الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                7260 7261 ص: فنظرنا في ذلك ، فإذا ابن أبي داود قد حدثنا قال : ثنا أبو اليمان ، قال : ثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري قال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن أسامة بن زيد أخبره : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب على حمار ، عليه إكاف على قطيفة ، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن خزرج ، قبل وقعة بدر ، فسار حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي بن سلول ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي بن سلول ، أنفه بردائه ثم قال : لا تغبروا علينا، فسلم النبي -عليه السلام - ، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله -عز وجل - وقرأ القرآن قال عبد الله بن أبي بن سلول : أيها المرء لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذينا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه ، قال عبد الله بن رواحة : : بل يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا ; فإنا نحب ذلك ، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون ، فلم يزل النبي -عليه السلام - يخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب النبي -عليه السلام - دابته ، فسار حتى دخل على سعد بن عبادة ، ، فقال له النبي -عليه السلام - : يا سعد ، ألم تسمع إلى ما يقول أبو حباب ، ؟ يعني ابن سلول ؟ ، قال : كذا وكذا ، قال سعد : : يا رسول الله ، اعف عنه واصفح ، فوالذي نزل عليك الكتاب ، لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك [ ص: 256 ] ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة ، فلما رد الله -عز وجل - ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك فذلك فعل به ما رأيت ، فعفا عنه النبي . -عليه السلام - ، وكان النبي -عليه السلام - وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ; قال الله -عز وجل - : ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وقال الله -عز وجل - : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم الآية ، وكان النبي -عليه السلام - يتأول العفو كما أمره الله -عز وجل - به ، حتى أذن الله فيهم ، فلما غزا النبي -عليه السلام - بدرا فقتل الله -عز وجل - به من قتل من صناديد كفار قريش ، ، قال أبي بن أبي سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد توجه فبايعوا رسول الله -عليه السلام - وأسلموا " .

                                                ففي هذا الحديث أن ما كان من تسليم النبي -عليه السلام - كان في الوقت الذي أمره الله بالعفو عنهم والصفح ، وترك مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن ، ثم نسخ الله -عز وجل - ذلك ، وأمره بقتالهم ، فنسخ مع ذلك السلام عليهم ، وثبت قوله : "لا تبتدئوا اليهود ولا النصارى بالسلام ، ومن سلم عليكم منهم، فقولوا : وعليكم ، حتى تردوا عليه ما قال "ونهوا أن يزيدوهم على ذلك .

                                                حدثنا علي بن شيبة ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أنا ابن عون ، عن حميد بن زاذويه ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : "نهينا أن نزيد أهل الكتاب على : وعليكم " .

                                                فبهذا نأخذ ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، -رحمهم الله - .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي نظرنا فيما ذكرنا من قولنا : ويحتمل أن يكون النبي -عليه السلام - سلم عليهم . . . . إلى آخره ، وأراد بذلك أنه لما نظر في ذلك المعنى وجد حديث أسامة بن زيد قد

                                                [ ص: 257 ] دل على أن ما كان من تسليمه -عليه السلام - كان في الوقت الذي أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين وترك مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن ، ثم إن الله -عز وجل - نسخ ذلك وأمره بقتال أهل الكفر ونسخ معه السلام عليهم ، وثبت الأمر على قوله : "لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام ، ومن سلم عليكم منهم فقولوا : وعليكم ، حتى تردوا عليه ما قال " .

                                                وأخرج حديث أسامة بن زيد بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أبي اليمان الحكم بن نافع البهراني الحمصي شيخ البخاري ، عن شعيب بن أبي حمزة دينار ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن أسامة بن زيد .

                                                وأخرجه البخاري في تفسير سورة آل عمران : ثنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن أسامة بن زيد أخبره : "أن رسول الله -عليه السلام - ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن خزرج قبل وقعة بدر ، قال : حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول -وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين وعبدة الأوثان واليهود ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة . . . . " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء .

                                                وأخرجه البخاري أيضا في الجهاد وفي اللباس عن قتيبة ، عن أبي صفوان -وهو عبد الله بن سعيد الأموي - عن يونس .

                                                وفي الأدب عن أبي اليمان ، عن شعيب .

                                                وفي الطب عن ابن بكير ، عن الليث ، عن عقيل .

                                                [ ص: 258 ] وفي الأدب عن إسماعيل ، عن أخيه ، عن سليمان ، عن محمد بن عتيق .

                                                وفي الاستئذان عن إبراهيم بن موسى ، عن هشام ، عن معمر ، كلهم عن الزهري ، عن عروة ، عن أسامة بهذا .

                                                وأخرجه مسلم في المغازي : عن إسحاق بن راهويه ، ومحمد بن رافع وعبد بن حميد ، عن عبد الرزاق ، عن معمر .

                                                وعن محمد بن رافع ، عن حجين بن المثنى ، عن الليث ، عن عقيل ، كلهم عن الزهري ، عن عروة ، عن أسامة بهذا .

                                                قوله : "على حمار على إكاف على قطيفة " . "الإكاف " بكسر الهمزة ما يشد على الحمار تحت الراكب ، وكذلك الوكاف ، ويجمع على آكف ، يقال : أكفت الحمار وأوكفته إن شددت عليه الإكاف . و"القطيفة " : كساء له خمل .

                                                فإن قلت : ما موقع "على إكاف " وموقع "على قطيفة " ؟ .

                                                قلت : الجملتان وقعتا حالين من الضمير الذي في "ركب " ولا يجوز أن يكون قوله : "على قطيفة " في محل الجر على أنها صفة لقوله : "إكاف " ، والتقدير : على إكاف كائنة على قطيفة ، لأن القطيفة فوق الإكاف .

                                                فإن قيل : لم لا يجوز أن تكون على قطيفة بدلا من قوله : على إكاف ; لأن الإكاف هي القطيفة ؟ والدليل عليه ما في رواية البخاري : "ركب على حمار على قطيفة فدكية " .

                                                قلت : قد جاء في رواية لأحمد : "ركب حمارا على إكاف عليه قطيفة فركية " . فدل هذا على أنه كان على الحمار إكاف وفوقها قطيفة ، وعلى أن في رواية البخاري اختصارا . فافهم .

                                                [ ص: 259 ] قوله : "يعود " جملة حالية .

                                                قوله : "أخلاط " أي جماعات من المسلمين وغيرهم .

                                                قوله : "فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة " أي : فلما غلبت المجلس غبار الدابة ، من غشي غشيانا ، والعجاج : الغبار والدخان أيضا ، والعجاج أخص منه .

                                                قوله : "خمر " أي غطى . يقال : خمرت الإناء إذا غطيتها من التخمير وهو التغطية ، ومنه اشتق الخمار والخمر .

                                                قوله : "فاغشنا " أي أقرب إلينا ، من غشيه : إذا جاءه .

                                                قوله : "يتثاورون " أي [يتوثبون] ، من المثاورة وهي [المواثبة] وأصله من ثار الغبار يثور ثورا وثورانا إذا سطع ، وأثاره غيره .

                                                قوله : "أبو حباب " بضم الحاء المهملة وتخفيف الباء الموحدة كنية عبد الله بن أبي بن سلول ، وكان حباب اسم ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي ، وكان أبوه يكنى به ، فلما أسلم حباب سماه رسول الله -عليه السلام - عبد الله وكان من خيار الصحابة وفضلائهم ، وكان أبوه عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وهو الذي قال في غزوة بني المصطلق : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل

                                                قوله : "أهل هذه البحيرة " البحيرة مدينة الرسول -عليه السلام - ، وهي تصغير البحرة ، وقد جاء في رواية مكبرا ، والبحرة : البلدة ، والعرب تسمي المدن والقرى : البحار .

                                                قوله : "على أن يتوجوه " من توجته إذا ألبسته التاج ، وأراد أنهم كانوا أرادوا أن يولوه ملكا عليهم ، ويلبسونه تاج المملكة .

                                                قوله : "فيعصبوه " أي فيسودوه ويملكوه ، وكانوا يسمون السيد المطاع معصبا ; لأنه يعصب بالتاج ، أو يعصب أمور الناس : أي ترد عليه وتدار به .

                                                [ ص: 260 ] و"العمائم " : تيجان العرب ، وتسمى العصائب ، واحدتها عصابة .

                                                قوله : "شرق " بكسر الراء ، أي غص وشرق بريقه أو شرق ، وهو مجاز عما ناله من أمر رسول الله -عليه السلام - وحل به حتى كأنه شيء لم يقدر على إساغته وابتلاعه فغص به .

                                                قوله : "وكان النبي -عليه السلام - يتأول العفو " يعني يأخذه من قول الله تعالى : فاعف عنهم واصفح قوله : "من صناديد " جمع صنديد القوم ، وهو سيدهم وكبيرهم .

                                                ويستفاد منه أحكام :

                                                فيه : الحث على التواضع والمسكنة ; لأن ركوبه -عليه السلام - الحمار من غاية تواضعه .

                                                وفيه : جواز الارتداف على الدابة.

                                                وفيه : عيادة المريض سنة .

                                                وفيه : جواز السلام على جماعة من المسلمين والكفار مختلطين ، ولكن ينوي به المسلمين .

                                                وفيه : أن الإمام إذا رأى جماعة في موقع قاعدين يقف عندهم ويعظ لهم ويعلمهم ما يحتاجون لأمور دينهم.

                                                وفيه : أنه إذا رآهم قد شرعوا في الضراب والنزاع يخفضهم ، ويصلح بينهم .

                                                وفيه : الإشارة إلى استحباب العفو والصفح عن من ظلمه وآذاه .

                                                وفيه : الدلالة على جواز اجتماع المسلمين مع أهل الكفر في موضع .

                                                وفيه : أن الذي يأتي إلى قوم يسلم عليهم : فالراكب على الماشي والقائم على القاعد .

                                                [ ص: 261 ] وفيه : جواز بث ما فعله الظالم من فعله وقوله عند غيره في غيبته .

                                                قوله : "ونهوا أن يزيدوهم على ذلك " أي : نهي المسلمون أن يزيدوا أهل الكفر على قولهم : "وعليك " في رد السلام عليهم.

                                                قوله : "حدثنا علي بن شيبة . . . . " إلى آخره بيان لقوله : ونهوا أن يزيدوهم على ذلك .

                                                وإسناده صحيح .

                                                وابن عون هو عبد الله بن عون المزني البصري ، روى له الجماعة .

                                                وحميد بن زاذويه -ويقال : ابن أبي زاذويه - مولى خزاعة ، ذكره ابن حبان في "الثقات " ، التابعين وليس هذا بحميد الطويل .

                                                وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه " : ثنا وكيع وأبو أسامة ، عن ابن عون ، عن حميد بن زاذويه ، عن أنس قال : "نهينا أو أمرنا أن لا نزيد (على) أهل الكتاب على (وعليكم) " .

                                                وروي أيضا في هذا الباب عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - .

                                                أخرجه مسلم : حدثني زهير بن حرب ، قال : ثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي -عليه السلام - : "أن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم : السام عليكم ، فقولوا : وعليكم " .

                                                وأخرجه أبو داود أيضا . وقال أبو داود : وكذلك رواه مالك عن عبد الله بن دينار ، ورواه الثوري عن عبد الله بن دينار قال فيه : "وعليكم " .

                                                [ ص: 262 ] وأخرجه الترمذي والنسائي أيضا ، وفي لفظ الترمذي ولفظ لمسلم والنسائي : "فقل : عليك " بغير واو ، قال الخطابي : هكذا يرويه عامة المحدثين : وعليكم بالواو ، وكان سفيان بن عيينة يرويه : عليكم بحذف الواو وهو الصواب ، وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه مردودا عليهم ، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه ; لأن الواو حرف العطف والاجتماع بين الشيئين .

                                                قلت : قد أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار بغير واو أيضا .

                                                وقال بعضهم : أما من فسر السام بالموت فلا يبعد الواو ، ومن فسره بالسآمة وهي الملالة أي يسأمون دينكم ، فإسقاط الواو هو الوجه .

                                                واختار بعضهم أن يرد عليهم "السلام " -بكسر السين - وهي الحجارة ويقال : الأول أولى ; لأن السنن وردت بما ذكرناه ; ولأن الرد إنما يكون بجنس المردود لا بغيره . والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية