الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        (273) 1- ما رواه البخاري ومسلم من طريق عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أخبره «أن سعد بن عبادة الأنصاري -رضي الله عنه- استفتى النبي -صلى الله عليه وسلم- في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه، فأفتاه أن يقضيه عنها، فكانت سنة» الحديث.

        وجه الدلالة: دل الحديث بظاهره وإطلاقه على أن النذر يقضى عن الميت، فدخل في هذا الظاهر والإطلاق الصلاة المنذورة.

        (274) 2- ما علقه البخاري مجزوما به: «وأمر ابن عمر -رضي الله عنهما- امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء فقال: صل عنها».

        وجه الدلالة: دل هذا الأثر على أن من ألزم نفسه فنذر صلاة، فمات قبل الوفاء بنذره أن الولي يقضي عنه.

        [ ص: 88 ] ونوقش هذا الاستدلال: بأن النقل عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يخالف قوله: «لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد... إلخ»; إذ هو عام في الصلاة المنذورة وغيرها، فالنقل عنه مضطرب.

        وعلى فرض صحة هذا النقل عنه، مع ما سبق فإنهما عندئذ يتساقطان.

        وأجيب: بأن الجمع بين هذين الأثرين ممكن، وذلك بحمل الألفاظ المسندة إليه -رضي الله عنه- على النيابة عن الحي في الصلاة، فإنها لا تجوز مطلقا، وقد حكي الاتفاق على ذلك.

        أما هذا النص المقيد بالنذر -هنا- الدال على جواز النيابة فيه، فهو محمول على النيابة عن الميت في النذر، وبهذا تجتمع تلك النصوص، ولا يصار إلى القول بتساقطها.

        3- يستحب أن يصلي عن الميت ما نذره من صلاة، وذلك من باب المعروف والصلة.

        4- يصلي عنه وليه ما نذره، كما يصوم عنه.

        ونوقش هذا الاستدلال: أن قياس الصلاة المنذورة على الصوم المنذور قياس فيه نظر؛ إذ القياس في باب العبادات مختلف فيه، وكذا النيابة في صوم النذر مختلف فيها، فالأصل غير مسلم.

        أدلة القول الثاني:

        1- قوله تعالى: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى

        [ ص: 89 ] وجه الدلالة: دلت الآية بعمومها على أن الإنسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه، وأما سعي غيره عنه فلا ينتفع به; لأنه من كسب غيره، فدل ذلك على عدم صحة النيابة عن الميت مطلقا.

        فدخل في ذلك الصلاة المنذورة، وما في حكمها مما يتركه الميت في ذمته من صلاة دون تأدية.

        ونوقش هذا الاستدلال: أن الآية قد خصت بالأدلة السابقة التي دلت على أن الإنسان -بعد موته- ينتفع بكسب غيره.

        2- ما رواه مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».

        وجه الدلالة: ظاهر الحديث أن الميت لا ينتفع من عمله إلا إذا كان أحد الثلاثة المنصوص عليها في الحديث، فلما حصر انتفاع الميت فيها دل على أن غيرها لا ينتفع منه، ومن ذلك الصلاة، فلو صلى عنه وليه لم تقبل.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن عمل الميت ينقطع بموته، وأنه لا يستفيد إلا من هذه الأمور الثلاثة كامتداد لأعماله في الدنيا.

        ولكن الحديث لم يتعرض لعمل غيره عنه، وانتفاعه منه، أو عدم انتفاعه؛ لذا فإن حكم انتفاعه بعمل غيره يستفاد من أدلة أخرى، ومن ذلك قضاء الصلاة المنذورة عنه، يقال: بجوازه؛ نظرا لوجود ما يدل عليه من النصوص الشرعية السابقة.

        (275) 3- ما رواه مالك بلاغا أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان يسأل: هل [ ص: 90 ] يصوم أحد عن أحد أو يصلي أحد عن أحد؟ فيقول: «لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد».

        (276) 4- وما رواه النسائي من طريق يزيد -وهو ابن زريع- حدثنا حجاج الأحول، حدثنا أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: «لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة».

        [ ص: 91 ] ونوقش هذان الأثران: بأنهما مخالفان لما ورد عنهما من قضاء صيام النذر عن الميت، وكذا الصلاة.

        (277) 5- ما علقه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها: «لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم».

        ونوقش: بأنه ضعيف جدا.

        ونوقش هذا الاستدلال بهذه الآثار أيضا من وجهين:

        الأول: قال ابن حجر -رحمه الله- في التوفيق بين تلك النصوص التي ظاهرها التعارض ما نصه: «قلت: ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حق من مات، والنفي في حق الحي، ومعنى هذا جواز النيابة عن الميت دون الحي».

        الثاني: لو فرضنا تعادل تلك النصوص الواردة في هذه المسألة، ومن ثم [ ص: 92 ] تساقطها، فإن المسألة فيها فتوى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما تقدم حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- في استفتاء سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه.

        ومن هنا فالمصير إلى هذه الفتوى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

        6- حكى جمع من أهل العلم الإجماع على أنه لا يصلي أحد عن أحد، منهم ابن بطال -رحمه الله- فقد نقل الإجماع على أنه لا يصلي أحد عن أحد لا فرضا ولا سنة، لا عن حي ولا عن ميت، وحكاه غيره أيضا كالقرافي، والعيني، والشاطبي.

        ونوقش هذا الاستدلال: الاستدلال بالإجماع هنا فيه نظر، بل غير مسلم به، فما ذكره ابن بطال -رحمه الله- وغيره من حكاية الإجماع يخالفها ما جاء من ذكر الخلاف في هذه المسألة بين أهل العلم، ومنهم الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- فقد تقدم ذكر أقوالهم في الصلاة المنذورة، وأنها تقضى عن الميت، وبالإمكان الاعتذار عمن حكى الإجماع في هذه المسألة:

        أولا: لعل من حكاه لم يصل إليه القول بالجواز نيابة عن الميت في الصلاة المنذورة، أو أراد إجماعا على أن النيابة في الصلاة عن الحي لا تجوز.

        ثانيا: بأنهم ذكروا الإجماع في مذهبهم.

        قال ابن حجر -رحمه الله- : «وفيه تعقب على ابن بطال حيث نقل الإجماع أنه لا يصلي أحد عن أحد... إلخ».

        7- أن الصلاة عبادة بدنية محضة لا تدخلها النيابة بنفس ولا مال، [ ص: 93 ] كالشهادتين، وهذا على وجه الإطلاق يشمل حتى الصلاة المنذورة، فلا يكون لها بدل بحال من الأحوال.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن ما ذكره من وجوب كون الصلاة عبادة بدنية محضة لا تدخلها النيابة قول حق، وهو الأصل في الصلاة، لكن قد ثبت الدليل بمخالفته في الصلاة المنذورة كما في الحديث السابق لابن عباس -رضي الله عنهما- المتضمن إفتاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- سعد بن عبادة -رضي الله عنه- بقضاء نذر أمه.

        8- قياس الصلاة على الصيام وبيانه: أن العاجز عن قضاء الصوم يطعم عن كل يوم مسكينا، فكذلك العاجز عن قضاء الصلاة يطعم ولا يصلى عنه.

        ومن هذا القبيل من مات وعليه صلوات واجبة عجز عنها يخرج من تركته ما يطعم به عن كل صلاة مسكينا، إذا أوصى بذلك.

        ونوقش هذا الاستدلال: أن الصلاة عبادة، والقياس في باب العبادات غير مسلم به.

        أدلة القول الثالث:

        استدل ابن حزم -رحمه الله- لما ذهب إليه من وجوب قضاء الصلاة المنذورة، ونحوها بما يلي:

        1- قوله تعالى: من بعد وصية يوصي بها أو دين الآية.

        وجه الدلالة: أن الآية عامة تشمل جميع الديون التي لله -عز وجل- أو لغيره دون تخصيص، ومن تلك الديون الصلاة المنذورة ونحوها من أي طاعة منذورة، حيث دلت الآية على وجوب قضائها عن الميت قبل تقسيم ميراثه.

        [ ص: 94 ] ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الأول: أن الآية في الديون المالية; لأنها جزء من آيات المواريث التي ذكرت في صدر سورة النساء.

        وأيضا: لو قيل بعمومها في كل دين على الميت ماليا أو غيره فليس فيها دليل على وجوب قضاء ديون الميت على وليه، إنما فيها أنها تقضى وتقدم على الميراث.

        الثاني: في ذيل الآية ما يدل على رفع المضارة عن الأولياء; لقوله تعالى: من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم

        وإيجاب القضاء على الولي فيه مضارة.

        2- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن سعد بن عبادة الأنصاري -رضي الله عنه- «استفتى النبي -صلى الله عليه وسلم- في نذر كان على أمه، فتوفيت قبل أن تقضيه، فأفتاه أن يقضيه عنها، فكانت سنة».

        وجه الدلالة: أن ظاهر هذه الفتوى على أنه يجب على الولي قضاء نذر مورثه الميت لا سيما وقد ختمت بقوله: «فكانت سنة».

        ونوقش هذا الاستدلال: أن فتوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مراد بها الاستحباب، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يصرح بالوجوب، وإنما أجاب السائل الذي سأله هل يفعل ذلك أو لا؟ بأن يفعل ذلك; لأن السؤال هنا عن الإجزاء، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفعل; لأنه يجزئ عن الميت، ولم يصرح بوجوب ذلك على الولي.

        [ ص: 95 ] دليل القول الرابع:

        ما تقدم من أدلة الظاهرية حيث إنها شاملة لما وجب بأصل الشرع وما وجب بأصل النذر.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن ما وجب بأصل الشرع: ظاهر آثار الصحابة أنه لا يصلي أحد عن أحد; ولأنه إما أن يكون معذورا في تركها فلا شيء عليه، وإما أن يكون غير معذور فلا يقدر عليه ولم يرد الاستثناء إلا للنذر.

        الترجيح:

        الراجح -والله أعلم- ما ذهب إليه الحنابلة; لقوة دليله، ولأن الأصل في العبادات التوقيف، فيتوقف على مورد النص.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية