الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ يجوز للمفتي أن يحلف على ثبوت الحكم ] الفائدة الثامنة :

يجوز للمفتي والمناظر أن يحلف على ثبوت الحكم عنده ، وإن لم يكن حلفه موجبا لثبوته عند السائل والمنازع ; ليشعر السائل والمنازع له أنه على ثقة ويقين مما قال له ، وأنه غير شاك فيه ، فقد تناظر رجلان في مسألة ; فحلف أحدهما على ما يعتقده ، فقال له منازعه : لا يثبت الحكم بحلفك ، فقال : إني لم أحلف ليثبت الحكم عندك ، ولكن ; لأعلمك أني على يقين وبصيرة من قولي ، وأن شبهتك لا تغير عندي في وجه يقيني ما أنا جازم به .

وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحلف على ثبوت الحق الذي جاء به في ثلاثة مواضع من كتابه ، أحدها : { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق } والثاني : قوله تعالى { : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب } والثالث : قوله تعالى { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن } .

وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ما أخبر به من الحق في أكثر من ثمانين موضعا ، وهي موجودة في الصحاح والمسانيد ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحلفون على الفتاوى والرواية ، { فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لابن عباس في متعة النساء : إنك امرؤ تائه ، فانظر ما تفتي به في متعة النساء ، فوالله وأشهد بالله لقد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم } .

ولما ولي عمر رضي الله عنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحل المتعة ثلاثا ، ثم حرمها ثلاثا ، فأنا أقسم بالله قسما لا أجد أحدا من المسلمين متمتعا إلا رجمته ، إلا أن يأتي بأربعة من المسلمين يشهدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلها بعد أن حرمها .

وقد حلف الشافعي في بعض أجوبته ، فقال محمد بن الحكم : سألت الشافعي رضي الله عنه عن المتعة كان يكون فيها طلاق أو ميراث أو نفقة أو شهادة ؟ فقال : لا والله ما أدري .

وقال يزيد بن هارون : من قال القرآن مخلوق أو شيء منه مخلوق فهو والله عندي زنديق [ ص: 127 ]

وسئل عن حديث جرير في الرؤية ، فقال : والله الذي لا إله إلا هو من كذب به ما هم إلا زنادقة ، وأما الإمام أحمد رحمة الله عليه ورضوانه فإنه حلف على عدة مسائل من فتاويه .

قيل : أيزيد الرجل في الوضوء على ثلاث مرات ؟ فقال : لا والله ، إلا رجل مبتلى ، يعني بالوسواس .

وسئل عن تخلل الرجل لحيته إذا توضأ ، فقال : إي والله .

وسئل يكون الرجل في الجهاد بين الصفين يبارز علجا بغير إذن الإمام ، فقال : لا والله .

وقيل له : أتكره الصلاة في المقصورة ؟ فقال : إي والله ، قلت : وهذا لما كانت المقصورة تحمى للأمراء وأتباعهم .

وسئل : أيؤجر الرجل على بغض من خالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إي والله .

وسئل : من قال القرآن مخلوق كافر ؟ فقال : إي والله ، وسئل : هل صح عندك في النبيذ حديث ؟ فقال : والله ما صح عندي حديث واحد إلا على التحريم .

وسئل : أيكره الخضاب بالسواد ؟ فقال : إي والله ، وسئل عن الرجل يؤم أباه ويصلي الأب خلفه ، فقال : إي والله .

وسئل : هل يكره النفخ في الصلاة ؟ فقال : إي والله .

وسئل عن تزوج الرجل المسلم الأمة من أهل الكتاب ، فقال : لا والله .

وسئل عن المرأة تستلقي على قفاها وتنام ، يكره ذلك ؟ فقال : إي والله .

وسئل عن الرجل يرهن جاريته فيطؤها وهي مرهونة ، فقال : لا والله .

وسئل عن حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في رجل استسقى قوما ، وهو عطشان فلم يسقوه فمات فأغرمهم عمر الدية ، تقول أنت كذا ؟ قال : إي والله .

وسئل عن الرجل إذا حد في القذف ثم قذف زوجته يلاعنها ؟ فقال : إي والله .

وسئل [ أ ] يضرب الرجل رقيقه ؟ فقال : إي والله ، ذكر هذه المسائل القاضي أبو علي الشريف .

وقال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح : والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ، ولوددت أني أنجو من هذا الأمر كفافا لا علي ولا لي ، وقال في روايته أيضا : والله لقد تمنيت الموت في الأمر الذي كان ، وإنه لأتمنى الموت في هذا ، وهذا فتنة الدنيا .

وقال إسحاق بن منصور لأحمد : يكره الخاتم من ذهب أو حديد ؟ فقال : إي والله .

وقال إسحاق أيضا : قلت لأحمد : يؤجر الرجل يأتي أهله وليس له شهوة في النساء ؟ فقال : إي والله ، يحتسب الولد ، وإن لم يرد الولد ، إلا أنه يقول : هذه امرأة شابة .

وقال له محمد بن عون : يا أبا عبد الله يقولون : إنك وقفت على عثمان ، فقال : كذبوا والله علي ، وإنما حدثتهم بحديث ابن عمر { كنا نفاضل بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نقول : أبو بكر ثم [ ص: 128 ] عمر ثم عثمان ثم علي ، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم ينكره ، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لا تخايروا بعد هؤلاء ، فمن وقف على عثمان ولم يربع بعلي عليه السلام فهو على غير السنة } .

وسئل أحمد : هل المقام بالثغر أفضل من المقام بمكة ؟ فقال : إي والله .

وذكر أبو أحمد بن عدي في الكامل : أن أيوب بن إسحاق بن سافري قال : سألت أحمد بن حنبل فقلت : يا أبا عبد الله ابن إسحاق إذا انفرد بحديث تقبله ؟ فقال : لا والله ، إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث ، ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا .

وقال صالح بن أحمد : قلت لأبي : تقتل الحية والعقرب في الصلاة ؟ فقال : إي والله ، وقال أيضا : قلت لأبي : تجهر بآمين ؟ فقال : إي والله الإمام وغير الإمام ، وقال أيضا : قلت لأبي : يفتح على الإمام ؟ قال : إي والله .

وقال الميموني : قلت لأحمد : ونحن نحتاج في رمضان أن نبيت الصوم من الليل ؟ فقال : إي والله ، وقال الميموني أيضا : تباع الفرس الحبيس إذا عطبت وإذا فسدت ؟ فقال : إي والله ، وقال الميموني أيضا : قلت لأحمد : هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العقيقة شيء ؟ فأملى علي أبي : إي والله ، وفي غير حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " عن الغلام شاتان مكافأتان ، وعن الجارية شاة " .

وقال إسحاق بن منصور : قلت لأحمد : التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ؟ قال : إي والله ، وقال الكوسج أيضا : قلت لأحمد : قال سفيان : تجزئه تكبيرة إذا نوى بها افتتاح الصلاة ؟ قال أحمد : إي والله تجزئه إذا نوى ، ابن عمر وزيد ، وقال أيضا : قلت لأحمد : المؤذن يجعل أصبعيه في أذنيه ؟ قال : إي والله ، وقال أيضا : قلت لأحمد : سئل سفيان عن امرأة ماتت وفي بطنها ولد يتحرك ، ما أرى بأسا أن يشق بطنها ، قال أحمد : بئس والله ما قال ، يردد ذلك سبحان الله ، بئس ما قال .

وقال أيضا : قلت لأحمد : تجوز شهادة رجل وامرأتين في الطلاق ؟ قال : لا والله ، وقال أيضا : قلت لأحمد : المرجئ إذا كان داعيا ، قال : إي والله يجفى ويقصى .

وقال أبو طالب : قلت لأحمد : رجل قال القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، ولكن لفظي هذا به مخلوق ، قال : من قال هذا فقد جاء بالأمر كله ، إنما هو كلام الله على كل حال ، والحجة فيه حديث أبي بكر { الم غلبت الروم } فقيل له : هذا مما جاء به [ ص: 129 ] صاحبك ؟ فقال : لا والله ، ولكنه كلام الله ، هذا وغيره ، وإنما هو كلام الله ، قلت : بسم الله الرحمن الرحيم { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } هذا الذي قرأت الساعة كلام الله ؟ قال : إي والله هو كلام الله .

ومن قال " لفظي بالقرآن مخلوق " فقد جاء بالأمر كله ، وقال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله عن حديث ابن شبرمة عن الشعبي في رجل نذر أن يطلق امرأته ، فقال له الشعبي : أوف بنذرك ، أترى ذلك ؟ فقال : لا والله ، وقال الفضل أيضا : سمعت أبا عبد الله وذكر يحيى بن سعيد القطان ، فقال : لا والله ، ما أدركنا مثله .

وذكر أحمد في رسالته إلى مسدد : ولا عين نظرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم خيرا من أبي بكر ، ولا بعد أبي بكر عين نظرت خيرا من عمر ، ولا بعد عمر عين نظرت خيرا من عثمان ، ولا بعد عثمان عين نظرت خيرا من علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، ثم قال أحمد : هم والله الخلفاء الراشدون المهديون .

وقال الميموني : قلت لأحمد : جابر الجعفي ، قال : كان يرى التشيع ، قلت : قد يتهم في حديثه بالكذب ؟ قال : إي والله .

قال القاضي : فإن قيل : كيف استجاز الإمام أحمد أن يحلف في مسائل مختلف فيها ؟ قيل : أما مسائل الأصول فلا يسوغ فيها اختلاف فهي إجماع ، وأما مسائل الفروع فإنه لما غلب على ظنه صحة ذلك حلف عليه ، كما لو وجد في دفتر أبيه أن له على فلان دينا جاز له أن يدعيه لغلبة الظن بصدقه ، قلت : ويحلف عليه ، قال : فإن قيل أليس قد امتنع من اليمين على إسقاط الشفعة بالجوار ، قيل : لأن اليمين هناك عند الحاكم ، والنية فيه للخصم ، قلت : ولم يمنع أحمد اليمين لهذا ، بل شفعة الجوار عنده مما يسوغ القول بها ، وفيها أحاديث صحاح لا ترد ، ولهذا اختلف قوله فيها ، فمرة نفاها ، ومرة أثبتها ، ومرة فصل بين أن يشتركا في حقوق الملك كالطريق والماء وغيره ، وبين ألا يشتركا في شيء من ذلك فلا يثبت .

وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ، وبه تجتمع الأحاديث ، وهو اختيار شيخ الإسلام ، ومذهب فقهاء البصرة ، ولا يختار غيره ، وقد روى أحمد عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم حلفوا في الرواية والفتوى وغيرها تحقيقا وتأكيدا للخير لا إثباتا له باليمين ، وقد قال تعالى : { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } وقال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } الآية ، وقال تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } ، وكذلك أقسم بكلامه كقوله تعالى : { يس والقرآن الحكيم } [ ص: 130 ] { ق والقرآن المجيد } { ص والقرآن ذي الذكر } ، وأما إقسامه بمخلوقاته التي هي آيات دالة عليه فكثير جدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية