الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد كان أهل الورع من علماء الظاهر مقرين بفضل علماء الباطن وأرباب القلوب كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يجلس بين يدي شيبان الراعي كما يقعد الصبي في المكتب ويسأله كيف يفعل في كذا وكذا فيقال له مثلك يسأل هذا البدوي فيقول : إن هذا وفق لما أغفلناه .

وكان أحمد بن حنبل رضي الله عنه ويحيى بن معين يختلفان إلى معروف الكرخي ولم يكن في علم الظاهر بمنزلتهما وكانا يسألانه وكيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له كيف : نفعل إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب ولا سنة فقال صلى الله عليه وسلم سلوا الصالحين واجعلوه شورى بينهم ولذلك قيل علماء الظاهر زينة الأرض والملك وعلماء الباطن زينة السماء والملكوت .

وقال الجنيد رحمه الله قال لي السري شيخي يوما إذا قمت من عندي فمن تجالس قلت المحاسبي فقال نعم ، خذ من علمه وأدبه ودع عنك تشقيقه الكلام ورده على المتكلمين ثم لما وليت سمعته يقول : جعلك الله صاحب حديث صوفيا ولا جعلك صوفيا صاحب حديث أشار إلى أن من حصل الحديث والعلم ثم تصوف أفلح ومن تصوف قبل العلم خاطر بنفسه .

التالي السابق


ثم لما أحس بأن أهل الظاهر ينكرون ذلك وأشباهه على من يعظهم من أهل الباطن وينسبونهم إلى الجهل شرع في الرد عليهم فقال: (وقد كان أهل الورع من علماء الظاهر مقرين بفضل علماء الباطن وأرباب القلوب) وهذه العبارة منتزعة من القوت ونصه: وقد كان علماء الظاهر إذا أشكل عليهم العلم في المسألة لاختلاف الأدلة، سألوا أهل العلم بالله لأنهم أقرب إلى التوفيق عندهم، وأبعد من الهوى والمعصية (وكان الشافعي) رحمه الله، ونص القوت: منهم الشافعي رحمه الله، كان إذا اشتبهت عليه المسألة لاختلاف العلماء فيها وتكافئ الاستدلال عليها رجع إلى علماء أهل المعرفة فسألهم، وكان (يجلس بين يدي شيبان الراعي) أحد الأولياء العارفين المشهورين بالصلاح والتقوى ترجمه الحافظ أبو نعيم باختصار جدا، وكذا الحافظ الذهبي وهذا نصه: شيبان الراعي عبد صالح زاهد قانت لله لا أعلم متى توفي، ولا من حمل عنه، ولا ذكر له أبو نعيم في الحلية إلا حكاية واحدة عن محمد بن حمزة المربضي قال: كان شيبان الراعي إذا أجنب وليس عنده ماء دعا فجاءت سحابة فأظلته فاغتسل منها، وكان يذهب إلى الجمعة فيخط على غنمه فيجيء فيجدها على حالتها. اهـ .

قلت: مات بمصر ودفن بقرب المزني بينه وبين قبر الخياط أحد الصالحين وزعم أهل أسيوط أنه مدفون عندهم وقد زرته حين دخلت بها، وذكر المناوي في طبقاته أن أبا علي بن سينا كاتب شيبان الراعي بما نصه: لحكمة صناعة نظرية يستفيد منها الإنسان تحصيل ما عليه الوجود بأسره في نفسه وما عليه الواجب فيما ينبغي أن يكتسبه بعلمه فتفوق بذلك نفسه، ويستكمل ويصير عالما معقولا مضاهيا للعالم الموجود ويستعد للسعادة القصوى في الآخرة، وذلك بحسب الطاقة الإنسانية، والعقل له مراتب وأسماء، بحسب تلك المراتب، فالأول هو الذي استعد به الإنسان لقبول العلوم النظرية والصنائع الفكرية، وحدة غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية ثم يترقى في معرفة المستحيل والممكن والواجب ثم ينتهي إلى حد يقمع الشهوات البهيمية واللذات الحسية فتتجلى له صورة الملائكة إذا تحلى بحليها ويعلم بغايته وموضعه، ولما خلق؟ فأجاب: من شيبان الأبله الألكن إلى الحبر أبي علي، وصل كتابك مشتملا على ماهية العقل، وحقيقته وقد ألفيته وافيا بمقصودك لا بمقصودي، وما أظنه أدرك شيبان ولا طبقة من روى عنه، فتأمل ذلك (كما يقعد الصبي في المكتب بين يدي المعلم) ونص القوت: بين يدي المكتب (ويسأله كيف يفعل في كذا وكذا) لمسائل يذكرها (فيقال له) يا أبا عبد الله (تسأل هذا البدوي) أي: لأنه كان على هيئتهم ويرعى الغنم ولا يخالط الناس، ومعرفة العلوم بعيدة عن مثلهم (فيقول: إن هذا وفق لما أغفلناه) ، وفي القوت: لما علمناه أي: قد كشف له الغطاء فصارت المعلومات عنده يقينية، وفي المقاصد للحافظ السخاوي أنكر الإمام ابن تيمية اجتماع الإمام الشافعي مع شيبان الراعي، فقال ما نصه: ما اشتهر بأن الشافعي وأحمد اجتمعا بشيبان الراعي وسألاه فباطل، باتفاق أهل المعرفة؛ لأنهما لم يدركاه اهـ .

أي: لم يدركا عصره لتقدم وفاته، وقد تقدم من الذهبي قال: لا أعلم متى توفي وقد أثبت لقيهما إياه غير واحد من العلماء، ففي الفتوحات للشيخ الأكبر قدس سره ما نصه: لما سأله أحمد والشافعي عن زكاة [ ص: 171 ] الغنم قال: على مذهبنا أو مذهبكم إن كان على مذهبنا فالكل لله لا نملك شيئا وإن كان على مذهبكم ففي كل أربعين شاة شاة، وعمن نسي صلاة من الخمس لا يدري ما هي ما يلزمه؟ قال: هذا قلب غفل عن الله فيؤدب بإعادة الخمس حتى لا يغفل عن مولاه بعدها اهـ .

وزاد صاحب القوت: وقد كان الشافعي اعتل علة شديدة، وكان يقول: اللهم إن كان في هذا رضاك فزدني منه، فكتب إليه المعافري من سواد مضر يا أبا عبد الله، لست وإياك من رجال البلاء، فنسأل الرضا، الأولى بنا أن نسأل الرفق والعافية، فرجع الشافعي عن قوله هذا، وقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فكان بعد ذلك يقول: اللهم اجعل خيرتي فيما أحب اهـ .

ثم قال صاحب القوت (و) قد (كان أحمد بن حنبل) رحمه الله تعالى (و) أبو زكريا (يحيى بن معين) بفتح الميم وكسر العين المهملة ابن عون بن زياد بن بسطام بن عبد الرحمن، وقيل: يحيى بن معين بن غياث بن زياد بن عون بن بسطام وقيل يحيى بن معين بن عون بن زياد بن نهار بن خيار بن نهار بن بسطام المري الغطفاني البغدادي الحافظ مولى غطفان، وهو من أهل الأنبار، قال أبو بكر الخطيب: كان إماما ربانيا عالما حافظا ثبتا متقنا، وقال أبو أحمد بن عدي أخبرني شيخ كاتب ببغداد في حلقة أبي عمران بن الأشيب ذكر أنه ابن عم ليحيى بن معين، قال: كان معين على خراج الري فمات فخلف لابنه يحيى ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم فأنفقه كله على الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه .

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: انتهى العلم إلى أربعة أبي بكر بن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له، وفي رواية أخرى: ربانيو الحديث أربعة: فأعلمهم بالحلال والحرام أحمد بن حنبل، وأحسنهم سياقة للحديث وأدائه ابن المديني، وأحسنهم وضعا لكتابته ابن أبي شيبة، وأعلمهم بصحيح الحديث وسقيمه يحيى بن معين، وسئل أبو علي من أعلم بالحديث ابن معين أو أحمد؟ فقال: أما أحمد فأعلم بالفقه والاختلاف، أما يحيى فأعلم بالرجال والكنى، وقال هارون بن بشير الرازي كاتب ابن معين: استقبل القبلة رافعا يديه يقول: اللهم إن كنت تكلمت في رجل وليس هو عندي كذابا فلا تغفر لي، وقال أبو بكر محمد بن مهرويه: سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول: سمعت ابن معين يقول: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة، أكثر من مائتي سنة، قال ابن مهرويه: فدخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل فحدثته بهذه الحكاية فبكى وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب من يده وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية أو كما قال، ولد سنة ثمان وخمسين ومائة ومات بالمدينة لسبع ليال بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وغسل على أعواد النبي -صلى الله عليه وسلم- وحمل على سريره ونودي بين يديه هذا الذي كان ينفي الكذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- روى له البخاري ومسلم وأبو داود وروى له الباقون (يختلفان) أي يترددان (إلى) أبي محفوظ (معروف) ابن فيروز الكرخي من المشائخ الكبار، مجاب الدعوة يستشفى بقبره، يقول البغداديون: قبر معروف ترياق مجرب، وهو من موالي علي بن موسى الرضا، مات سنة مائتين وقيل إحدى ومائتين وكان أستاذ السري السقطي، كذا في رسالة القشيري وقيل في سنة أربع والأول أصح، والكرخ اسم لعدة مواضع ومعروف من كرخ بغداد موضع بجانبه الغربي، وقيل هو من كرخ حداق وقد ذكرنا تفصيله في شرح القاموس، وكان إماما جليلا زاهدا، سمع الحديث من بكر بن خنيس والربيع بن صبيح، وعنه خلف بن هشام البزار، وله ترجمة واسعة في تاريخ الإسلام للذهبي وفي الحلية (ولم يكن في علم الظاهر بمنزلتهما) أي: لأنه غلب عليه الزهد، ونص القوت: ولم يكن يحسن من العلم والسنن ما يحسنانه (وكانا يسألانه) عن المسائل، زاد صاحب القوت: وحدثنا عن عبد الله بن أحمد قال: قلت لأبي بلغني أنك كنت تختلف إلى معروف أكان عنده حديث، فقال: يا بني كان عنده رأس الأمر تقوى الله -عز وجل- اهـ .

وقال الشعراني في الأجوبة المرضية عن العز بن عبد السلام في رسالته: مما [ ص: 172 ] يدلك على أن القوم قعدوا على قواعد الشريعة، وقعد غيرهم على الرسوم ما يقع على يد أحدهم من الكرامات والخوارق ولا يقع ذلك على يد فقيه قط ولو بلغ الغاية في العلم إلا إن سلك طريقهم واعتقد صحتها .

وكان الشيخ قبل ذلك يقول: وهل ثم طريق أو علم غير ما بأيدينا من مسائل الشريعة وأصولها، وينكر طريق الصوفية لعدم ذوقه لها، واعتقاده فيها أنها طريقة زائدة على الشريعة، فلما اجتمع بالشيخ أبي الحسن الشاذلي، وأخذ عنه قال ما قال، وكان إمام الحرمين ينكر على الصوفية أولا ثم لما رأى البرهان اعتقدهم، ثم قال: وقد كان الإمام أحمد إذا أشكل عليه أمر سأل عنه أبا حمزة البغدادي ويقول ما تقول في هذه المسألة يا صوفي؟ فإذا قال له معناه كذا وكذا رجع إليه، وكان ابن سريج يتردد إلى مجلس الجنيد والشبلي ويقول: قد استفدت من هؤلاء علوما لم أجدها عند غيرهم، وكانوا إذا سألوه عن شيء من مشكلات الطريق التي يسمعها من الجنيد والشبلي يقول: لم أفهم منهم شيئا لكن صولة الكلام ليست بصولة مبطل اهـ .

وقال صاحب القوت: قيل لأحمد لأي شيء ذكر هؤلاء الأئمة ووصفوا؟ فقال: ما هو إلا الصدق الذي كان فيهم قيل له: ما الصدق؟ قال: هو الإخلاص، قيل له: ما الصدق؟ قال: هو الإخلاص، قيل له: فما الإخلاص؟ قال: الزهد، قيل: وما الزهد؟ فأطرق ثم قال: سلوا الزهاد وسلوا بشر بن الحارث (كيف لا) والذي في القوت بعد قوله سلوا بشر بن الحارث (وقد قال - صلى الله عليه وسلم- لما قيل له: كيف نفعل إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب الله ولا السنة) وفي نسخة: في كتاب ولا سنة، فقال في الجواب: (سلوا الصالحين واجعلوه شورى بينهم) الشورى بضم فعلى من الشورة، قال العراقي: فيه عن علي بن أبي طالب وابن عباس.

أما حديث علي فرواه الطبراني في الأوسط من رواية الوليد بن صالح عن محمد بن الحنفية، عن علي قال: قلت: يا رسول الله، إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي فما تأمرنا؟ قال: تشاوروا الفقهاء والعابدين ولا تمضوا فيه رأي خاصة، رجاله رجال الصحيح، ورواه ابن عبد البر في العلم من رواية إبراهيم ابن أبي الفياض عن سليمان بن بزيع عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمض فيه منك سنة؟ قال: اجمعوا له العالمين، أو قال العابدين من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد.

وفي رواية له "اجمعوا له العابدين من غير شك" قال ابن عبد البر: هذا حديث لا يعرف من حديث مالك إلا بهذا الإسناد ولا أصل له في حديث مالك عندهم ولا في حديث غيره، وإبراهيم وسليمان ليسا بالقويين والله أعلم. اهـ .

وقال ابن يونس: سليمان بن بزيع منكر الحديث وإبراهيم بن أبي الفياض روى عن أشهب مناكير، وأما حديث ابن عباس فرواه الطبراني من رواية إسحاق بن عبد الله بن كيسان المروزي عن أبيه عن عكرمة فذكر حديثا، قال فيه قال علي: يا رسول الله، أرأيت إن عرض لنا ما لم ينزل فيه قرآن ولم تمض فيه سنة منك؟ قال: تجعلونه شورى بين العابدين من المؤمنين. الحديث، وعبد الله بن كيسان منكر الحديث، قاله البخاري، وابنه إسحاق نسبه الحاكم، وقد ورد من وجه آخر مرسلا، رواه الدارمي في مسنده من حديث أبي سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة؟ قال: ينظر فيه العابدون من المؤمنين، وهذا إنما يصح من قول ابن مسعود موقوفا، رواه الطبراني وابن عبد البر في أثر طويل، فيه: فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله، ولم يقض فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليقض بما قضى به الصالحون، وإسناده ثقات يحتج بهم. اهـ .

وفي القوت وقد روينا في خبر قيل: يا رسول الله، كيف نصنع؟ فذكر مثل سياق المصنف، وفي آخره ولا تقضوا فيه أمرا دونهم، ثم قال: وفي حديث معاذ فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال اقض فيه بما قضى الصالحون، فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله، وفي بعضها أجتهد رأيي، وكان سهل يقول: لا تقطعوا أغراض الدين والدنيا إلا بمشورة العلماء تجدوا العافية عند الله تعالى قيل: يا أبا محمد من العلماء قال الذين [ ص: 173 ] يؤثرون الآخرة على الدنيا يؤثرون الله -عز وجل- على نفوسهم وقد قال عمر -رضي الله عنه- في وصيته: وشاور في أمورك الذين يخشون الله -عز وجل- اهـ .

(ولذلك قيل علماء الظاهر زينة الأرض) كما أن الكواكب زينة السماء (و) زينة (الملك) وهو عالم الشهادة من المحسوسات الطبيعية (وعلماء الباطن زينة السماء والملكوت) وهو عالم الغيب المختص بأرواح النفوس، وفيه حسن المقابلة بين الأرض والسماء والملك والملكوت، والظاهر والباطن، وقد أورده صاحب القوت فقال: كانوا يقولون: علم الظاهر من عالم الملك وعلم الباطن من عالم الملكوت، يعنون أن ذلك من علم الدنيا؛ لأنه يحتاج إليه في أمور الدنيا، وهذا من علم الآخرة؛ لأنه من زادها وهذا هو كما قالوه; لأن اللسان ظاهر فهو من الملك، وهو خزانة العلم الظاهر والقلب خزانة الملكوت وهو باب العلم الباطن، فقد صار فضل العلم الباطن على الظاهر كفضل الملكوت على الملك، وكفضل القلب على اللسان .

(وقال) أبو القاسم (الجنيد) محمد بن الجنيد النهاوندي الأصل البغدادي القواريري سيد الطائفة ومقدم الجماعة وإمام أهل الخرقة وشيخ طريقة التصوف وعلم الأولياء في زمانه ومشهور العارفين، تفقه على أبي ثور وكان يفتي في حلقته وهو ابن عشرين سنة، وسمع الحديث عن الحسن بن عرفة وغيره واختص بصحبة السري السقطي والحارث بن أسد المحاسبي، وأبي حمزة البغدادي وكان ورده كل يوم ثلاثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة، توفي سنة 298 كما في الطبقات لابن السبكي وفي الرسالة سنة 297 (قال لي السري) ابن المغلس أبو الحسن السقطي شيخي وهو خال الجنيد ومربيه صاحب معروف الكرخي وغيره توفي سنة 257 (إذا قمت من عندي من تجالس فقلت المحاسبي) هو أبو عبد الله الحارث بن أسد عالم العارفين في زمانه وأستاذ السائرين الجامع بين علمي الظاهر والباطن، ويقال إنما سمي بالمحاسبي لكثرة محاسبته لنفسه، قال ابن السمعاني هو إمام المسلمين في الفقه والتصوف والكلام وكتبه في هذه العلوم أصول من يصنف فيها وإليه ينسب أكثر متكلمي الصفاتية .

قال ابن السبكي: روى عن يزيد بن هارون وطبقته وعنه أبو العباس بن مسروق، وأحمد بن الحسين بن عبد الجبار، والشيخ الجنيد، وإسماعيل بن إسحاق السراج وغيرهم، قال الخطيب: له كتب كثيرة في الزهد وأصول الدين والرد على المعتزلة والرافضة، وقال جمع من الصوفية: كتبه تبلغ مائتي مصنف، قال الأستاذ أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي اقتدوا بخمسة من مشايخنا، والباقون سلموا إليهم أحوالهم: الحارث بن أسد والجنيد بن محمد وأبو محمد رويم، وأبو العباس بن عطاء وعمر بن عثمان المكي؛ لأنهم جمعوا بين العلم والحقائق توفي سنة 213 (فقال نعم، خذ من أدبه وعلمه ودع عنك تشقيقه الكلام ورده على المتكلمين) قال ابن السبكي: وكان الحارث قد تكلم في شيء من المسائل في الكلام في الرد على المبتدعة، قال أبو القاسم النصرآباذي بلغني أن الإمام أحمد هجره لأجل هذا السبب، أي: لأن الإمام أحمد كان يشدد النكير على من يتكلم في علم الكلام، خوفا أن يجر ذلك إلى ما لا ينبغي، قال ابن السبكي: والظن بالحارث أنه إنما تكلم حيث دعت الحاجة ولكل مقصد (ثم لما وليت) عنه بظهري (سمعته يقول: جعلك الله صاحب حديث صوفيا ولا جعلك صوفيا صاحب حديث) ، وهذا القول أورده صاحب القوت بلفظ: كنت إذا قمت من عند السري قال لي: إذا فارقتني من تجالس فساقه كسياق المصنف (أشار إلى أن من حصل الحديث والعلم بالأحكام أولا ثم تصوف أفلح) ، لأن التصوف عبارة عن تطهير السرائر وتزكيتها عن الأخلاق المذمومة وهو متوقف على تحصيل العلوم الشرعية يهتدي بها في سلوكه. والمراد من تحصيل الحديث أخذه عن الثقات وحفظه ثم العمل به، والمراد بالعلم التفقه في الدين فيكون من عطف العام على الخاص (ومن تصوف قبل) تحصيل (العلم) المعهود (خاطر بنفسه) أي: أوقعها في الخطر والهلاك ولا يفلح أبدا، وفي القوت بعد ما أورد قول السري هذا ما نصه: يعني أنك إذا ابتدأت بعلم الحديث والأثر ومعرفة الأصول والسنن ثم تزهدت وتعبدت [ ص: 174 ] تقدمت في علم الصوفية وكنت صوفيا عارفا، وإذا ابتدأت بالتعبد والتقوي والحال شغلت به عن العلم والسنن فخرجت إما شاطحا أو غالطا لجهلك بالأصول والسنن، فأحسن أحوالك أن ترجع إلى العلم الظاهر وكتب الحديث لأنه هو الأصل، وقد قيل: إنما حرموا الوصول لتضييع الأصول، هي كتب الأصول ومعرفة الآثار والسنن. اهـ .

وفي الرسالة للقشيري: ويحكى عن السري أنه قال: المتصوف اسم لثلاث معان وهو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم لباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله، وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم-، قال: وسمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت منصور بن عبد الله، يقول: سمعت أبا عمر الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول: من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يهتدى به في هذا الأمر؛ لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، وسمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا نصر الأصفهاني يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول عن الجنيد مذهبنا هذا مقيد بالأصول والكتاب والسنة اهـ .

فهذا وأمثال ذلك مما يؤيد قوله السابق في تقديم الحديث على التصوف، ومن هنا قال بعضهم: من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن جمع بينهما فقد تحقق .




الخدمات العلمية