الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  74 16 - حدثني محمد بن غرير الزهري قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثني أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب حدث أن عبيد الله بن عبد الله أخبره عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى ; قال ابن عباس : هو خضر ! فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه ، هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه ؟ قال : نعم ; سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال : هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ قال موسى : لا ! فأوحى الله إلى موسى : بلى ; عبدنا خضر ! فسأل موسى السبيل إليه ، فجعل الله له الحوت آية ، وقيل له : إذا فقدت الحوت فارجع ; فإنك ستلقاه . وكان يتبع أثر الحوت في البحر ، فقال لموسى فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا فكان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة ; لأنها في ذهاب موسى عليه السلام إلى الخضر وركوبه البحر وسؤاله منه الاتباع لأجل التعلم ، والحديث يبين ذلك كله .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم تسعة ; الأول : محمد بن غرير - بغين معجمة مضمومة وراء مكررة بينهما ياء آخر الحروف ساكنة - ابن الوليد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، أبو عبد الله القرشي الزهري المدني نزيل سمرقند ، يعرف بالفربري ، روى عن يعقوب بن إبراهيم ومطرف بن عبد الله النيسابوري ، روى عنه البخاري وأبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي وعبد الله بن شبيب المكي ، قال الكلاباذي : أخرج له البخاري في الكتاب في ثلاثة مواضع ; هنا وفي الزكاة وفي بني إسرائيل ، وليس في الكتب الستة من اسمه على هذا المثال ، وهو من الأفراد .

                                                                                                                                                                                  الثاني : يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، أبو يوسف القرشي المدني الزهري ، ساكن بغداد ، روى عن أبيه وغيره ، وروى عنه أحمد ويحيى بن معين وعلي بن المديني وإسحاق ومحمد بن يحيى الذهلي . قال ابن سعد : كان ثقة مأمونا . ولم يزل ببغداد ثم خرج إلى الحسن بن سهل بفم الصلح ، فلم يزل معه حتى توفي هناك في شوال سنة ثمان ومائتين . قلت : فم الصلح بفتح الفاء وتخفيف الميم وكسر الصاد المهملة وسكون اللام وفي آخره حاء مهملة ، وهي بلدة على دجلة قريبة من واسط ، وقيل هو نهر ميسان .

                                                                                                                                                                                  الثالث : أبوه - أعني أبا يعقوب بن إبراهيم المذكور ، وهو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو من [ ص: 62 ] جملة شيوخ الشافعي رحمه الله ، وقد مر ذكره في باب تفاضل أهل الإيمان .

                                                                                                                                                                                  الرابع : صالح بن كيسان التابعي ، تقدم ذكره في آخر قصة هرقل ، توفي وهو ابن مائة ونيف وستين سنة ، ابتدأ بالتعليم وهو ابن تسعين سنة .

                                                                                                                                                                                  الخامس : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، تقدم غير مرة .

                                                                                                                                                                                  السادس : عبيد بن عبد الله - بتصغير الابن وتكبير الأب - ابن عيينة بن مسعود ، أحد الفقهاء السبعة ، وقد مر ذكره .

                                                                                                                                                                                  السابع : عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما .

                                                                                                                                                                                  الثامن : الحر - بضم الحاء المهملة وتشديد الراء - ابن قيس - بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف ، وفي آخره سين مهملة - ابن حصن - بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين - ابن حذيفة بن بدر الفزاري - بفتح الفاء والزاي نسبة إلى فزارة بن شيبان بن بغيض بن ريث بن غطفان ، وهو ابن أخي عيينة بن حصن ، كان أحد الوفد الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك ، وكان من جلساء عمر رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                  التاسع : أبي بن كعب بن المنذر الأنصاري ، أقرأ هذه الأمة ، شهد العقبة وبدرا ، وكان عمر رضي الله عنه يقول : أبي سيد المسلمين . روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وأربعة وستون حديثا ، اتفقا منها على ثلاثة أحاديث ، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بسبعة . مات سنة تسع عشرة - وقيل عشرين ، وقيل ثلاثين - بالمدينة ، روى له الجماعة .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ، ومنها أن فيه رواية صحابي عن صحابي ، ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض ، ومنها أن فيه أربعة زهريين وهم محمد بن غرير ويعقوب وأبوه إبراهيم وابن شهاب ، ومنها أن ستة منهم مدنيون وهم الرواة إلى ابن عباس رضي الله عنهما ، ومنها أنه قال " عن ابن شهاب حدث " وبعده قال " أخبره أن " لوحظ الفرق بأن التحديث عند قراءة الشيخ والإخبار عند القراءة على الشيخ ، فذاك وإلا فتغيير العبارة للتفنن في الكلام ، وحدث بغير هاء رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره " حدثه " بالهاء وبغير الهاء أيضا محمول على السماع لأن صالحا غير مدلس ، وقوله " حدثنا محمد بن غرير " هكذا بصيغة الجمع في رواية الأكثرين ، وفي رواية الأصيلي " حدثني " بصيغة الإفراد .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري في مواضع فوق العشرة ; هنا كما ترى ، وفي أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن عمرو بن محمد ، وفي العلم أيضا عن خالد بن خلي عن محمد بن حرب ، وفي التوحيد عن عبد الله بن محمد عن أبي عمرو - كلاهما عن الزهري به . وفي أحاديث الأنبياء أيضا عن علي بن المديني ، وفي النذور والتفسير عن الحميدي ، وفي التفسير أيضا عن قتيبة ، وفي العلم أيضا عن عبد الله بن محمد عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مختصرا ، وفي التفسير والإجارة والشروط عن إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج عن يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد به ، وأخرجه مسلم في أحاديث الأنبياء عن حرملة عن ابن وهب عن يونس عن الزهري به ، وعن عمرو بن محمد الناقد وابن راهويه وعبيد الله بن سعيد وابن أبي عمر عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن جبير ، وعن الناقد أيضا - وهو محمد بن عبد الأعلى - عن معتمر عن أبيه عن رقية عن أبي إسحاق عن ابن جبير به ، وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن محمد بن يوسف ، وعن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى - كلاهما عن إسرائيل عن أبي إسحاق به . وأخرجه الترمذي في التفسير عن محمد بن يحيى بن أبي عمر به ، وقال : حسن صحيح - وعن محمد بن عبد الأعلى به . وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به ، وعن محمد بن عبد الأعلى ، وعن عمران بن يزيد عن إسماعيل بن عبد الله بن سماعة عن الأوزاعي به ، وفي العلم عن أبي الحسين أحمد بن سليمان الرهاوي عن عبيد الله بن موسى به .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات : قوله " تماريت " أي تجادلت ، من التماري وهو التجادل والتنازع ، وهو بمعنى ماريت لأن باب المفاعلة لمشاركة اثنين وباب التفاعل لأكثر منهما ، يقال ماريت الرجل أماريه مراء أي جادلته ، ومادته الميم والراء والياء آخر الحروف .

                                                                                                                                                                                  قوله " لقيه " بضم اللام وكسر القاف وتشديد الياء آخر الحروف ، مصدر بمعنى اللقاء ، يقال لقيته لقاء بالمد ، ولقى بالضم والقصر ، ولقيا بالتشديد ، ولقيانا ولقيانة واحدة ، ولقية واحدة ، ولا تقل لقاة بالفتح [ ص: 63 ] فإنها مولدة وليست من كلام العرب ، وهذه سبع مصادر .

                                                                                                                                                                                  قوله " شأنه " أي قصته .

                                                                                                                                                                                  قوله " في ملأ " بالقصر ، هي الجماعة - قاله عياض ، وقال غيره : الملأ الأشراف . وفي العباب : الملأ بالتحريك الجماعة ، والملأ أيضا الخلق ، يقال ما أحسن ملأ بني فلان أي عشرتهم وأخلاقهم ، والجمع أملاء ، والملأ أيضا الأشراف .

                                                                                                                                                                                  قوله " من بني إسرائيل " هم أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام ; لأن إسرائيل هو اسم يعقوب ، وأولاده اثنا عشر نفسا وهم يوسف وبنيامين وداني ويفتالي وزابلون وجاد ويستأخر وأشير وروبيل ويهوذا وشمعون ولاوي ، وهم الذين سماهم الأسباط ، وسموا بذلك لأن كل واحد منهم والد قبيلة ، والأسباط في كلام العرب الشجر الملتف الكثير الأغصان ، والأسباط من بني إسرائيل كالشعوب من العجم والقبائل من العرب ، وجميع بني إسرائيل من هؤلاء المذكورين .

                                                                                                                                                                                  قوله " الحوت " السمكة ، والجمع الحيتان والأحوات والحوتة .

                                                                                                                                                                                  قوله " آية " أي علامة .

                                                                                                                                                                                  قوله " وكان يتبع أثر الحوت " ; أي ينتظر فقدانه .

                                                                                                                                                                                  قوله " فتاه " أي صاحبه ، وهو يوشع بن نون ، وإنما قال " فتاه " لأنه كان يخدمه ويتبعه ، وقيل : كان يأخذ العلم عنه . قلت : يوشع بن نون بن اليشامع بن عميهوذا بن بارص بن بعدان بن ناخر بن تالخ بن راشف بن راقخ بن بريعا بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب عليهم الصلاة والسلام ، ويوشع بضم الياء آخر الحروف وفتح الشين المعجمة ، ونون مصروف كنوح .

                                                                                                                                                                                  قوله " إذ أوينا " بالقصر ، من أوى فلان إلى منزله يأوي أويا .

                                                                                                                                                                                  قوله " إلى الصخرة " هي التي دون نهر الزيت بالمغرب - قاله الزمخشري . والصخرة في اللغة الحجر الكبير ، والجمع صخر وصخر وصخور وصخورة وصخرات .

                                                                                                                                                                                  قوله " نبغي " ; أي نطلب ، من بغيت الشيء طلبته .

                                                                                                                                                                                  قوله " فارتدا " ; أي رجعا " على آثارهما " هو جمع أثر بفتح الهمزة وفتح الثاء المثلثة ، وأثر الشيء ما شخص منه .

                                                                                                                                                                                  قوله " قصصا " من قص أثره يقص قصا وقصصا ; أي تتبعه ، قال الله تعالى : وقالت لأخته قصيه - أي تتبعي أثره . وقال الصغاني : قال تعالى فارتدا على آثارهما قصصا أي رجعا من الطريق الذي سلكاه يقصان الأثر .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " تمارى هو " ; أبى ابن عباس ، وأتى بضمير الفصل لأنه لا يعطف على الضمير المرفوع المتصل إلا إذا أكد بالمنفصل ، فقوله " والحر بن قيس " عطف على الضمير الذي في " تمارى " ، وحسن ذلك تأكيده بقوله " هو " لأنه بدونه يوهم عطف الاسم على الفعل .

                                                                                                                                                                                  قوله " في صاحب موسى " يتعلق بقوله " تمارى " .

                                                                                                                                                                                  قوله " هو خضر “ جملة اسمية وقعت مقول القول .

                                                                                                                                                                                  قوله " تماريت أنا وصاحبي " مثل " تمارى هو والحر بن قيس " ; حيث أكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل لتحسين العطف ، ويجوز أن ينتصب على أن يكون مفعولا معه ، وأراد بقوله " صاحبي " هو الحر بن قيس .

                                                                                                                                                                                  قوله " هل سمعت " استفهم به ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم .

                                                                                                                                                                                  قوله " يذكر شأنه " جملة حالية .

                                                                                                                                                                                  قوله " يقول " أيضا جملة حالية .

                                                                                                                                                                                  قوله " بينما " قد مر غير مرة أن أصله بين زيدت فيه ما ، والفصيح في جوابه ترك إذ وإذا وجوابه .

                                                                                                                                                                                  قوله " جاءه رجل " ، وفي بعض الروايات " إذ جاءه رجل " .

                                                                                                                                                                                  قوله " أعلم " بالنصب ; لأنه صفة " أحدا " .

                                                                                                                                                                                  قوله " بل عبدنا خضر " ; أي هو أعلم ، هكذا هو في أكثر الروايات ، وفي رواية الكشميهني " بلى عبدنا خضر " ، وبل للإضراب وهو من حروف العطف .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ما المعطوف عليه المضروب عنه ؟ قلت : مقدر ، تقديره أوحى الله إليه لا تقل لا بل عبدنا خضر ; أي قل الأعلم عبدك خضر .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : فعلى هذا كان ينبغي أن يقول بل عبد الله أو عبدك ! قلت : ورد على طريقة الحكاية عن قول الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  قوله " فسأل موسى " ; أي سأل موسى عن الله تعالى السبيل إلى خضر ، والفاء في " فجعل " للتعقيب .

                                                                                                                                                                                  قوله " له " ; أي لأجله ، والحوت وآية منصوبان على أنهما مفعولا " جعل " .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فتاه " فاعل " فقال " .

                                                                                                                                                                                  قوله " أرأيت " ; أي أخبرني ، وهو مقول القول .

                                                                                                                                                                                  قوله " إذ " بمعنى حين ، وهاهنا حذف تقديره أرأيت ما دهاني " إذ أوينا إلى الصخرة " .

                                                                                                                                                                                  قوله " فإني " ، الفاء فيه تفسيرية يفسر بها ما دهاه من نسيان الحوت حين أويا إلى الصخرة .

                                                                                                                                                                                  قوله " وما أنسانيه " ; أي أنساني ذكره " إلا الشيطان " .

                                                                                                                                                                                  قوله " أن أذكره " بدل من الهاء في " أنسانيه " .

                                                                                                                                                                                  قوله " ذلك " في محل الرفع على الابتداء .

                                                                                                                                                                                  قوله " ما كنا نبغي " خبره ، وكلمة " ما " موصولة .

                                                                                                                                                                                  وقوله " كنا نبغي " صلتها ; أي ذلك الذي كنا نطلب ، والعائد إلى الموصول محذوف - أي ما كنا نبغيه ، ويجوز حذف الياء من " نبغي " للتخفيف ، وهكذا قرئ أيضا في القرآن ، وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو .

                                                                                                                                                                                  قوله " قصصا " نصب على تقدير يقصان قصصا ; أعني النصب على المصدرية .

                                                                                                                                                                                  قوله " ما قص الله " في محل الرفع ; لأنه اسم كان .

                                                                                                                                                                                  وقوله " من شأنهما " مقدما خبره ، وفي بعض الرواية " فكان من شأنهما الذي قص الله " .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 64 ] بيان المعاني : قوله " تمارى هو والحر بن قيس " ، وكان لابن عباس في هذه القصة تماريان ; تمار بينه وبين الحر بن قيس أهو الخضر أم غيره ، وتمار بينه وبين نوف البكالي في موسى أهو موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة أم موسى بن ميشا بكسر الميم وسكون الياء آخر الحروف بعدها شين معجمة - هكذا قاله الكرماني في التماري الثاني ، وليس كذلك ; فإن هذا التماري كان بين سعيد بن جبير وبين البكالي على ما يجيء في التفسير ، وسياق سعيد بن جبير للحديث عن ابن عباس أتم من سياق عبيد الله بن عبد الله هذا بشيء كثير ، وسيأتي مبينا إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  قوله " في صاحب موسى " ; أي الذي ذهب موسى عليه الصلاة السلام إليه وقال له هل أتبعك لفتاه الذي كان رفيقه عند الذهاب .

                                                                                                                                                                                  قوله " فدعاه ابن عباس " ; أي فناداه ، وقال ابن التين : فيه حذف تقديره فقام إليه فسأله ; لأن المعروف عن ابن عباس التأدب مع من يأخذ عنه ، وأخباره في ذلك مشهورة .

                                                                                                                                                                                  قوله " فسأل موسى السبيل إليه " ; أي قال فادللني اللهم إليه .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقال : هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ قال موسى : لا " ، وجاء في كتاب التفسير وغيره " فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا ! فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه " ، وكذا جاء في مسلم ، وفيه أيضا " بينا موسى صلى الله عليه وسلم في قومه يذكرهم أيام الله - وأيام الله نعماؤه وبلاؤه - إذ قال : ما أعلم في الأرض رجلا خيرا وأعلم مني ! فأوحى الله إليه أن في الأرض رجلا هو أعلم منك " . وقال المازري : أما على رواية من روى " هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ فقال : أنا " فلا عتب عليه إذ أخبر عما يعلم ، وأما على رواية " أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا أعلم " - أي فيما يقتضيه شاهد الحال ودلالة النبوة ، ويظهر لي أن موسى صلى الله عليه وسلم كان من النبوة بالمكان الأرفع ، والعلم من أعظم المراتب ، فقد يعتقد أنه أعلم الناس بهذه المرتبة ، فإذا كان مراده بقوله " أنا أعلم " في اعتقادي لم يكن خبره كذبا . وقيل : قول المازري " فلا عتب عليه " مردود بقوله عليه السلام " فعتب الله عليه " ، لكن ينبغي العتب له أن لا ينفي العتب مطلقا ، بل عتب مخصوص . وقال القاضي عياض : وقيل مراد موسى صلى الله عليه وسلم بقوله " أنا أعلم " أي بوظائف النبوة وأمور الشريعة وسياسة الأمر ، والخضر أعلم منه بأمور أخر من علوم غيبية كما ذكر من خبرهما ، وكان موسى صلى الله عليه وسلم أعلم على الجملة والعموم مما لا يمكن جهل الأنبياء بشيء منه ، والخضر أعلم على الخصوص مما أعلم من الغيوب وحوادث القدر مما لا يعلم الأنبياء منه إلا ما أعلموا من غيبه ; ولهذا قال له الخضر إنك على علم من علم الله علمك لا أعلمه وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه . ألا تراه لم يعرف موسى بني إسرائيل حتى عرفه بنفسه إذ لم يعرفه الله به ؟ وهذا مثل قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : إني لا أعلم إلا ما علمني ربي . ومعنى قوله " فعتب الله عليه " أي لم يرض .

                                                                                                                                                                                  قوله " وآخذه به " ، وأصل العتب المؤاخذة ، يقال منه عتب عليه إذا واخذه وذكره له ، فالمؤاخذة والعتب في حق الله محال ، فمعنى قوله " فعتب الله عليه " لم يرض .

                                                                                                                                                                                  قوله " شرعا ودينا " ، وقد عتب الله عليه إذ لم يرد رد الملائكة " لا علم لنا إلا ما علمتنا " ، وقيل : جاء هذا تنبيها لموسى صلى الله عليه وسلم وتعليما لمن بعده ولئلا يقتدي به غيره في تزكية نفسه والعجب بحاله فيهلك ، وإنما ألجئ موسى للخضر للتأديب لا للتعليم .

                                                                                                                                                                                  قوله " فجعل الله له الحوت آية " ; أي علامة لمكان الخضر ولقائه ، وذلك أنه لما قال موسى أين أطلبه قال الله له : على الساحل عند الصخرة . قال : يا رب كيف لي به ؟ قال : تأخذ حوتا في مكتل ، فحيث فقدته فهو هناك . فقيل : أخذ سمكة مملوحة ، قال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني . وكان يمشي ويتبع أثر الحوت ; أي ينتظر فقدانه ، فرقد موسى صلى الله تعالى عليه وسلم فاضطرب الحوت ووقع في البحر ، قيل إن يوشع حمل الخبز والحوت في المكتل فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت . وقيل : توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء .

                                                                                                                                                                                  قوله " نسيت الحوت " ; أي نسيت تفقد أمره وما يكون منه مما جعل أمارة على الظفر بالطلبة من لقاء الخضر عليه السلام .

                                                                                                                                                                                  قوله " قال " ; أي موسى عليه الصلاة والسلام " ذلك " أي فقدان الحوت " هو الذي كنا نبغي " أي نطلب ; لأنه علامة وجدان المقصود .

                                                                                                                                                                                  قوله " فارتدا " ; أي رجعا على آثارهما يقصان قصصا - أي يتبعان آثارهما اتباعا .

                                                                                                                                                                                  قوله " من شأنهما " ; أي شأن الخضر وموسى عليهما السلام ، والذي قص الله تعالى في كتابه إشارة إلى قوله تعالى : هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا - إلى قوله : ويسألونك عن ذي القرنين

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام :

                                                                                                                                                                                  الأول : قال ابن بطال فيه جواز التماري في العلم إذا كان كل واحد يطلب الحق ولم يكن تعنتا .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه الرجوع إلى قول أهل العلم عند التنازع .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه أنه يجب على العالم الرغبة في التزيد من العلم والحرص عليه [ ص: 65 ] ولا يقنع بما عنده كما لم يكتف موسى عليه الصلاة والسلام بعلمه .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه وجوب التواضع لأن الله تعالى عاتب موسى عليه السلام حين لم يرد العلم إليه ، وأراه من هو أعلم منه ، قلت : يعني في علم مخصوص .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه حمل الزاد وإعداده للسفر بخلاف قول الصوفية .

                                                                                                                                                                                  السادس : قول النووي فيه : إنه لا بأس على العالم والفاضل أن يخدمه المفضول ويقضي له حاجته ، ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم العلم والآداب بل من مروآت الأصحاب وحسن العشرة ، ودليله إتيان فتاه غداءهما .

                                                                                                                                                                                  السابع : فيه الرحلة والسفر لطلب العلم برا وبحرا .

                                                                                                                                                                                  الثامن : فيه قبول خبر الواحد الصدوق ، والله أعلم بالصواب .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية