الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبعضهم يرى أن بعضها أمثلة وبعضها يوافق حقائقها المفهومة من ألفاظها ، وكذا يرى بعضهم أن منتهى معرفة الله عز وجل الاعتراف بالعجز عن معرفته وبعضهم يدعي أمورا عظيمة في المعرفة بالله عز وجل وبعضهم يقول : حد معرفة الله عز وجل ما انتهى إليه اعتقاد جميع العوام وهو أنه موجود عالم قادر سميع بصير متكلم فنعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق في هذه الأمور اتضاحا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه وهذا ممكن في جوهر الإنسان لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا وإنما نعني بعلم طريق الآخرة العلم بكيفية تصقيل هذه المرآة عن هذه الخبائث التي هي الحجاب عن الله سبحانه وتعالى وعن معرفة صفاته وأفعاله وإنما تصفيتها وتطهيرها بالكف عن الشهوات والاقتداء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في جميع أحوالهم فبقدر ما ينجلي من القلب ويحاذي به شطر الحق يتلألأ فيه حقائقه ولا سبيل إليه إلا بالرياضة التي يأتي تفصيلها في موضعها وبالعلم والتعليم وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب ولا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله وهو المشارك فيه على سبيل المذاكرة وبطريق الأسرار وهذا هو العلم الخفي الذي أراده صلى الله عليه وسلم بقوله : إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله تعالى ، فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله تعالى فلا تحقروا عالما آتاه الله تعالى علما منه فإن الله عز وجل لم يحقره إذ آتاه إياه

التالي السابق


قال المصنف في الإملاء: ويحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس عند الناس من علم الآخرة إلا الأسماء (وبعضهم يرى بعضها أمثلة وبعضها يوافق حقائقها المفهومة من ألفاظها، وكذا يرى بعضهم أن منتهى معرفة الله الاعتراف بالعجز عن معرفته) ويقول: العجز عن درك الإدراك إدراك، وهذه المقالة قد حكيت من حضرة الصديق رضي الله عنه، ولفظه: العجز عن الإدراك إدراك (وبعضهم يدعي أمورا عظيمة في المعرفة بالله) على قدر المقام الذي أقيم فيه، وبحسب الفيض الذي أفيض عليه (وبعضهم يقول: حد معرفة الله -عز وجل- ما انتهى إليه اعتقاد جميع العوام وهو) معرفته بذاته وصفاته (أنه موجود عالم قادر سميع بصير متكلم) ويقتصر على ذلك (فنعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء) وينكشف الحجاب الظلماني ثم النوارني (حتى يتضح عنده) ما هو (الحق) وفي نسخة: حتى تتضح جلية الحق (في هذه الأمور اتضاحا يجري مجرى العيان) والمشاهدة (الذي لا يشك فيها) ولا يمترى وهو مرتبة حق اليقين .

وقد ذكر خمسة أقوال في هذا المجال، الأول: أن جميع ذلك أمثلة من غير حقيقة، والثاني: أن بعضها أمثلة وبعضها حقائق، والثالث: أنه لا يعرف كنه ذلك من حيث الإحاطة لعجز عقول البشر، والرابع: الادعاء بالمعرفة من حيث الحقائق، والخامس: الاقتصار على ما انتهى إليه اعتقاد العوام، ثم قال: ولا يرفع الغطاء عن هذه الأمور ويبين الحق على ما في نفس الأمر إلا من رزق علم المكاشفة (وهذا ممكن في جوهر الإنسان) لما فيه من القابلية الذاتية التي أودعها (لولا أن مرآة القلب) المنيرة (قد تراكم صداها وخبثها) أي: وسخها (بقاذورات الدنيا) أي: نجاساتها، وفي حكم ذلك الاشتغال بالأعمال التي ليس للآخرة فيها نصيب (وإنما معنى علم طريق الآخرة) وفي نسخة: وإنما نعني بتعلم طريق الآخرة (العلم بكيفية تصقيل هذه) المرآة ( عن هذه الخبائث) والأدناس (التي هي الحجاب) المانع ( عن الله تعالى وعن معرفة صفاته وأفعاله) كما هي وأسرارها وما يترتب عليها (وإنما) يتم (تصفيته وتطهيره بالكف) أي: المنع والاحتماء ( عن الشهوات) التي للنفس فيها تمام الحظ وفي نسخة عن الشبهات، وهذا هو التخلي (والاقتداء بالأنبياء) عليهم السلام أي: اتباع طريقتهم (في جميع أحوالهم) ، وهذا هو التحلي (فبقدر ما يتحلى) ويتكشف (من القلب ويحاذي) أي يقابل (به شطر الحق) نحوه (تتلألأ فيه) أي: تظهر وتلمع (حقائقه) أي: العلم المذكور (ولا سبيل إليه) أي: إلى انجلاء قلبه (إلا بالرياضة التي يأتي تفصيلها) أي: بإذابة النفس في المجاهدات وتذليلها، ولها آداب وشروط يأتي بيانها في هذا الكتاب (في موضعه) اللائق به (وبالتعلم) من مرشد حق على حد قوله: "ولا بد من شيخ يريك شخوصها"، وفي نسخة: وبالعلم والتعليم (وهذه هي العلوم التي) أمر [ ص: 166 ] بكتمانها وأنها (لا تسطر في الكتب) لأنها علوم ذوقية كشفية تدرك عن مشاهدة لا عن دليل وبرهان، ولأن المسطور في كتاب يقع في يد الأهل وغير الأهل، فإن لم يكن أهلا لمعرفته يقع في حيرة عظيمة تترتب عليها مفاسد (ولا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله) وإلا فقد وضع الشيء في غير محله، وقد نهي عن ذلك (وهو) أي: أهله (المشارك فيه) بذوقه السليم وفهمه المستقيم ويكون ذلك التحدث (على سبيل المذاكرة وبطريق الإسرار) وقال المصنف في كتابه المنقذ من الضلال: إنما يجب على العلماء بيان ما تبين لهم من الحق لا ما لا يتبين لهم، وليس لهم أن يبينوا لكل أحد ما بين لهم الحق، إنما يبينون لكل أحد ما يبلغه عقله وينتفع به لا غير. اهـ .

وقال الشيخ الأكبر قدس سره في رسالة أرسلها إلى الشيخ فخر الدين الرازي، يقول فيها: وأيضا فإن العلم بالله خلاف العلم بوحدانيته، وغاية المعقول أن نعرف الله تعالى من حيث كونه موجودا، أو من حيث السلب والإثبات، وهو خلاف ما عليه الجماعة أصحاب المقامات العلية من العقلاء والمتكلمين إلا سيدنا أبا حامد الغزالي قدس الله سره، وروحه، فإنه معنا في هذه القضية والله تعالى أجل أن يعرفه العقل بفكره، وينظره، ولذلك ينبغي للعالي الهمة أن لا يكون تلقيه عند هذا من عالم الخيال، وهي الأنوار المتجسدة الدالة على معان وراءها، فإن الخيال من شأنه أن ينزل المعاني العقلية في القوالب الحسية، يريك العلم في صور اللين، والقرآن في صورة الجبل، والدين في صورة القيد، ثم قال: وينبغي للعاقل أن لا يطلب من العلوم إلا ما تكمل به ذاته وينتقل معه إلى الدار الآخرة ليتأهب لها من هذه الدار بالإيمان والتسليم والخوف إلى آخر ما قال .

(وهذا هو العلم الخفي الذي أراده -صلى الله عليه وسلم- بقوله: إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل المعرفة بالله، فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار به فلا تحقروا) بكسر القاف مخففا من حد ضرب (عالما آتاه الله علما فإن الله لم يحقره إذ آتاه العلم) قال العراقي: رواه أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي في الأربعين التي جمعها في التصوف من رواية عبد السلام بن صالح، عن سفيان بن عيينة عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله -عز وجل- فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله عز وجل" ومن طريق السلمي رواه الديلمي في مسند الفردوس وعبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي ضعيف جدا. اهـ .

قلت: وأورده السيوطي في اللآلئ المصنوعة فقال: أخرجه الطيسي في ترغيبه فقال: أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن أبو علي حامد بن محمد الرفاء، أخبرنا نصر بن أحمد، حدثنا عبد السلام بن صالح فساقه، وزاد بعد قوله: إلا أهل الاغترار بالله، إن الله جامع العلماء يوم القيامة في صعيد واحد فيقول: إني لم أودعكم علمي، وأنا أريد أعذبكم.

وأورده كذلك في كتابه تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية من هذه الطريق إلا أن فيها إلا أهل الغرة بالله -عز وجل- كما عند السلمي اهـ .

ثم قال: وهذا إسناد ضعيف، وعبد السلام بن صالح، كان رجلا صالحا إلا أنه شيعي وهو من رجال ابن ماجه، وقد اختلف فيه، فقال أبو حاتم: لم يكن عندي بصدوق، وقال العقيلي: رافضي خبيث، قال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني: رافضي متهم، وقال عباس الدهري: سمعت يحيى يوثق أبا الصلت، وقال ابن محرز عن يحيى: ليس ممن يكذب وأثنى عليه أحمد بن يسار في تاريخ مرو وقال السيوطي: فالحاصل أن حديثه في مرتبة الضعيف الذي ليس بموضوع، قال: وقد أورد القطب القسطلاني هذا الحديث في كتاب له في التصوف، وقال: إن له شاهدا من مرسل سعيد بن المسيب. اهـ .

قال العراقي: وأما آخر الحديث فرواه أبو عبد الله الحسين بن فنجويه الدينوري في كتاب المعلمين من رواية كثير بن سليم عن أنس فذكر حديثا طويلا فيه ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله -عز وجل- يقول: لا تحقروا عبدا أعطيته علما فإني لم أحقره حين وضعت ذلك العلم في قلبه، وكثير بن سليم ضعيف. اهـ .

قلت: وأخرجه ابن عدي في الكامل في ترجمة طلحة بن زيد من حديث [ ص: 167 ] أبي موسى الأشعري رفعه: إن الله تبارك وتعالى يقول: لا تحقروا عبدا آتيته علما فإني لم أحقره حين علمته. وطلحة بن زيد متروك، قال السيوطي: وقد أخرجه الطبراني من طريق صدقة بن عبد الله، عن طلحة بن زيد به، قلت: ووجدت في كتاب تأليف الشيخ صفي الدين أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي المنصور ظافر بن الحسين الأزدي، نازل القرافة في ترجمة شيخه عتيق الدمشقي، أنه كان مع شيخه أبي النجاء بالموصل، وذكر اجتماعه بقضيب البان فسأله عن الشيوخ الذين رآهم حال سياحته من المغرب فكان يقول قضيب البان عند ذكر رجل منهم: هذا وزنه كذا حتى ذكر شيخا مشهورا ببلاد المشرق، فقال له عند ذكره من الرجال من يرفع صيته ما بين المشرق والمغرب ولا يسوى عند الله جناح بعوضة، ثم قال: قضيب البان: يا أبا النجاء إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا العلماء بالله ولا ينكره إلا أهل الغرة، تمم هذا الحديث، قال له الشيخ: ما أعرف له تماما، قال قضيب البان: تمامه فلا تحقرن عبدا آتاه الله علما فإن الله لم يحقره حين آتاه ذلك العلم. وودع الشيخ ومضى وسافر اهـ .

قلت: وهذا الذي ذكره قضيب البان لقد جاء في الخبر كما في القوت: إن العبد لينشر له من الثناء ما بين المشرق والمغرب، وما يزن عند الله جناح بعوضة .




الخدمات العلمية