الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                499 500 ص: وقالوا: أما ما رويتموه عن عمر - رضي الله عنه - في قوله: "أصبت السنة"، فليس في ذلك دليل على أنه عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن السنة قد تكون منه وقد تكون من خلفائه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين".

                                                حدثنا به أبو أمية، قال: ثنا أبو عاصم ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي ، عن العرباض بن سارية ، عن النبي - عليه السلام -.

                                                وقد قال سعيد بن المسيب لربيعة ( في أروش أصابع المرأة: "يا ابن أخي إنها السنة"، يريد قول زيد بن ثابت. ؛

                                                فقد يجوز أن يكون عمر - رضي الله عنه - قد رأى ما قال لعقبة ، وهو من الخلفاء الراشدين المهديين . فسمى رأيه ذلك سنة، مع أنه قد جاءت الآثار المتواترة في ذلك بتوقيت المسح للمسافر والمقيم بخلاف ما جاءه حديث أبي بن عمارة . - رضي الله عنه -.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قال الآخرون في جواب ما احتج به هؤلاء القوم من قول عمر - رضي الله عنه -: "أصبت السنة".

                                                بيانه أنه ليس من دليل قطعي على أن ذلك عنده من النبي - عليه السلام - لأن السنة عند الإطلاق يحتمل أن تكون سنة النبي - عليه السلام - ويحتمل أن تكون سنة أحد من خلفائه، والدليل على ذلك حديث عرباض بن سارية - رضي الله عنه - فإنه يدل أن السنة أعم من أن تكون للنبي - عليه السلام - أو لأحد من خلفائه، وقد تطلق أيضا على قول أحد من الصحابة، والدليل عليه أن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - قال لربيعة بن أبي عبد الرحمن، المعروف بربيعة الرأي، شيخ مالك، التابعي الكبير، في أروش أصابع المرأة: "إنها السنة" يريد قول زيد بن ثابت الأنصاري الصحابي فقد أطلق السنة على قول زيد، فإذا كان كذلك يجوز أن يكون عمر - رضي الله عنه - قال ذلك لعقبة بن عامر من رأيه وسماه سنة، فلم تقم به حجة لما ذهبوا إليه.

                                                [ ص: 147 ] قوله: "مع أنه قد جاءت الآثار المتواترة" أي: المتكاثرة وهذا جواب آخر، بيانه: أن حديث أبي بن عمار غريب، والأحاديث المشهورة قد جاءت بتوقيت المسح للمقيم والمسافر، فلا يعارضها الحديث الغريب، مع أن فيه عللا كثيرة قد (ذكرناه) .

                                                وقد قيل: إن حديث أبي بن عمارة محمول على أنه يمسح ما شاء إذا نزعهما عند انتهاء مدته ثم لبسهما.

                                                وقال شمس الأئمة: وتأويل الحديث أن مراده - عليه السلام - بيان أن المسح مؤبد غير منسوخ، ألا ينزع في هذه المدة، والأخبار المشهورة لا تترك بهذا الشاذ.

                                                ثم إسناد حديث عرباض بن سارية صحيح ورجاله ثقات.

                                                وأبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي .

                                                وأبو عاصم النبيل اسمه الضحاك بن مخلد .

                                                وثور بن يزيد بن زياد الكلاعي الحمصي، روى له الجماعة سوى مسلم .

                                                وخالد بن معدان بن أبي كرب الكلاعي الحمصي روى له الجماعة.

                                                وعبد الرحمن بن عمرو بن عبسة السلمي الشامي، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه هذا الحديث.

                                                وعرباض بن سارية السلمي من أهل الصفة، وأحد البكائين الذين نزل فيهم ولا على الذين إذا ما أتوك الآية، نزل الشام وسكن حمص .

                                                وأخرجه أبو داود : مطولا بإسناده إلى عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر ابن حجر، قالا: "أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه: ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه فسلمنا وقلنا: أتيناك [ ص: 148 ] زائرين وعائدين ومقتبسين. فقال العرباض: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء [1\ق132-ب] الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

                                                وأخرجه الترمذي : ولم يذكر الصلاة، وفي آخره تقديم وتأخر.

                                                قوله: "مقتبسين" من الاقتباس وهو في الأصل: القبس من النار، وأراد به: الأخذ من العلم والأدب.

                                                قوله: "ذرفت" أي دمعت.

                                                قوله: "ووجلت" أي خافت وفزعت، من الوجل وهو الفزع.

                                                قوله: "فماذا تعهد إلينا" من عهد إليه بكذا يعهد إذا أوصى إليه.

                                                قوله: "فعليكم بسنتي" أي: خذوا بها.

                                                و"السنة" في اللغة: الطريقة والعادة، قال الله تعالى: فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا

                                                وفي الاصطلاح: ما صدر عن النبي - عليه السلام - غير القرآن من قول -ويسمى الحديث- أو فعل أو تقرير، وتطلق على سنة غيره، كما ورد في قوله: "وسنة الخلفاء الراشدين" من رشد يرشد رشدا ورشدا، وهو خلاف الغي، وأرشدته أنا إذا هديته، والمهدي الذي هداه الله إلى الحق، هداه يهديه فهو مهدي، والله هاديه.

                                                [ ص: 149 ] فإن قلت: من الخلفاء الراشدون؟ قلت: لا شك أن المراد منهم هاهنا: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن بن علي - رضي الله عنهم - أجمعين؛ لقوله: - عليه السلام - "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا".

                                                رواه سفينة مولى النبي - عليه السلام - وفي رواية: "ثم يؤتي الله ملكه من يشاء".

                                                رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي .

                                                وبيان ذلك أن خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - كانت سنتين وأربعة [أشهر] إلا عشر ليال، وخلافة عمر - رضي الله عنه - كانت عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وخلافة عثمان - رضي الله عنه - كانت ثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما، وخلافة علي - رضي الله عنه - كانت خمس سنين إلا شهرين، وتكميل الثلاثين بخلافة الحسن بن علي - رضي الله عنهما - نحو من ستة أشهر حتى نزل عنها لمعاوية عام أربعين من الهجرة.

                                                وروى يعقوب بن سفيان بإسناده إلى عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "خلافة نبوة ثلاثون عاما، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء. فقال معاوية: رضينا بالملك". وفيه رد صريح على الروافض المنكرين خلافة الثلاثة، وعلى النواصب من بني أمية ومن تبعهم من أهل الشام في إنكار خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

                                                فإن قلت ما الجمع بين حديث سفينة وبين حديث جابر بن سمرة الذي رواه مسلم في صحيحه : "لا يزال هذا الدين قائما ما كان اثنى عشر خليفة، كلهم من [ ص: 150 ] قريش ، ثم يخرج كذابون بين يدي الساعة، ولتفتحن عصابة من المسلمين كنز القصر [الأبيض] قصر كسرى، وأنا فرطكم على الحوض"؟. قلت: حديث جابر فيه بشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلا من قريش وإن لم يوجدوا على الولاء، وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة ثلاثين سنة، ثم قد كان بعد ذلك خلفاء راشدون منهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي - رضي الله عنه - وقد نص على خلافته وعدله وكونه من الخلفاء الراشدين غير واحد من الأئمة، حتى قال أحمد بن حنبل: ليس قول أحد من التابعين صحيح إلا قول عمر بن عبد العزيز .

                                                ومنهم من ذكر من هؤلاء: المهدي بأمر الله العباسي ، والمهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان منهم أيضا بالنص على كونه من أهل البيت واسمه محمد بن عبد الله، وليس بالمنتظر في سرداب سامراء؛ فإن ذلك ليس بموجود بالكلية، وإنما سطره الجهلة من الرافضة .

                                                وقال البيهقي: المراد بالخلفاء الاثنى عشر المذكورين في هذا الحديث هم المتتابعون إلى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق.

                                                قلت: فيه نظر؛ لأنهم حينئذ يصيرون خمسة عشر، أو ستة عشر، ويدخل فيهم مثل يزيد بن معاوية، ويخرج منهم مثل عمر بن عبد العزيز الذي [أطبقت] الأمة [1\ق133-أ] واتفق الأئمة على شكره ومدحه، وعدوه من الخلفاء الراشدين.

                                                [ ص: 151 ] بيانه أن [خلافة] الخلفاء الأربعة وهم: أبو بكر وعمر وعثمان ، وعلي - رضي الله عنهم - محققة بنص حديث سفينة، ثم بعدهم الحسن بن علي تكملة الثلاثين على ما بينا، ثم معاوية، ثم ابنه يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك بن مروان، ثم ابنه الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن الملك، ثم هشام بن عبد الملك .

                                                فهؤلاء خمسة عشر، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فإن اعتبرنا ولاية ابن الزبير قبل عبد الملك صاروا ستة عشر، فإن قال: أنا لا أعتبر في هذا إلا من اجتمعت عليه الأمة؛ لزمه على هذا ألا يعد علي بن أبي طالب ولا ابنه؛ لأن الناس لم يجتمعوا عليهما؛ وذلك لأن أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما، وعد حينئذ معاوية وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد، ولم يعتد بأيام مروان ولا ابن الزبير؛ لأن الأمة لم تجتمع على واحد منهما، فعلى هذا [يكون] في مسلكه هذا عادا للخلفاء: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية ثم يزيد بن معاوية ثم معاوية بن يزيد ثم عبد الملك ثم الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام، فهؤلاء اثنى عشر، ثم بعدهم: الوليد بن يزيد بن عبد الملك ولكن هذا لا يمكن أن يسلك لأنه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الاثني عشر وهو خلاف ما نص عليه أئمة السنة بل والشيعة ، والأحسن في ذلك ما بينا أن الخلافة قد انقطعت بعد الثلاثين سنة؛ لا مطلقا بل انقطع تتابعها.

                                                ولا ننفي وجود خلفاء راشدين بعد ذلك كما دل عليه حديث جابر بن سمرة .

                                                قوله: "وعضوا عليها بالنواجذ": وهي الأضراس التي بعد الناب، وهي جمع ناجذ، وهذا مثل في شدة الاستمساك بالأمر؛ لأن العض بالنواجذ عض بعظم الأسنان التي قبلها والتي بعدها.

                                                [ ص: 152 ] قوله: "وإياكم" أي: احذروا.

                                                "محدثات الأمور" وهي التي لم تكن معروفة في كتاب ولا في سنة ولا إجماع.

                                                قوله: "بدعة": وهي إحداث أمر لم يكن في زمن النبي - عليه السلام -.

                                                ثم الابتداع إذا كان من الله وحده فهو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وهو تكوين الأشياء بعد أن لم تكن، وليس ذلك إلا إلى الله تعالى.

                                                فأما من المخلوقين فإن كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله فهو في حيز الذم والإنكار، وإن كان واقعا تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه أو رسوله فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودا؛ كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهذا فعل من الأفعال المحمودة لم يكن الفاعل قد سبق إليه، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد به الشرع؛ لأن رسول الله - عليه السلام - قد جعل له في ذلك ثوابا فقال: "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها" وقال في ضده: "من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله.




                                                الخدمات العلمية