الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ أصل كل شر البدع واتباع الهوى ]

والمقصود أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل ; لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به وهو الخوض ، أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق ، فالأول البدع ، والثاني اتباع الهوى ، وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء ، وبهما كذبت الرسل ، وعصي الرب ، ودخلت النار ، وحلت العقوبات ، فالأول من جهة الشبهات ، والثاني من جهة الشهوات ، ولهذا كان السلف يقولون : احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى فتنته هواه ، وصاحب دنيا أعجبته دنياه .

وكانوا يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل ; فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه ، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم .

وفي صفة الإمام أحمد رحمه الله : عن الدنيا ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه ، أتته البدع فنفاها ، والدنيا فأباها ، وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم الله في كتابه بقوله : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } فبالصبر تترك الشهوات ، وباليقين تدفع الشبهات ، كما قال تعالى : { وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } وقوله تعالى : { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } .

وفي بعض المراسيل : { إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات } .

فقوله تعالى : { فاستمتعتم بخلاقكم } إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة وقوله : { وخضتم كالذي خاضوا } إشارة إلى الشبهات وهو داء المتبدعة وأهل الأهواء والخصومات ، وكثيرا ما يجتمعان فقل من تجده فاسد الاعتقاد إلا وفساد اعتقاده يظهر في عمله .

والمقصود أن الله أخبر أن في هذه الأمة من يستمتع بخلاقه كما استمتع الذين من قبله بخلاقهم ، ويخوض كخوضهم ، وأنهم لهم من الذم والوعيد كما للذين من قبلهم ، ثم [ ص: 107 ] حضهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم فقال : { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } .

فتأمل صحة هذا القياس وإفادته لمن علق عليه من الحكم ، وأن الأصل والفرع قد تساويا في المعنى الذي علق به العقاب ، وأكده كما تقدم بضرب من الأولى ، وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد ، فإذا لم يتعذر على الله عقاب الأقوى منهم بذنبه فكيف يتعذر عليه عقاب من هو دونه ؟ ومنه قوله تعالى : { وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } فهذا قياس جلي ، يقول سبحانه : إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم فذكرأركان القياس الأربعة : علة الحكم ، وهي عموم مشيئته وكمالها ، والحكم ، وهو إذهابه بهم وإتيانه بغيرهم ، والأصل ، وهو من كان من قبل ، والفرع ، وهم المخاطبون .

ومنه قوله تعالى : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } فأخبر أن من قبل المكذبين أصل يعتبر به ، والفرع نفوسهم ، فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة .

ومنه قوله تعالى : { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا } فأخبر سبحانه أنه أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلينا كما أرسل موسى إلى فرعون ، وأن فرعون عصى رسوله فأخذه أخذا وبيلا ، فهكذا من عصى منكم محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهذا في القرآن كثير جدا فقد فتح لك بابه

التالي السابق


الخدمات العلمية