الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  6087 39 - حدثنا أبو نعيم بنحو من نصف هذا الحديث ، حدثنا عمر بن ذر ، حدثنا مجاهد أن أبا هريرة كان يقول : الله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه ، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني ، فمر ولم يفعل ، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني ، فمر فلم يفعل ، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ، ثم قال : يا أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : الحق ، ومضى فتبعته ، فدخل ، فأستأذن فأذن لي ، فدخل فوجد لبنا في قدح ، فقال : من أين هذا اللبن ؟ قالوا : أهداه لك فلان أو فلانة ، قال : أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي ، قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا ، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها ، فساءني ذلك ، فقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة ، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها ، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد ، فأتيتهم فدعوتهم ، فأقبلوا فاستأذنوا ، فأذن لهم ، وأخذوا مجالسهم من البيت ، قال : يا أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : خذ فأعطهم ، قال : فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ، ثم يرد علي القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ، ثم يرد علي القدح ، فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح ، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم ، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال : يا أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : بقيت أنا وأنت ، قلت : صدقت يا رسول الله ، قال : اقعد فاشرب ، فقعدت فشربت ، فقال : اشرب فشربت ، فما زال يقول : اشرب حتى قلت : لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا ، قال : فأرني فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة لأن فيه الإخبار عن عيش النبي صلى الله عليه وسلم وعيش أصحابه رضي الله تعالى عنهم .

                                                                                                                                                                                  وأبو نعيم بضم النون الفضل بن دكين ، وعمر بضم العين ابن ذر بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء الهمداني .

                                                                                                                                                                                  وبعض الحديث مضى في الاستئذان مختصرا أخرجه عن أبي نعيم عن عمر بن ذر ، وعن محمد بن مقاتل ، عن عبد الله ، عن عمر بن ذر ، ثم أعاده هنا عن أبي نعيم وحده مطولا ، وأخرجه الترمذي في الزهد عن هناد بن سري ، عن يونس بن بكير ، عن عمر بن ذر به ، وأخرجه النسائي في الرقاق عن أحمد بن يحيى عن أبي نعيم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " بنحو من نصف هذا الحديث " أشار به إلى حديث الباب . [ ص: 59 ] قال الكرماني : هذا مشكل لأن نصف الحديث يبقى بدون الإسناد ، ثم إن النصف مبهم أهو النصف الأول أم الآخر ، ثم أجاب بأنه اعتمد على ما ذكر في كتاب الأطعمة من طريق يوسف بن عيسى المروزي ، وهو قريب من نصف هذا الحديث ، فلعل البخاري أراد بالنصف المذكور لأبي نعيم ما لم يذكره ثمة فيصير الكل مسندا ، بعضه بطريق يوسف والبعض الآخر بطريق أبي نعيم ، وقال صاحب ( التلويح ) ذكر البخاري هذا الحديث في الاستئذان مختصرا فقال : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عمر بن ذر ، وعن محمد بن مقاتل ، عن ابن المبارك ، عن عمر بن ذر ، حدثنا مجاهد ، وكان هذا هو النصف المشار إليه هاهنا . انتهى .

                                                                                                                                                                                  واعترض عليه الكرماني بقوله : ليس ما ذكره ثمة نصفه ولا ثلثه ولا ربعه ، وقال بعضهم : فيه نظر من وجهين آخرين :

                                                                                                                                                                                  أحدهما : احتمال أن يكون هذا السياق لابن المبارك فإنه لا يتعين كونه لفظ أبي نعيم .

                                                                                                                                                                                  وثانيهما : أنه منتزع من أثناء الحديث فإنه ليس فيه القصة الأولى المتعلقة بأبي هريرة ولا ما في آخره من حصول البركة في اللبن إلى آخره .

                                                                                                                                                                                  قلت : في هذا النظر نظر لأنه إذا لم يتعين كون السياق لأبي نعيم كذلك لا يتعين كونه لابن المبارك ، وكونه منتزعا من أثناء الحديث لا يضر على ما لا يخفى .

                                                                                                                                                                                  قوله : " الله " بالنصب قسم حذف حرف الجر منه ، ويروى والله على الأصل .

                                                                                                                                                                                  قوله : " إن كنت " كلمة إن هذه مخففة من الثقيلة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " لأعتمد بكبدي على الأرض " أي : ألصق بطني بالأرض .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وإن كنت " وإن هذه أيضا مخففة من الثقيلة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " لأشد الحجر على بطني " اللام فيه للتأكيد ، وفي رواية عن أبي هريرة : لتأتي على أحدنا الأيام ما يجد طعاما يقيم به صلبه حتى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشد به على أخمص بطنه ، ثم يشده بثوبه ليقيم به صلبه ، وفائدة شد الحجر على البطن المساعدة على الاعتدال والانتصاب على القيام أو المنع من كثرة التحلل من الغذاء الذي في البطن لكونها حجارة رقاقا تعدل البطن ، وربما سدت طرف الأمعاء فيكون الضعف أقل أو تقليل حرارة الجوع ببرودة الحجر أو الإشارة إلى كسر النفس وإلقامها الحجر ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، وقال الخطابي : أشكل الأمر في شد الحجر على قوم حتى توهموا أنه تصحيف من الحجز بالزاي جمع الحجزة التي يشد بها الإنسان وسطه ، لكن من أقام بالحجاز عرف عادة أهله في أن المجاعة تصيبهم كثيرا ، فإذا خوي البطن لم يكن معه الانتصاب فيعمد حينئذ إلى صفائح رقاق في طول الكف فيربطها على البطن فتعتدل القامة بعض الاعتدال .

                                                                                                                                                                                  قلت : وممن أنكر ربط الحجر ابن حبان في ( صحيحه ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : " على طريقهم " أي : طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممن كان طريق منازلهم إلى المسجد متحدة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ليشبعني " من الإشباع من الجوع ، وفي رواية الكشميهني ليستتبعني من الاستتباع وهو طلب أن يتبعه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فمر " أي : إلى حاله ولم يفعل أي : الإشباع أو الاستتباع .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ثم مر بي عمر رضي الله تعالى عنه ، كأنه استقر هنا حتى مر به عمر ، فوقع أمره معه مثل ما وقع مع أبي بكر ، والظاهر أنهما حملا سؤال أبي هريرة على ظاهره وهو سؤاله عن آية من القرآن ، أو لم يكن عندهما شيء إذ ذاك ، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه تأسف على عدم إدخاله أبا هريرة في داره .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وما في وجهي " أي : من التغير فيه من الجوع .

                                                                                                                                                                                  قوله : " أبا هر " ووقع في رواية علي بن مسهر فقال : أبو هر ، ووجهه على لغة من لا يعرب الكنية وهو بتشديد الراء وهو إما رد الاسم المؤنث إلى المذكر أو المصغر إلى المكبر ، فإن كنيته في الأصل أبو هريرة تصغير هرة مؤنثا ، وأبو هر مذكر مكبر ، وقيل : يجوز فيه تخفيف الراء مطلقا ووقع في رواية يونس بن بكير فقال : أبو هريرة أي : أنت أبو هريرة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " الحق " من اللحوق أي : اتبعني .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فدخل " زاد ابن مسهر : إلى أهله .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فأستأذن " على صيغة المتكلم من المضارع ، وفي رواية علي بن مسهر ويونس فاستأذنت .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فدخل " فيه التفات ، وفي رواية علي بن مسهر : فدخلت وهي ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فوجد لبنا في قدح " ، وفي رواية علي بن مسهر : فإذا هو لبن في قدح ، وفي رواية يونس : فوجد قدحا من اللبن .

                                                                                                                                                                                  قوله : " من أين هذا اللبن " زاد روح : لكم ، وفي رواية ابن مسهر : فقال لأهله : من أين لكم هذا ؟ .

                                                                                                                                                                                  قوله : " أو فلانة " شك من الراوي .

                                                                                                                                                                                  قوله : " الحق إلى أهل الصفة " عدى " الحق " بكلمة إلى لأنه ضمنه معنى انطلق ، وكذا وقع في رواية روح : انطلق .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قال : وأهل الصفة " سقط لفظ قال في رواية روح ولا بد منه لأنه من كلام أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ولا على أحد " تعميم بعد تخصيص ، فيشمل الأقارب والأصدقاء وغيرهم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فساءني ذلك " وفي رواية علي بن مسهر : والله ، ومعناه أهمني ذلك .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وما هذا اللبن في أهل الصفة " أي : ما قدره في أهل الصفة ، الواو فيه عطف على محذوف ، تقديره : هذا قليل أو نحو ذلك وما هذا ، وفي رواية يونس بحذف الواو ، وفي رواية [ ص: 60 ] علي بن مسهر : وأين يقع هذا اللبن من أهل الصفة ؟ .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فإذا جاء كذا " فيه بالإفراد في بعض النسخ أي : إذا جاء من أمرني بطلبه ، وفي رواية الأكثرين : فإذا جاءوا بصيغة الجمع كما في نسختنا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " أمرني " أي : رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن " أي : قائلا في نفسي وما عسى ، قال الكرماني : والظاهر أن عسى مقحم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وأخذوا مجالسهم من البيت " يعني : قعد كل واحد منهم في المجلس الذي يليق به ، ولم يذكر عددهم ، وقد تقدم في أبواب المساجد في كتاب الصلاة من طريق أبي حازم عن أبي هريرة ، رأيت سبعين من أصحاب الصفة . . . الحديث ، وذكر في ( الحلية ) أن عدتهم تقرب من المائة ، وقال أبو نعيم : كان عدد أهل الصفة يختلف بحسب اختلاف الحال ، فربما اجتمعوا فكثروا ، وربما تفرقوا إما لغزو أو سفر أو استغناء فقلوا ، وقيل : هنا كانوا أكثر من سبعين .

                                                                                                                                                                                  قوله : " خذ " أي : القدح الذي فيه اللبن فأعطهم ، وصرح هكذا في رواية يونس .

                                                                                                                                                                                  قوله : " حتى يروى " بفتح الواو نحو رضي يرضى .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ثم يرد علي القدح ، فأعطيه الرجل ، قال الكرماني : الرجل الثاني معرفة معادة ، فيكون عين الأول على القاعدة النحوية ، لكن المراد غيره ، ثم أجاب بأن ذلك حيث لا قرينة ، ولفظ : حتى انتهيت قرينة المغايرة كما في قوله عز وجل : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء

                                                                                                                                                                                  قوله : " فتبسم " كان ذلك لأجل توهم أبي هريرة أن لا يفضل له من اللبن شيء .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فقال : أبا هر " أي : يا أبا هر ، وفي رواية علي بن مسهر فقال : أبو هريرة أي : فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أبو هريرة ، وقد ذكرنا وجهه عن قريب .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قال : بقيت أنا وأنت " هذا بالنسبة إلى من حضر من أهل الصفة ، فأما من كان في البيت من أهل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتعرض لذكرهم ، ويحتمل أن لا يكون إذ ذاك في البيت أحد ، أو كانوا أخذوا كفايتهم ، وكان الذي في القدح نصيب النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فأرني " وفي رواية روح : ناولني القدح .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فحمد الله وسمى " أما الحمد فلحصول البركة فيه ، وأما التسمية فلإقامة السنة عند الشرب " وشرب الفضلة " أي : البقية .

                                                                                                                                                                                  وفيه فوائد كثيرة يستخرجها من له يد في تحرير النظر وتقريب المراد .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية