الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  6137 89 - حدثني محمد بن عثمان ، حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان بن بلال ، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت ، وأنا أكره إساءته.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قيل : لا مطابقة بين هذا الحديث والترجمة ، حتى قال الداودي : ليس هذا الحديث من التواضع في شيء . وقال صاحب التلويح : لا أدري ما مطابقته لها لأنه لا ذكر فيه للتواضع ولا لما يقرب منه . وقيل : المناسب إدخاله في الباب الذي قبله ، وهو مجاهدة المرء نفسه في طاعة الله ، وأجابوا عن ذلك ، فقال الكرماني : التقرب بالنوافل لا يكون إلا بغاية التواضع والتذلل للرب تعالى . قلت : قد سبقه بهذا صاحب التلويح ، فإنه قال : التقرب إلى الله بالنوافل حتى يستحقوا المحبة من الله تعالى لا يكون إلا بغاية التواضع والتذلل للرب عز وجل ، ثم قال : وفيه بعد ، لأن النوافل إنما يزكى ثوابها عند الله لمن حافظ على فرائضه . وقيل : الترجمة مستفادة مما قال : " كنت سمعه " ومن التردد . وقال بعضهم : تستفاد الترجمة من لازم قوله " من عادى " لي [ ص: 89 ] وليا لأنه يقتضي الزجر عن معاداة الأولياء المستلزم لموالاتهم ، وموالاة جميع الأولياء لا تتأتى إلا بغاية التواضع ، إذ فيهم الأشعث الأغبر الذي لا يؤبه له ، انتهى . قلت : دلالة الالتزام مهجورة ، لأنها لو كانت معتبرة لزم أن يكون للفظ الواحد مدلولات غير متناهية ، ويقال لهذا القائل : تريد اللزوم البين أو مطلق اللزوم ، وأيا ما كان ، فدلالة الالتزام مهجورة ، فإن أردت اللزوم البين فهو يختلف باختلاف الأشخاص ، فلا يكاد ينضبط المدلول ، وإن أردت مطلق اللزوم ، فاللوازم لا تتناهى ، فيمتنع إفادة اللفظ إياها ، فلا يقع كلامه جوابا .

                                                                                                                                                                                  ومحمد بن عثمان بن كرامة : بفتح الكاف وتخفيف الراء ، العجلي بكسر العين المهملة ، الكوفي ، مات ببغداد سنة ست وخمسين ومائتين ، وهو من صغار شيوخ البخاري ، وقد شاركه في كثير من مشايخه ، منهم خالد بن مخلد شيخه في هذا الحديث ، فقد أخرج عنه البخاري بغير واسطة أيضا في باب الاستعاذة من الجبن في كتاب الدعوات ، وخالد بن مخلد بفتح الميم واللام ، البجلي ، ويقال القطواني ، الكوفي ، مات بالكوفة في محرم سنة ثلاث عشرة ومائتين ، وسليمان بن بلال : أبو أيوب القرشي التيمي ، مات سنة سبع وسبعين ومائة ، وشريك بن عبد الله بن أبي نمر : بلفظ الحيوان المشهور ، القرشي ، ويقال الليثي ، مات سنة أربعين ومائة ، فإن قلت : خالد فيه مقال ، فعن أحمد له مناكير ، وعن أبي حاتم : لا يحتج به ، وأخرج ابن عدي عشرة أحاديث من حديثه استنكرها منها حديث الباب ، وشريك أيضا فيه مقال ، وهو راوي حديث المعراج الذي زاد فيه ونقص وقدم وأخر وتفرد بأشياء لم يتابع عليها ! قلت : أما خالد فعن ابن معين ما به بأس ، وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ، وقال أبو داود : صدوق ، ولكنه تشيع ، وهو عندي إن شاء الله لا بأس به ، وأما شريك فعن يحيى بن معين والنسائي : ليس به بأس ، وقال محمد بن سعد : كان ثقة كثير الحديث ، وعطاء : هو ابن يسار ضد اليمين ، ووقع في بعض النسخ كذلك ، وقيل : هو ابن أبي رباح ، والأول أصح ، والحديث من أفراده .

                                                                                                                                                                                  قوله : " إن الله " قال : هذا من الأحاديث الإلهية التي تسمى القدسية ، وقد مر الكلام فيها عن قريب ، وقد وقع في بعض طرقه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حدث به عن جبريل عليه السلام عن الله عز وجل . قوله : " لي " صفة لقوله " وليا " ، لكنه لما قدم صار حالا . قوله : " وليا " الولي : هو العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته ، فإن قلت : قوله " عادى " من المعاداة ، وهو من باب المفاعلة التي تقع من الجانبين ، ومن شأن الولي الحلم والاجتناب عن المعاداة والصفح عمن يجهل عليه . قلت : أجيب بأن المعاداة لم تنحصر في الخصومة والمعاداة الدنيوية مثلا ، بل تقع عن بغض ينشأ عن التعصب ، كالرافضي في بغضه لأبي بكر رضي الله تعالى عنه ، والمبتدع في بغضه للسني ، فتقع المعاداة من الجانبين أما من جانب الولي فلله وفي الله وأما من الجانب الآخر فظاهر ، انتهى . قلت : لا يحتاج إلى هذا التكلف ، فإذا قلنا إن فاعل يأتي بمعنى فعل ، كما في قوله عز وجل : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم بمعنى اسرعوا ، يحصل الجواب .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فقد آذنته " بالمد وفتح المعجمة ، بعدها نون ، أي : أعلمته ، من الإيذان ، وهو الإعلام ، قوله : " بالحرب " . وفي رواية الكشميهني " بحرب " . ووقع في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها " من عادى لي واليا فقد استحل محاربتي " ، وفي حديث معاذ " فقد بارز الله بالمحاربة " وفي حديث أبي أمامة وأنس " فقد بارزني " . فإن قيل : المحاربة من الجانبين ، والمخلوق في أسر الخالق ! قيل له : أطلق الحرب وأراد لازمه ، أي : أعمل به ما يعمله العدو المحارب . قوله : " أحب " بالرفع والنصب ، قاله الكرماني ، قلت : وجه الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أحب ، ووجه النصب والمراد به الفتح ، صفة لقوله " بشيء " فيكون مفتوحا في موضع الجر ، ويدخل في قوله " مما افترضت عليه " جميع الفرائض من فرائض العين وفرائض الكفاية .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وما يزال " كذا في رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره " وما زال " بصيغة الماضي ، قوله : " يتقرب إلي " بتشديد الياء ، وفي حديث أبي أمامة " يتحبب " ، والتقرب طلب القرب ، وقال القشيري : قرب العبد من ربه يقع أولا بإيمانه ثم بإحسانه ، وقرب الرب من عبده ما يخصه به في الدنيا من عرفانه ، وفي الآخرة من رضوانه ، وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه ، ولا يتم قرب العبد من الحق إلا ببعده من الخلق . قال : وقرب الرب بالعلم والقدرة عام للناس ، وباللطف والنصرة خاص بالخواص ، وبالتأنيس خاص بالأولياء . قوله : " بالنوافل " المراد بها : ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها ، وليس المراد كون النوافل مطلقا . قوله : " أحبه " هكذا رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره " حتى أحببته " قوله : " كنت " [ ص: 90 ] سمعه الذي يسمع به ، لفظة " به " في رواية الكشميهني لا غيره ، قال الداودي : هذا كله من المجاز ، يعني أنه يحفظه كما يحفظ العبد جوارحه لئلا يقع في مهلكة . وقال الخطابي : هذه أمثال ، والمعنى والله أعلم : توفيقه في الأعمال التي باشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه من موافقة ما يكره الله تعالى ، من الإصغاء إلى اللهو مثلا ، ومن النظر إلى ما نهي عنه ، ومن البطش بما لا يحل له ، ومن السعي في الباطل برجله ، أو بأن يسرع في إجابة الدعاء والإلحاح في الطلب ، وذلك أن مساعي الإنسان إنما تكون بهذه الجوارح الأربع .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وبصره الذي يبصر به " وفي حديث عائشة في رواية عبد الواحد " عينه التي يبصر بها " وفي رواية يعقوب بن مجاهد " عينيه اللتين يبصر بهما " وكذا قال في الأذن واليد والرجل ، وزاد عبد الواحد في روايته " وفؤاده الذي يعقل به ولسانه الذي يتكلم به " وقيل : المعنى أجعل له مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره إلى آخره . وقيل : كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه . وقيل : فيه مضاف محذوف ، والتقدير : كنت حافظ سمعه الذي يسمع به ، فلا يسمع إلا ما يحل سماعه ، وحافظ بصره كذلك إلى آخره . قيل : إن الاتحادية زعموا أنه على حقيقته ، وأن الحق عين العبد ، واحتجوا بمجيء جبريل عليه الصلاة والسلام في صورة دحية ، قالوا : فهو روحاني خلع صورته وظهر بمظهر البشر ، قالوا فالله أقدر على أن يظهر في صورة الوجود الكلي أو ببعضه ، تعالى الله سبحانه عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، قوله : " يبطش " بكسر الطاء . قوله : " وإن سألني " أي : عبدي ، وكذا وقع في رواية عبد الواحد . قوله : " لأعطينه " اللام للتأكيد والهمزة مضمومة ، والفعل مؤكد بالنون الثقيلة . قوله : " استعاذ بي " ، بالباء الموحدة بعد الذال المعجمة ، وقيل : بالنون موضع الباء . قوله : " لأعيذنه " أي : مما يخاف ، فإن قيل : كثير من الصلحاء والعباد دعوا وبالغوا ولم يجابوا . قيل له : الإجابة تتنوع ، فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور ، وتارة يقع ولكن يتأخر الحكم ، وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير المطلوب ، حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة ، وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وما ترددت عن شيء " التردد مثل ، لأنه محال على الله ، وقال الخطابي : التردد في حق الله غير جائز ، والبداء عليه في الأمور غير سائغ ، لكن له تأويلان ، أحدهما : أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه أو فاقة تنزل به فيدعو الله فيشفيه منها ويدفع عنه مكروهها ، فيكون ذلك من فعله كترديد من يريد أمرا ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه ولا بد من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله ، لأن الله قد كتب الفناء على خلقه واستأثر بالبقاء لنفسه ، والثاني : أن يكون معناه : ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترديدي إياهم في نفس المؤمن ، كما روي في قصة موسى عليه السلام وما كان من لطمه عين ملك الموت وتردده إليه مرة بعد أخرى ، قال : وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد ولطفه به وشفقته عليه . قوله : " وإساءته " ويروى " مساءته " أي : حياته ، لأنه بالموت يبلغ إلى النعيم المقيم لا في الحياة ، أو لأن حياته تؤدي إلى أرذل العمر وتنكيس الخلق والرد إلى أسفل سافلين ، أو أكره مكروهه الذي هو الموت فلا أسرع بقبض روحه فأكون كالمتردد .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية