الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : النيابة تجزئ في العبادات المالية عند العجز والقدرة ، ولم تجر في البدنية بحال ، وفي المركب منهما تجزئ عند العجز فقط ) بيان لانقسام العبادة إلى ثلاثة أقسام مالية محضة كالزكاة وصدقة [ ص: 65 ] الفطر والإعتاق والإطعام والكسوة في الكفارات والعشر والنفقات سواء كانت عبادة محضة أو عبادة فهي معنى المؤنة أو مؤنة فيها معنى العبادة كما عرف في الأصول وبدنية محضة كالصلاة والصوم والاعتكاف ، وقراءة القرآن والأذكار والجهاد ، ومركبة من البدن والمال كالحج والأصل فيه أن المقصود من التكاليف الابتلاء والمشقة ، وهي في البدنية بإتعاب النفس والجوارح بالأفعال المخصوصة وبفعل نائبه لا تتحقق المشقة على نفسه فلم تجز النيابة مطلقا لا عند العجز ، ولا عند القدرة ، وفي المالية بتنقيص المال المحبوب للنفس بإيصاله إلى الفقير ، وهو موجود بفعل النائب ، وكان مقتضى القياس أن لا تجزئ النيابة في الحج لتضمنه للمشقتين البدنية والمالية .

                                                                                        والأولى لا يكتفى فيها بالنائب لكنه تعالى رخص في إسقاطه بتحمل المشقة الأخرى أعني إخراج المال عند العجز المستمر إلى الموت رحمة وفضلا بأن تدفع نفقة الحج إلى من يحج عنه بخلاف حالة القدرة لم يعذر ; لأن تركه فيها ليس إلا بمجرد إيثار رحمة نفسه على أمر ربه ، وهو بهذا يستحق العقاب لا التخفيف في طريق الإسقاط ، وإذا جازت النيابة في المالية مطلقا فالعبرة لنية الموكل لا لنية الوكيل وسواء نوى الموكل وقت الدفع إلى الوكيل أو وقت دفع الوكيل إلى الفقراء أو فيما بينهما ولهذا قال في الفتاوى الظهيرية من فصل مصارف الزكاة : رجل دفع إلى رجل دراهم ليتصدق بها على الفقراء تطوعا فلم يتصدق المأمور حتى نوى الآمر عن الزكاة من غير أن يتلفظ به ثم تصدق المأمور جاز عن الزكاة . وكذا لو أمره أن يعتق عبدا تطوعا ثم نوى الآمر عن الكفارة قبل إعتاق المأمور عن التطوع . ا هـ .

                                                                                        ولهذا لا تعتبر أهلية النائب حتى لو وكل المسلم ذميا في دفع الزكاة جاز كما في كشف الأسرار شرح أصول فخر الإسلام ( قوله : والشرط العجز الدائم إلى وقت الموت ) أي الشرط في جواز النيابة في المركب عجز المستنيب عجزا مستمرا إلى موته ; لأن الحج فرض العمر فحيث تعلق به خطابه لقيام مشروط وجب عليه أن يقوم بنفسه في أول سني الإمكان فإذا أخر أثم وتقرر القيام بنفسه في ذمته في مدة عمره ، وإن كان غير متصف بالشروط فإذا عجز عن ذلك في مدة عمره رخص له الاستنابة رحمة وفضلا فحيث قدر عليه وقتا من عمره بعدما استنابه فيه لعجز لحقه ظهر انتفاء شرط الرخصة ثم ظاهر ما في المختصر أنه لا فرق بين أن يكون المرض يرجى زواله أو لا يرجى زواله كالزمانة والعمى فلو أحج الزمن أو الأعمى ثم صح ، وأبصر لزمه أن يحج بنفسه وبسبب هذا صرح المحقق في فتح القدير به ، وليس بصحيح بل الحق التفصيل فإن كان مرضا يرجى زواله فأحج فالأمر مراعى فإن استمر العجز إلى الموت سقط الفرض عنه ، وإلا فلا ، وإن كان مرضا لا يرجى زواله كالعمى فأحج غيره سقط الفرض عنه سواء استمر ذلك العذر أو زال صرح به في المحيط ، وفتاوى قاضي خان و المبسوط وصرح به في معراج الدراية بأنه إذا أحج الأعمى غيره ثم زال العمى لا يبطل الإحجاج . ا هـ .

                                                                                        وقيد بالعجز الدائم ; لأنه لو أحج ، وهو صحيح ثم عجز واستمر لا يجزئه لفقد الشرط ويشكل عليه ما في التجنيس ، وفتاوى قاضي خان وغيرهما أنه لو قال : لله علي ثلاثون حجة فأحج ثلاثين نفسا في سنة واحدة إن مات قبل أن يجيء وقت الحج جاز عن الكل ; لأنه لم تعرف قدرته بنفسه عند مجيء وقت الحج ، وإن جاء وقت الحج ، وهو يقدر بطلت حجته ; لأنه يقدر بنفسه عليها فانعدم الشرط فيها ، وعلى هذا كل سنة تجيء . ا هـ .

                                                                                        وينبغي أن يراد بوقت الحج وقت الوقوف بعرفة يعني إن جاء يوم عرفة ، وهو ميت أجزأه الكل ، وإن كان حيا بطلت واحدة وتوقف الأمر في الباقي ، وليس المراد بوقت الحج أشهر الحج ; لأن الإحجاج يكون في أشهر الحج فلا يتأتى التفصيل ، وإن كان المكان بعيدا فأحج قبل الأشهر فهو قاصر الإفادة عما إذا كان قريبا فأحج في الأشهر الحرم فالأولى ما قلناه ووجه إشكاله [ ص: 66 ] على ما سبق إن وقت الإحجاج كان صحيحا فإذا مات قبل وقته أجزأه .

                                                                                        وقد تقدم أنه إذا أحج ، وهو صحيح ثم عجز لا يجزئه ودفعه بأن المراد بعجزه بعد الإحجاج العجز بعد فراغ النائب عن الحج بأن كان وقت الوقوف صحيحا فلا مخالفة كما لا يخفى ، وعلى هذا المرأة إذا لم تجد محرما لا تخرج إلى الحج إلى أن تبلغ الوقت الذي تعجز عن الحج فحينئذ تبعث من يحج عنها أما قبل ذلك فلا يجوز لتوهم وجود المحرم فإن بعثت رجلا إن دام عدم المحرم إلى أن ماتت فذلك جائز كالمريض إذا أحج عنه رجلا ودام المرض إلى أن مات ، وأطلق في العجز فشمل ما إذا كان سماويا أو بصنع العباد فلو أحج ، وهو في السجن فإذا مات فيه أجزأه ، وإن خلص منه لا ، وإن أحج لعدو بينه وبين مكة إن أقام العدو على الطريق حتى مات أجزأه ، وإن لم يقم لا يجزئه كذا في التجنيس وذكر في البدائع . وأما شرائط جواز النيابة فمنها أن يكون المحجوج عنه عاجزا عن الأداء بنفسه ، وله مال فلا يجوز إحجاج الصحيح غنيا كان أو فقيرا ; لأن المال من شرائط الوجوب ، ومنها العجز المستدام إلى الموت ، ومنها الأمر بالحج فلا يجوز حج الغير عنه بغير أمره إلا الوارث يحج عن مورثه فإنه يجزئه إن شاء الله تعالى لوجود الأمر دلالة ، ومنها نية المحجوج عنه عند الإحرام ، ومنها أن يكون حج المأمور بمال المحجوج عنه فإن تطوع الحاج عنه بمال نفسه لم يجز عنه حتى يحج بماله ، وكذا إذا أوصى أن يحج بماله فمات فتطوع عنه وارثه بمال نفسه ; لأن الفرض تعلق بماله فإذا لم يحج بماله لم يسقط عنه الفرض ، ومنها الحج راكبا حتى لو أمره بالحج فحج ماشيا يضمن النفقة ويحج عنه راكبا ; لأن المفروض عليه هو الحج راكبا فينصرف مطلق الأمر بالحج إليه فإذا حج ماشيا فقد خالف فيضمن . ا هـ .

                                                                                        وفي فتح القدير واعلم أن شرط الإجزاء كون أكثر النفقة من مال الآمر فإن أنفق الأكثر أو الكل من مال نفسه ، وفي المال المدفوع إليه وفاء بحجه رجع به فيه إذ قد يبتلى بالإنفاق من مال نفسه لبعث الحاجة ، ولا يكون المال حاضرا فيجوز ذلك كالوصي والوكيل يشتري لليتيم ويعطي الثمن من مال نفسه فإنه يرجع به في مال اليتيم . ا هـ .

                                                                                        وبهذا علم أن اشتراطهم أن تكون النفقة من مال الآمر للاحتراز عن التبرع لا مطلقا ( قوله : وإنما شرط عجز المنوب للحج الفرض لا النفل ) لجواز الإنابة مع القدرة في حج النفل ; لأن المقصود منه الثواب فإذا كان له تركه أصلا فله تحمل مشقة المال بالأولى أطلقه فشمل حجة الإسلام والحجة المنذورة ، وأشار به إلى أنه لو أحج عنه ، وهو صحيح حجة الإسلام أو كان مريضا ثم صح بطل وصف الفرضية لفقد شرطه ، وهو العجز وبقي أصل الحج تطوعا للآمر لا أنه فاسد أصلا صرح به الإسبيجابي والسرخسي وعلاء الدين النجاري في الكشف ، ولم يحكوا فيه خلافا فعلى هذا بين الصلاة والحج فرق على قول محمد فإنه يقول فيها إذا بطل وصفها بطل أصلها ، ولم ينقل عنه في الحج ذلك لما أن باب الحج أوسع فلهذا يمضى في فاسده كما يمضى في صحيحه .

                                                                                        وأشار المصنف بجريان النيابة في الحج عند العجز في الفرض ، ومطلقا في النفل أن أصل الحج يقع للآمر لحديث الخثعمية ، وهي أسماء بنت عميس من المهاجرات ، وهو أنها { قالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال : نعم } متفق عليه فقد أطلق كونه عنه ، وقولهما أفأحج عنه فيه روايتان فتح الهمزة وضم الحاء أي أنا أحرم عنه بنفسي وأؤدي الأفعال ، وهذا هو المشهور من الرواية وروي بضم الهمزة ، وكسر الحاء أي آمر أحدا أن يحج عنه ذكره الهندي في شرح المغني ، وهو ظاهر الرواية عن أصحابنا كما في الهداية وظاهر المذهب كما في المبسوط ، وهو الصحيح كما في كثير من الكتب ، وذهب عامة المتأخرين كما في الكشف إلى أن الحج يقع عن المأمور وللآمر ثواب النفقة قالوا : وهو رواية عن محمد ، وهو اختلاف لا ثمرة له ; لأنهم اتفقوا أن الفرض [ ص: 67 ] يسقط عن الآمر ، ولا يسقط عن المأمور ، وأنه لا بد من أن ينويه عن الآمر ، وهو دليل المذهب ، وأنه يشترط أهلية النائب لصحة الأفعال حتى لو أمر ذميا لا يجوز ، وهو دليل الضعيف ، ولم أر من صرح بالثمرة ، وقد يقال إنها تظهر فيمن حلف أن لا يحج فعلى المذهب إذا حج عن غيره لا يحنث ، وعلى الضعيف يحنث إلا أن يقال : إن العرف أنه قد حج ، وإن وقع عن غيره فيحنث اتفاقا .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قول المتن النيابة تجزئ ) بالزاي والهمزة كذا بخط الإياسي والغزي ، وفي نسخة بالجيم والراء المهملة والياء بخط الرازي والعيني وشرح عليها الزيلعي ، وكذا فيما بعده ، وأجزأ مهموزا معناه أغنى ، وأجزى غير مهموز معناه كفى شيخنا عن الشلبي ، وقيل من جزأ الأمر يجزي جزاء مثل قضى وزنا ، ومعنى كذا في حواشي مسكين ( قول المتن ، وفي المركب منهما ) قال الحموي في قولهم مركبة منهما نظر ; لأن الشيء لا يتركب من شرطه ويمكن أن يقال : كون الشيء لا يتركب من شرطه في المركبات [ ص: 65 ] الحقيقية دون الاعتبارية كذا في حواشي مسكين والأولى ما ذكره في حاشية الدر المختار من أن المال معتبر في الحج اعتبارا قويا بحيث لا يتأتى ، ولا يتحصل إلا به غالبا فكان كالجزء ( قوله : بل الحق التفصيل إلخ ) نقله في النهر ، وأقره وتابعه في متن التنوير وحققه في الشرنبلالية ، وقال الإمام قاضي خان في شرحه على الجامع الصغير : ثم إنما يصح الأمر إذا كان الآمر عاجزا بنفسه عجزا لا يرجى زواله كالعمى والزمانة ، وإن كان عجزا يرجى زواله كالحبس والمرض إن دام إلى الموت يقع موقعه ، وإن زال كان الحج على الآمر على حاله ( قوله : بطلت حجته ) الذي في الخانية والفتح والنهر حجة بدون ضمير ، وقوله : وعلى هذا كل سنة تجيء أي إنه في السنة الثانية إن مات قبل مجيء وقت الحج جاز عن الباقي ، وهو تسعة وعشرون ، وإن مات بعده ، وهو يقدر بطلت حجة واحدة ، وهكذا في السنة الثالثة والرابعة إلى الآخر [ ص: 66 ] ( قوله : وعلى هذا المرأة إذا لم تجد محرما ) أي ينبني على اشتراط العجز الدائم هذه المسألة ، وهي مذكورة في الخانية ( قوله : فمنها أن يكون المحجوج عنه عاجزا إلخ ) ذكر العلامة رحمه الله الشيخ السندي في منسكه الكبير أن من شروط صحة الحج عن الآمر أن يحرم من الميقات فلو اعتمر ، وقد أمره بالحج ثم حج من مكة يضمن في قولهم جميعا ، ولا يجوز ذلك عن حجة الإسلام ; لأنه مأمور بحجة ميقاته . ا هـ .

                                                                                        وهل إذا عاد إلى الميقات ، وأحرم يقع عن الآمر ظاهر التعليل نعم فتأمل ، وأما لو جاوز الميقات فقد وقع فيه اختلاف الفتوى بين المتأخرين في زمن منلا علي القاري ، وقدمنا حاصل ذلك قبيل باب الإحرام فراجعه [ ص: 67 ]

                                                                                        ( قوله : وهو دليل الضعيف ) في حكمه عليه بالضعف شيء إذ قال في الفتح : إن عليه جمعا من المتأخرين منهم صدر الإسلام والإسبيجابي وقاضي خان حتى نسب شيخ الإسلام هذا لأصحابنا قال في النهر : وفي العناية ، وإليه مال عامة المتأخرين . ا هـ .

                                                                                        وما عزاه إلى قاضي خان هو ما ذكره في شرح الجامع الصغير حيث قال : وهو أقرب إلى الفقه لكن صحح في فتاواه القول الأول فاعتراض بعضهم منشؤه عدم المراجعة .




                                                                                        الخدمات العلمية