الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                7035 7036 7037 7038 ص: حدثنا يونس ، قال : أنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، عن ابن شهاب ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن عباس : " ، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج إلى الشام ، حتى إذا كان بسرغ ، لقيه أمراء الأجناد : ، أبو عبيدة بن الجراح ، وأصحابه - رضي الله عنهم - فأخبروه أن الوباء قد وقع . قال ابن عباس: : - رضي الله عنهما - : فقال عمر : - رضي الله عنه - : ادعوا لي المهاجرين الأولين ، فدعاهم فاستفتاهم ، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام ، ، فاختلفوا عليه ; فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه ، وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء ، ، فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادعوا لي من كان ها هنا من مشيخة قريش ، من مهاجرة الفتح ، فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان ، قالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء ، . فنادى عمر - رضي الله عنه - في الناس : إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه . قال أبو عبيدة : - رضي الله عنه - : أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر : : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ؟ ! ، نعم : نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان ، إحداهما خصبة ، والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة ، رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف ، وكان غائبا في

                                                [ ص: 61 ] بعض حاجته ، فقال : إن عندي من هذا علما : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه . قال : فحمد الله عمر ، - رضي الله عنه - ثم انصرف " .

                                                حدثنا يونس ، قال : أنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، عن ابن شهاب ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة : " أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ، . فلما جاء بسرغ ، بلغه أن الوباء قد وقع بالشام ، ، فأخبره عبد الرحمن بن عوف ، - رضي الله عنه - عن رسول الله -عليه السلام - . . . . " فذكر مثل حديث يونس ، الذي قبل هذا ، من حديث عبد الرحمن خاصة -قال : "فرجع عمر - رضي الله عنه - من سرغ " .

                                                حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني هشام بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن : " أن عمر بن الخطاب ، - رضي الله عنه - حين أراد الرجوع من سرغ . واستشار الناس ، فقالت طائفة منهم أبو عبيدة بن الجراح : : أمن الموت نفر ؟ أما نحن بقدر ولن يصيبنا إلا ما كتب الله ؟ فقال عمر : : يا أبا عبيدة ، لو كنت بواد إحدى عدوتيه مخصبة والأخرى مجدبة ، أيتهما كنت ترعى ؟ قال : المخصبة ، قال : فإنا إن تقدمنا فبقدر ، وإن تأخرنا فبقدر ، وفي قدر نحن " .

                                                حدثنا الحسين بن الحكم الجيزي ، قال : ثنا عاصم بن علي (ح).

                                                وحدثنا سليمان بن شعيب ، قال : ثنا عبد الرحمن بن زياد ، قالا : ثنا شعبة بن الحجاج ، عن قيس بن مسلم ، قال : سمعت طارق بن شهاب ، قال : "كنا نتحدث إلى أبي موسى الأشعري ، . فقال لنا ذات يوم : لا عليكم أن تخفوا عني فإن هذا الطاعون قد وقع في أهلي ، فمن شاء منكم أن يتنزه فليتنزه ، واحذروا اثنتين : أن يقول قائل : خرج خارج فسلم ، وجلس جالس فأصيب ، لو كنت خرجت لسلمت كما سلم آل فلان ، أو يقول قائل : لو كنت جلست لأصبت كما أصيب آل فلان ، وإني سأحدثكم بما ينبغي للناس في الطاعون : إني كنت مع أبي عبيدة ، وإن الطاعون قد وقع بالشام ، ، وأن عمر - رضي الله عنه - كتب إليه : إذا أتاك كتابي هذا فإني أعزم عليك إن

                                                [ ص: 62 ] أتاك مصبحا فلا تمسي حتى تركب ، وإن أتاك ممسيا لا تصبح حتى تركب إلي ; فقد عرضت لي إليك حاجة لا غنى بي عنك فيها ، فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب قال : إن أمير المؤمنين أراد أن يستبقي من ليس بباق ، فكتب إليه أبو عبيدة : : إني في جند من المسلمين لن أرغب بنفسي عنهم ، وقد عرفنا حاجة أمير المؤمنين ; فحللني من عزمتك ، . فلما جاء عمر الكتاب بكى ، فقيل له : توفي أبو عبيدة ؟ ؟ قال : لا ، وكأن قد ، فكتب إليه عمر : - رضي الله عنه - إن الأردن أرض عميقة ، وإن الجابية أرض نزهة ، فانهض بالمسلمين إلى الجابية ، . فقال لي أبو عبيدة : : انطلق فبوئ المسلمين منزلهم ، فقلت : لا أستطيع ، قال : فذهب ليركب ، وقال لي : رحل الناس قال : فأخذته أخذة فطعن فمات ، وانكشف الطاعون " .

                                                قالوا : فهذا عمر - رضي الله عنه - قد أمر الناس أن يخرجوا من الطاعون ، ووافقه على ذلك أصحاب رسول الله -عليه السلام - . ويروي عبد الرحمن بن عوف ، - رضي الله عنه - عن النبي -عليه السلام - ما يوافق ما ذهب إليه في ذلك .

                                                التالي السابق


                                                ش: هذه خمس طرق أخرى :

                                                الأول : رجاله كلهم رجال الصحيح .

                                                وأخرجه مالك في "موطإه " .

                                                وأخرجه البخاري : عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك .

                                                ومسلم : عن يحيى بن يحيى ، عن مالك . . . . نحوه .

                                                الثاني : أيضا رجاله كلهم رجال الصحيح .

                                                وأخرجه مالك في "موطإه " .

                                                [ ص: 63 ] ومسلم عن يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة . . . . إلى آخره نحوه .

                                                الثالث : أيضا رجاله كلهم رجال الصحيح .

                                                وأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده " .

                                                الرابع : عن الحسين بن الحكم بن مسلم الحبري -بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة - نسبة إلى بيع الحبر وهو جمع حبرة ، كعنب جمع عنبة ، وهي برد يماني .

                                                عن عاصم بن علي بن عاصم الواسطي شيخ البخاري ، عن شعبة بن الحجاج ، عن قيس بن مسلم الجدلي العدواني الكوفي ، وثقه أحمد ويحيى وأبو حاتم ، وروى له الجماعة .

                                                عن طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الكوفي ، أدرك الجاهلية ورأى النبي -عليه السلام - وروى عنه ، وقال أبو داود : رأى النبي -عليه السلام - ولم يسمع منه شيئا . مات أيام الجماجم قال : "كنا نتحدث إلى أبي موسى الأشعري " وهو عبد الله بن قيس .

                                                وأخرجه محمد بن جرير الطبري .

                                                الخامس : عن سليمان بن شعيب الكيساني ، عن عبد الرحمن بن زياد الرصافي الكوفي ، ثقة ، عن شعبة . . . . إلى آخره .

                                                قوله : "خرج إلى الشام " كان خروج عمر - رضي الله عنه - إلى الشام هذه المرة سنة سبع عشرة يتفقد فيها أحوال الرعية وأمرائهم ، وكان قد خرج قبل ذلك سنة ست عشرة لما حاصر أبو عبيدة بيت المقدس فقال أهله : يكون الصلح على يدي عمر - رضي الله عنه - فخرج لذلك .

                                                قوله : "حتى إذا كان بسرغ " بفتح السين المهملة وسكون الراء وفي آخره غين

                                                [ ص: 64 ] معجمة ، قال أبو عبيد البكري : هي مدينة بالشام افتتحها أبو عبيدة هي واليرموك والجابية والرمادة متصلة .

                                                قال أبو بكر الحازمي : هي أول الحجاز وآخر الشام بين المغيثة وتبوك من منازل حاج الشام .

                                                قال أبو عمر : قيل إنه واد بتبوك ، وقيل : بقرب تبوك .

                                                وقال ابن قرقول : وعن ابن وضاح بتحريك الراء ، قال : وهو من المدينة على ثلاثة عشر مرحلة .

                                                قوله : "لقيه أمراء الأجناد " جمع جند -بضم الجيم وسكون النون - قال الجوهري : الشام خمسة أجناد : دمشق وحمص وتنسرين وأردن وفلسطين يقال لكل منها : جند .

                                                وقال كراع : كان الشام على خمسة أجناد ، على كل ناحية أمير ، ولم يمت عمر - رضي الله عنه - حتى جمع الشام كله لمعاوية - رضي الله عنه - .

                                                قوله : "إن الوباء " الوباء مهموز يمد ويقصر ، وهو عبارة عن مرض عام يفضي إلى الموت غالبا ، وعند الأطباء : هو آفة تعرض للهواء فيفسد ، فتفسد بفساده الأمزجة .

                                                وقال أبو زيد الأنصاري : أرض وبيئة إذا كثر مرضها .

                                                وقال صاحب الجامع : الوبا -على وزن فعل : الطاعون ، وقيل : كل مرض عام وباء . قال ابن درستويه : والعامة لا تهمزه وإن كان ترك الهمزة جائزا .

                                                قوله : "لو غيرك قالها " جوابه محذوف ، أي لو غيرك قال هذه الكلمة لعاقبته ، ويقال : معناه : هلا تركت هذه الكلمة لمن قل فقهه .

                                                قوله : "عدوتان " العدوة بضم العين وكسرها وقرئ بهما في السبعة وهي جانب الوادي .

                                                [ ص: 65 ] قوله : "إحداهما خصبة " قال ابن الأثير : ضبط بفتح الخاء وكسر الصاد في بعض الكتب ، وفي بعضها بالسكون .

                                                و"الجدبة " بفتح الجيم وسكون الدال ضد الخصبة .

                                                قوله : "كنا نتحدث إلى أبي موسى " أي عند أبي موسى ، وكلمة "إلى " تجيء بمعنى "عند " كما في قول الشاعر :


                                                أم لا سبيل إلى الشباب وذكره . . . أشهى إلي من الرحيق السلسل



                                                أي ذكره أشهى عندي من الشراب الخالص الرائق .

                                                قوله : "لا عليكم " أي لا بأس عليكم أن تخفوا عني أي أن تتفرقوا عني لأجل وقوع الطاعون في أهلي .

                                                قوله : "فاحذروا اثنتين " أي خصلتين .

                                                قوله : "أن يقول قائل " أي إحدى الخصلتين أن يقول قائل .

                                                والخصلة الثانية هي قوله : "أو يقول قائل : لو كنت جلست لأصبت " .

                                                قوله : "من عزمتك " العزمة : الحق من الحقوق والواجب من الواجبات .

                                                قوله : "أرض عميقة " أي غور وأودية .

                                                و"الأردن " بضم الهمزة وسكون الراء وضم الدال وهي قوله : "فبوئ المسلمين " أمر من بوأ يبوئ ، يقال : بوأه منزلا أي أسكنه إياه ، وتبوأت منزلا أي اتخذته .

                                                قوله : "فأخذته أخذة " بفتح الهمزة وسكون الخاء مرة من الأخذ ، أراد : ظهر له شيء من أمراض الطاعون فمات من ذلك ، قال عروة بن الزبير : "خرجت بأبي [ ص: 66 ] عبيدة في خنصره بثرة ، فجعل ينظر إليها ، فقيل : إنها ليست بشيء ، فقال : إني أرجو أن يبارك الله فيها ; فإنه إذا بارك في القليل كان كثيرا ، فمات من ذلك وقبر ببيسان ، وقيل : توفي بعمواس سنة ثماني عشرة - رضي الله عنه - .

                                                ثم الحديث المذكور يشتمل على أحكام :

                                                الأول : فيه خروج الخليفة إلى أعماله يطالعها وينظر إليها ويعرف أحوال أهلها.

                                                الثاني : فيه استعمال الخليفة أمراء عددا في موضع واحد لوجوه يصرفهم فيها، وكان عمر - رضي الله عنه - قسم الشام على أربعة أمراء ، تحت كل واحد منهم جند وناحية من الشام ، وهم : أبو عبيدة ، وشرحبيل ، ويزيد بن أبي سفيان وأحسب الرابع معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ثم لم يمت عمر - رضي الله عنه - حتى جمع الشام لمعاوية .

                                                الثالث : فيه دليل على إباحة العمل والولاية ، وأن لا بأس بها للصالحين والعلماء إذا كان الخليفة فاضلا عالما يأمر بالحق ويعدل.

                                                الرابع : فيه دليل على مشورة من يوثق بفهمه وعقله عند نزول الأمر المعضل .

                                                الخامس : فيه دليل على أن المسألة إذا كان دليلها الاجتهاد ووقع فيها الاختلاف لم يجز لأحد القائلين فيه عيب مخالفه ولا الطعن عليه ; ألا ترى أنهم اختلفوا وهم القدوة فلم يعب أحد منهم على صاحبه اجتهاده ولا وجد عليه في نفسه ؟ إلى الله الشكوى ، وهو المستعان .

                                                السادس : فيه دليل على أن المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى شيء خالفه فيه صاحبه لم يجز له الميل إلى قول صاحبه إذا لم يبن له موضع الصواب فيه ، ولا قام له الدليل عليه .

                                                السابع : فيه دليل على أن الإمام أو الحاكم إذا نزلت به نازلة لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة ، كان عليه أن يجمع العلماء وذوي الرأي ويشاورهم ، فإن لم يأت واحد منهم بدليل من كتاب أو سنة غير اجتهاده كان عليه الميل إلى الأصلح والأخذ بما يراه .

                                                الثامن : فيه دليل على إثبات المناظرة والمجادلة عند الخلاف في النوازل والأحكام.

                                                [ ص: 67 ] التاسع : فيه دليل على أن الحديث يسمى علما ويطلق ذلك عليه ; ألا ترى إلى قول عبد الرحمن بن عوف : "عندي من هذا علم " .

                                                العاشر : فيه دليل على أن الخلق يجرون في قدر الله وعلمه ، وأن أحدا منهم أو شيئا لا يخرج عن حكمه وإرادته ومشيئته .

                                                الحادي عشر : فيه أن العالم قد يجد عند من هو في العلم دونه ما لا يوجد منه عنده ; لأنه معلوم أن موضع عمر - رضي الله عنه - من العلم ومكانه من الفهم ودنوه من رسول الله -عليه السلام - في المدخل والمخرج فوق عبد الرحمن - رضي الله عنه - وقد كان عند عبد الرحمن عنه -عليه السلام - ما لم يكن عند عمر - رضي الله عنه - .

                                                الثاني عشر : فيه أن القاضي والإمام والحاكم لا ينفذ قضاء ولا يفصل حكما إلا عن مشورة من يحضره ويصل إليه ويقدر عليه من علماء موضعه .

                                                الثالث عشر : فيه دليل عظيم على ما كان عليه القوم من الإنصاف في العلم والانقياد إليه ، وكيف لا يكون ذلك وهم خير الأمم ؟ ! .

                                                الرابع عشر : فيه دليل على استعمال خبر الواحد وقبوله وإيجاب العمل به ، وهذا أصح وأقوى من جهة الأثر في خبر الواحد .




                                                الخدمات العلمية