الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1728 399 - (حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة قال: حدثنا عثمان هو ابن موهب قال: أخبرني عبد الله بن أبي قتادة أن أباه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجا فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحل البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر [ ص: 173 ] وحش، فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا، فنزلوا فأكلوا من لحمها، وقالوا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إنا كنا أحرمنا وقد كان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة، فعقر منها أتانا، فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، قال: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: (أو أشار إليها)، والمفهوم منه أن إشارة المحرم للحلال إلى الصيد ليصطاده لا تجوز فلو أشار له، وقتل صيدا لا يجوز للمحرم أن يأكل منه، وقد ذكرنا ما فيه من الخلاف، وموسى بن إسماعيل هو المنقري التبوذكي، وأبو عوانة، بالفتح، هو الوضاح بن عبد الله اليشكري، وعثمان هو ابن عبد الله بن وهب بفتح الميم والهاء الأعرج الطلحي، وقد مر في أول الزكاة، وقال الكرماني: وفي بعض الرواية بدل عثمان: غسان، وهو خطأ قطعا.

                                                                                                                                                                                  قلت: هو من الكاتب فإنه طمس الميم فصار عثمان: غسانا، وعثمان هذا تابعي ثقة روى هنا عن تابعي.

                                                                                                                                                                                  قوله: (خرج حاجا) قال الإسماعيلي: هذا غلط، فإن القصة كانت في عمرة، وأما الخروج إلى الحج فكان في خلق كثير، وكانوا كلهم على الجادة لا على ساحل البحر، ولعل الراوي أراد خرج محرما فعبر عن الإحرام بالحج غلطا، وقال بعضهم: لا غلط في ذلك، بل هو من المجاز السائغ، وأيضا فالحج في الأصل قصد البيت، فكأنه قال: خرج قاصدا للبيت؛ ولهذا يقال للعمرة: الحج الأصغر. قلت: لا نسلم أنه من المجاز، فإن المجاز لا بد له من علاقة، وما العلاقة هاهنا، وكون معنى الحج في الأصل قصدا لا يكون علاقة لجواز ذكر الحج وإرادة العمرة، فإن كل فعل مطلقا لا بد فيه من معنى القصد، ثم أيد هذا القائل كلامه بما رواه البيهقي من رواية محمد بن أبي بكر المقدمي عن أبي عوانة بلفظ: " خرج حاجا أو معتمرا". انتهى. وأبو عوانة شك، وبالشك لا يثبت ما ادعاه من المجاز على أن يحيى بن أبي كثير الذي هو أحد رواة حديث أبي قتادة قد جزم بأن ذلك كان في عمرة الحديبية.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فيهم أبو قتادة) من باب التجريد، وكذا قوله: (إلا أبو قتادة)؛ لأن مقتضى الكلام أن يقال: وأنا فيهم، وإلا أنا، ولا ينبغي أن يجعل هذا من قول ابن أبي قتادة؛ لأنه يستلزم أن يكون الحديث مرسلا. قوله: (إلا أبو قتادة) هكذا هو بالرفع عند الأكثرين، وعند الكشميهني: " إلا أبا قتادة" بالنصب، وكذا وقع عند مسلم بالنصب، وقال ابن مالك: حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب أن ينصب مفردا كان أو مكملا معناه بما بعده، فالمفرد نحو قوله تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين والمكمل نحو: إنا لمنجوهم أجمعين إلا إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين في هذا النوع إلا النصب، وقد أغفلوا وروده مرفوعا مع ثبوت الخبر ومع حذفه؛ فمن أمثلة الثابت الخبر قول ابن أبي قتادة: " أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم" فـ "إلا" بمعنى لكن، وأبو قتادة مبتدأ، و"لم يحرم" خبره، ونظيره من كتاب الله تعالى: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم فإنه لا يصح أن يجعل "امرأتك" بدلا من "أحد"؛ لأنها لم تسر معهم فيتضمنها ضمير المخاطبين، وتكلف بعضهم بأنه وإن لم يسر بها لكنها شعرت بالعذاب فتبعتهم ثم التفتت فهلكت. قال: وهذا على تقدير صحته لا يوجب دخولها في المخاطبين، ومن أمثلة المحذوف الخبر قوله صلى الله عليه وسلم: " كل أمتي معافى إلا المجاهرون"؛ أي: لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون، ومنه من كتاب الله تعالى: ما فعلوه إلا قليل منهم أي: لكن قليل منهم لم يشربوا، قال: وللكوفيين في هذا الثاني مذهب آخر، وهو أن يجعلوا "إلا" حرف عطف، وما بعدها معطوفا على ما قبلها. انتهى. وقال الكرماني: أو هو؛ أي الرفع، على مذهب من جوز أن يقال: علي بن أبو طالب.

                                                                                                                                                                                  قوله: (حمر وحش) الحمر، بضمتين، جمع حمار. قوله: (أتانا) هذا بين أن المراد بالحمار في سائر الروايات الأنثى منه. قوله: (فحملنا ما بقي من لحم الأتان)، وفي رواية أبي حازم في باب الهبة سيأتي: " فرحنا وخبأت العضد معي"، وفيه: " معكم منه شيء؟ فناولته العضد فأكلها حتى تعرقها"، وللبخاري أيضا في الجهاد سيأتي: " معنا رجله، فأخذ فأكلها"، وفي رواية المطلب: " قد رفعنا لك الذراع، فأكل منها". قوله: (منكم أحد أمره)؛ أي: أمنكم أحد أمره؟ أي: أمر [ ص: 174 ] أبا قتادة، ويروى: " أمنكم" بإظهار همزة الاستفهام، وفي رواية مسلم: " هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء"، ولمسلم في روايته من طريق شعبة عن عثمان: " هل أشرتم أو أعنتم أو اضطررتم"، وفي رواية أبي عوانة من هذا الوجه: " هل أشرتم أو اصطدتم أو قتلتم". قوله: (فكلوا) قد ذكرنا أن الأمر للإباحة لا للوجوب، ولم يذكر في هذه الرواية أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أكل من لحمها، وذكره في روايتي أبي حازم عن عبد الله بن أبي قتادة كما تراه، ولم يذكر ذلك من الرواة عن عبد الله بن أبي قتادة غيره، ووافقه صالح بن حسان عند أحمد، وأبي داود الطيالسي، وأبي عوانة، ولفظه: " فقال: كلوا وأطعموا".

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: روى إسحاق، وابن خزيمة، والدارقطني من رواية معمر عن يحيى بن أبي كثير هذا الحديث، وقال في آخره: " فذكرت شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: إنما اصطدته لك فأمر أصحابه فأكلوه، ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدت له "، فهذه الرواية تضاد روايتي أبي حازم. قلت: قال ابن خزيمة ، وأبو بكر النيسابوري ، والدارقطني ، والجوزقي تفرد بهذه الزيادة معمر، فإن كانت هذه الزيادة محفوظة تحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أكل من لحم ذلك الحمار قبل أن يعلمه أبو قتادة أنه اصطاده لأجله، فلما أعلمه بذلك امتنع.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: الروايات متظاهرة بأن الذي تأخر من الحمار هو العضد، وأنه صلى الله عليه وسلم أكلها حتى تعرقها؛ أي: لم يبق منها إلا العظم، ووقع للبخاري أيضا في الهبة ستأتي " حتى نفدها"؛ أي: فرغها، فأي شيء بقي منها حينئذ حتى يأمر أصحابه بالأكل. قلت: في رواية أبي محمد في الصيد ستأتي: " أبقي معكم شيء؟ قلت: نعم، فقال: كلوا، فهو طعمة أطعمكموها الله"، وهذا يشعر بأنه بقي منها شيء غير العضد.

                                                                                                                                                                                  وفيه من الفوائد تفريق الإمام أصحابه للمصلحة، واستعمال الطليعة في الغزو، وفيه جواز صيد الحمار الوحشي وجواز أكله. وفيه جواز أكل المحرم من لحم الصيد الذي اصطاده الحلال إذا لم يدل عليه، ولم يشر إليه ولم يعن صائده. وفيه أن عقر الصيد ذكاته. وفيه جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن العربي: هو اجتهاد بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم لا في حضرته. وفيه العمل بما أدى إليه الاجتهاد ولو تضاد المجتهدان، ولا يعاب واحد منهما على ذلك.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية