الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6284 ص: فإن قال قائل: فقد رويتم عن علي -رضي الله عنه- في هذا الفصل عن النبي -عليه السلام- أنه أباح لحوم الأضاحي بعدما قد كان نهى عنه ثم رويتم عنه -في الفصل الذي قبل ذلك الفصل- أنه خطب الناس، وعثمان -رضي الله عنه- محصور فقال: لا تأكلوا من لحوم أضاحيكم بعد ثلاثة أيام، وإن رسول الله -عليه السلام- كان يأمر بذلك، فقد دل ذلك على أن رسول الله -عليه السلام- قد كان نهى عن ذلك بعدما قد أباحه حتى تتفق معاني ما رويتموه عن علي -رضي الله عنه- من هذا.

                                                قيل له: ما في هذا دليل على ما ذكرت؛ لأنه قد يجوز أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان نهى عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام؛ لشدة كان الناس فيها ثم ارتفعت تلك الشدة فأباح لهم لذلك، ثم عاد ذلك في وقت ما خطب علي -رضي الله عنه- بالناس فأمرهم بما كان رسول الله -عليه السلام- أمر به في مثل ذلك والدليل على ما ذكرنا من هذا:

                                                أن ابن مرزوق حدثنا قال: ثنا أبو حذيفة ، قال: ثنا سفيان ، ثنا عبد الرحمن بن عابس ، عن أبيه قال: " دخلت على عائشة -رضي الله عنها- فقلت: يا أم المؤمنين أحرم رسول الله -عليه السلام- أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام؟ فقالت: إنما فعل ذلك في عام جاع الناس فيه، فأراد أن يطعم الغني الفقير قالت: ولقد كنا نرفع الكراع خمس عشرة ليلة". .

                                                فدل هذا الحديث أن ذلك النهي إنما كان من رسول الله -عليه السلام- للعارض المذكور في هذا الحديث، فلما ارتفع ذلك العارض أباح لهم رسول الله -عليه السلام- ما قد كان حظره عليهم على ما ذكرناه في الآثار الأول التي في الفصل الذي قبل هذا فكذلك ما فعله علي -رضي الله عنه- في زمن عثمان -رضي الله عنه- وأمر به الناس بعد علمه بإباحة رسول الله -عليه السلام- ما قد نهاهم هو عنه إنما كان ذلك منه -عندنا والله أعلم- لضيق كانوا فيه مثل ما كانوا في زمن رسول الله -عليه السلام- في الوقت الذي نهاهم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام فأمرهم في أيامهم بمثل ما كان رسول الله -عليه السلام- أمر به الناس في مثلها.

                                                [ ص: 37 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 37 ] ش: تقرير السؤال: أن يقال: قد رويتم في هذا الباب حديثين عن علي -رضي الله عنه-:

                                                الأول: رويتم ها هنا عنه عن النبي -عليه السلام- أنه أباح لحوم الأضاحي فوق الثلاث بعدما كان نهى عنه، ورويتم قبل هذا في أول الباب أنه خطب الناس حين كان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- محصورا، وقال: "لا تأكلوا من لحوم أضاحيكم بعد ثلاثة أيام"، وقال: "إن رسول الله -عليه السلام- كان يأمر بذلك".

                                                وبين الحديثين تعارض ودفعه واجب مهما أمكن، وقد أمكن ها هنا، بأن يكون ما كان نهى عنه رسول - صلى الله عليه وسلم - إنما كان بعدما قد أباحه فبهذا يرتفع التضاد ويتفق معنى الحديثين ويثبت المدعى وهو أن الأكل من لحوم الأضاحي فوق الثلاث ممنوع.

                                                وتقرير الجواب: أن يقال: لا نسلم ما ذكرتم؛ لأنه قد يجوز أن يكون نهيه -عليه السلام- عن ذلك فيما فوق الثلاث إنما كان لأجل شدة كان الناس فيها ثم لما ارتفعت الشدة أباح لهم ذلك لحصول السعة للناس ثم لما عادت الشدة في الوقت الذي خطب فيه علي -رضي الله عنه- وهو الوقت الذي كان عثمان -رضي الله عنه- محصورا فيه أمر علي -رضي الله عنه- الناس بما كان أمر به النبي -عليه السلام- في الوقت الذي كانت فيه الشدة لأجل أن يطعم الغني الفقير ويواسي به إياه فلما ارتفعت الشدة عادت الإباحة أيضا والدليل على ذلك ما روي عن عائشة -رضي الله عنها-.

                                                أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن عابس النخعي الكوفي عن أبيه عابس بن ربيعة النخعي الكوفي عن أم المؤمنين عائشة.

                                                وأخرجه البخاري: من حديث الثوري ... إلى آخره بأتم منه، وقد ذكرناه فيما مضى.

                                                [ ص: 38 ] فإنها صرحت في حديثها بعلة النهي حيث قالت: "إنما فعل ذلك في عام جاع الناس فيه؛ فأراد أن يطعم الغني الفقير" فدل الحديث أن النهي منه -عليه السلام- إنما كان لأجل هذا العارض فلما ارتفع هذا العارض -الذي هو علة النهي- ارتفع حكم النهي وهو المنع عن تناول لحوم الأضاحي فيما فوق الثلاث، وعادت الإباحة.

                                                قوله: "أحرم" الهمزة فيه للاستفهام.

                                                قوله: "كنا نرفع الكراع" قال الجوهري: الكراع في الغنم والبقر بمنزلة الوظيف في الفرس والبعير وهو مستدق الساق يذكر ويؤنث، والجمع أكرع ثم أكارع.




                                                الخدمات العلمية