن كان أخذه ليعمل يكون إجارة على الطاعة وهي باطلة أيضا كما نص عليه في المتون والشروح والفتاوى ، إلا فيما استثناه المتأخرون من جواز [ ص: 596 ] الاستئجار على التعليم والأذان والإمامة وعللوه بالضرورة وخوف ضياع الدين في زماننا لانقطاع ما كان يعطى من بيت المال . وبه علم أنه لا يجوز الاستئجار على الحج عن الميت لعدم الضرورة كما يأتي بيانه في هذا الباب ، ولا على التلاوة والذكر لعدم الضرورة أيضا ، وتمام الكلام على ذلك في رسالتنا [ شفاء العليل وبل الغليل ، في بطلان الوصية بالختمات والتهاليل ] فافهم ( قوله له جعل ثوابها لغيره ) أي خلافا للمعتزلة في كل العبادات ولمالك والشافعي في العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة فلا يقولان بوصولها بخلاف غيرها كالصدقة والحج ، وليس الخلاف في أن له ذلك أو لا كما هو ظاهر اللفظ ، بل في أنه ينجعل بالجعل أو لا بل يلغو جعله ، أفاده في الفتح : أي الخلاف في وصول الثواب وعدمه ( قوله لغيره ) أي من الأحياء والأموات بحر عن البدائع . قلت : وشمل إطلاق الغير النبي صلى الله عليه وسلم ولم أر من صرح بذلك من أئمتنا ، وفيه نزاع طويل لغيرهم .

والذي رجحه الإمام السبكي وعامة المتأخرين منهم الجواز كما بسطناه آخر الجنائز فراجعه ( قوله وإن نواها إلخ ) قدمنا الكلام عليه قريبا ( قوله لظاهر الأدلة ) علة لقوله له جعل ثوابها لغيره وهو من إضافة الصفة للموصوف : أي للأدلة الظاهرة أي الواضحة الجلية ، فالظهور بالمعنى اللغوي لا الأصولي ، لأن الأدلة فيه متواترة قطعية الدلالة على المراد لا تحتمل التأويل كما تعرفه ( قوله أي إلا إذا وهبه ) جواب قوله وأما ، وأسقط الفاء من جوابها وهو لا يسقط إلا في ضرورة الشعر كقوله

فأما القتال لاقتال لديكم

كما في المغني . وأجاب عن قوله تعالى { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم } بأن الأصل فيقال لهم أكفرتم ، فحذف القول استغناء عنه بالمقول فتبعته الفاء في الحذف . قال : ورب شيء يصح تبعا ولا يصح استقلالا كالحاج عن غيره يصلي عنه ركعتي الطواف ، ولو صلى أحد عن غيره ابتداء لا يصح على الصحيح ا هـ وكذلك الجواب هنا محذوف مع الفاء استغناء عنه بأي المفسرة له . والتقدير : وأما قوله تعالى فمؤول أي إلا إذا وهبه ، على أن الدماميني اختار جواز حذف الفاء في سعة الكلام واستشهد له بالأحاديث والآثار ( قوله كما حققه الكمال ) حيث قال ما حاصله : أن الآية وإن كانت ظاهرة فيما قاله المعتزلة ، لكن يحتمل أنها منسوخة أو مقيدة ; وقد ثبت ما يوجب المصير إلى ذلك وهو ما صح عنه صلى الله عليه وسلم " { أنه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عنه والآخر عن أمته } " فقد روي هذا عن عدة من الصحابة وانتشر مخرجوه ; فلا يبعد أن يكون مشهورا يجوز تقييد الكتاب به بما لم يجعله صاحبه لغيره .

وروى الدارقطني " { أن رجلا سأله عليه الصلاة والسلام فقال : كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما ; فقال صلى الله عليه وسلم : إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم لهما مع صومك } " وروي أيضا عن علي عنه صلى الله عليه وسلم قال " { من مر على المقابر وقرأ { قل هو الله أحد } إحدى عشرة مرة ثم وهب أجرها للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات } " وعن { أنس قال يا رسول الله إنا نتصدق عن موتانا ونحج عنهم وندعو لهم ، فهل يصل ذلك لهم ؟ قال نعم ، إنه ليصل إليهم ، وإنهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه } " رواه أبو حفص العكبري . وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال " { اقرءوا على موتاكم يس } " رواه أبو داود ، فهذا كله ونحوه مما تركناه خوف الإطالة يبلغ القدر المشترك بينه وهو النفع بعمل الغير مبلغ التواتر ، وكذا ما في الكتاب العزيز من الأمر بالدعاء للوالدين ، ومن الإخبار باستغفار الملائكة للمؤمنين [ ص: 597 ] قطعي في حصول النفع ، فيخالف ظاهر الآية التي استدلوا بها إذ ظاهرها أن لا ينفع استغفار أحد لأحد بوجه من الوجوه لأنه ليس من سعيه ، فقطعنا بانتفاء إرادة ظاهرها فقيدناها بما لم يهبه العامل ، وهذا أولى من النسخ لأنه أسهل إذ لم يبطل بعد الإرادة ، ولأنها من قبيل الإخبار ولا نسخ في الخبر . ا هـ . ( قوله أو اللام بمعنى على ) جواب آخر ورده الكمال بأنه بعيد من ظاهر الآية ومن سياقها فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلا وأكدى . ا هـ . وأيضا فإنها تتكرر مع قوله تعالى { أن لا تزر وازرة وزر أخرى } وأجيب بأجوبة أخرى ذكرها الزيلعي وغيره . منها : النسخ بآية { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان } وعلمت ما فيه . ومنها : أنها خاصة بقوم موسى وإبراهيم عليهما السلام لأنها حكاية عما في صحفهما . ومنها : أن المراد بالإنسان الكافر . ومنها : أنه ليس من طريق العدل وله من طريق الفضل . ومنها : أنه ليس له إلا سعيه ، لكن قد يكون سعيه بمباشرة أسبابه بتكثير الإخوان وتحصيل الإيمان .

وأما قوله عليه الصلاة والسلام " { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث } " فلا يدل على انقطاع عمل غيره ، والكلام فيه . زيلعي . وأما قوله عليه الصلاة والسلام " { لا يصوم أحد عن أحد ، ولا يصلي أحد عن أحد } " فهو في حق الخروج عن العهدة لا في حق الثواب كما في البحر ( قوله ولقد أفصح الزاهدي إلخ ) حيث قال في المجتبى بعد ذكره عبارة الهداية . قلت : ومذهب أهل العدل والتوحيد أنه ليس له ذلك إلخ فعدل عن الهداية وسمى أهل عقيدته بأهل العدل والتوحيد ، لقولهم بوجوب الأصلح على الله تعالى ، وأنه لو لم يفعل ذلك لكان جورا منه تعالى ولقولهم بنفي الصفات ، وأنه لو كان له صفات قديمة لتعدد القدماء والقديم واحد ، وبيان إبطال عقيدتهم الزائغة في كتب الكلام ، وقد نقل كلامه في معراج الدراية وتكفل برده ; وكذلك الشيخ مصطفى الرحمتي في حاشيته فقد أطال وأطاب ، وأوضح الخطأ من الصواب ( قوله والله الموفق ) لا يخفى على ذوي الأفهام ما فيه من حسن الإيهام .




الخدمات العلمية