الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الشطح فنعني به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية .

أحدهما الدعاوي : الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب فيقولون قيل لنا كذا وقلنا كذا ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس ويستشهدون بقوله أنا الحق وبما حكي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال : سبحاني سبحاني وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم وأظهروا مثل هذه الدعاوي فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا هذا إنكار مصدره العلم والجدال والعلم حجاب والجدل عمل النفس وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة وأما أبو يزيد البسطامي رحمه الله فلا يصح عنه ما يحكى وإن سمع ذلك منه فلعله كان يحكيه عن الله عز وجل في كلام يردده في نفسه كما لو سمع وهو يقول : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فإنه ما كان ينبغي أن يفهم منه ذلك إلا على سبيل الحكاية .

الصنف الثاني من الشطح كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائقة وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر .

وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان أو يحمل على أن يفهم منها معاني ما أريدت بها ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه .

وقد قال صلى الله عليه وسلم ما حدث أحدكم قوما بحديث لا يفقهونه إلا كان فتنة عليهم وقال صلى الله عليه وسلم : كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله وهذا فيما يفهمه صاحبه ولا يبلغه عقل المستمع فكيف فيما لا يفهمه قائله ، فإن كان يفهمه القائل دون المستمع فلا يحل ذكره .

وقال عيسى عليه السلام لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الداء وفي لفظ آخر : من وضع الحكمة في غير أهلها فقد جهل ومن منعها أهلها فقد ظلم ، إن للحكمة حقا وإن لها أهلا فأعط كل ذي حق حقه .

التالي السابق


(وأما الشطح) وهو عند أهل الحقيقة كلام يعبر عنه اللسان مقرون بالدعوى ولا يرتضيه أهل الطريقة من قائله وإن كان محقا (فنعني به صنفين من الكلام) الذي (أحدثه بعض الصوفية) أي: الغلاة منهم (أحدهما: الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال) به (المغني عن الأعمال الظاهرة) المكلف بها (حتى ينتهي قوم) منهم (إلى دعوى) الحلول و (الاتحاد) مع الله تعالى وهو كفر صريح وضلال مبين، ولم يقل به أحد من المعتبرين وحاشاهم من ذلك بل ما زال المعتبرون من الصوفية ينبهون على تضليل من قال به وتكفيره ويحذرون منه، منهم المصنف، كما سيأتي له في باب السماع ومنهم الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في أول الحلية والقاضي تاج الدين البيضاوي في تفسير سورة المائدة والقاضي عياض في الشفاء، وقال العز بن جماعة في شرح الكوكب الوقاد يجب أن ينزه الله تعالى عن الحلول خلافا للنصارى وبعض الصوفية جل الله تعالى عن قولهم علوا كبيرا .

(و) من دعاويهم (ارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب) .

قال الجنيد: المشاهدة إقامة الربوبية بإزاء العبودية مع فقدان الكل دونه قال: وهي على ثلاث طبقات: مشاهدة بالحق، وهي نظر الموجودات بوجوه الاستدلالات على وحدانية الذات، ومشاهدة للحق وهي نظر الحق في قيام المصنوعات وتمام المبدعات وصيانتها عن الآفات، ومشاهدة الحق وهي نظره قبل الأشياء ورؤيته سابقا على الأشياء، وهي رؤية خالية عن الكيف عارية عن الوصف عالية عن الكشف، وقال سهل بن عبد الله: المشاهدة التبري عما سواه. فهذه أقوال الأكابر الصوفية دالة على فساد دعاويهم .

(فيقولون قيل لنا كذا وقلنا كذا ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور) بن أبي بكر بن عمر بن عبد الله بن الليث بن أبي بكر بن أبي صالح الشامي بن عبد الله بن أبي أيوب الأنصاري ابن مغيث وأبي عبد الله (الحلاج) صحب الجنيد والثوري وغيرهما من الطبقة وإنما لقب بالحلاج لأنه سأل قطانا حاجته فاعتذر بشغله فقال: أنا أحلج عنك فلما عاد وجد قطنه كله محلوجا، وقيل: لأنه كان حلاج الأسرار يعني يظهرها، ومن ولده بالبيضاء من أعمال فارس الشهاب أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الصمد بن الحسين عرب يعرب وهم بيت رياسة وجلالة، ومنهم بقية إلى الآن، واختلف الناس في شأن الحلاج فأفتى كثير من العلماء بإباحة دمه وتوقف آخرون، ولما استفتي أبو العباس بن سريج عنه، وكان من أقرانه قال هذا رجل خفي علي حاله فلا أقول فيه شيئا، كأنه لم يثبت عنده أنه ما قال تلك المقالة في صحو، قتل يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة 209 وكان آخر قوله: حب الواحد إفراد الواحد له (الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس ويستشهدون بقوله أنا الحق) وقد اعتذر عنه المشائخ بجواز أن يكون ذلك صدر منه في حال سكر وغيبة وإن الله رفع التكليف عمن غاب عقله فلا يؤاخذ بذلك ولا يحل الوقيعة فيه بسبب ذلك وإنما الإنكار على من يتلقى ذلك الكلام على ظاهره ويعتقده ويعتمده فهذا [ ص: 251 ] ينكر عليه أشد النكير، قال السيوطي: وهكذا الحال في كلام كثير ممن نسب إلى السداد والاستقامة ما يشعر بذلك فإن حسن الظن بآحاد المسلمين واجب فضلا عمن تواترت الألسنة بالشهادة له بالولاية فإن ثناء الناس بذلك شاهد صدق كما نص عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا. اهـ .

(و) من ذلك (ما يحكون) وفي نسخة: وبما يحكون (عن) القطب (أبي يزيد) طيفور بن عيسى بن سروشان (البسطامي) .

قال القشيري في الرسالة: وكان جده مجوسيا أسلم وكانوا ثلاثة أخوة: آدم وطيفور وعلي، وكلهم كانوا زهادا عبادا وأبو يزيد كان أجلهم قيل: مات سنة إحدى وستين وقيل: أربع وستين ومائتين. اهـ .

(أنه قال: سبحاني سبحاني) وسيأتي الجواب عنه قريبا (وهذا فن من الكلام) أي: ضرب منه (عظم ضرره في العوام) وتحيرت الأفهام (حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة) أي: الزراعة (فلاحتهم) وكذا أهل الصناعة صناعتهم (وأظهروا مثل هذه الدعاوي) تقليدا وتشبيها (فإن هذا الكلام يستلذه الطبع) ويجد له راحة ( إذ فيه البطالة من الأعمال) والاتكال على الأقوال (مع تزكية النفس) ونسبتها إلى الطهارة (بدرك المقامات) العلية (والأحوال) السنية التي لا يحصلها السالك إلا بعد رياضات ومجاهدات (الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم) من غير مجاهدة سبقت لهم ولا فازوا بشهود مقامه (ولا عن تلقف كلمات مختلفة المعنى) وفي نسخة: مخبطة (مزخرفة) الظاهر (ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا أن يقولوا إن هذا إنكار) على أهل الحقيقة (مصدره) أي: منشؤه (العلم) الظاهر (والجدل و) إن (العلم حجاب) عن معرفة مثل هذا (والجدل عمل النفس وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق) .

قال القطب القسطلاني في كتابه "اقتداء الفاضل باقتداء العاقل": أما قولهم العلم حجاب الله وإن طلبه من أعظم الحجاب، فهي كلمة حق أريد بها باطل وصفة نقص تحلى بها من هو عن الكمال عاطل، وإنما ذكر أهل الطريق ذلك في قوم من صفتهم أنهم حصلوا ما تميزوا به عند أهل هذا الشأن من علمي الشريعة والحقيقة ففوتحوا من الغيب بما يشهد لهم بنجاتهم فهم بالله مع الله معرضون عن ملاحظة صفاتهم، فمن كان كذلك فإنه مشغول بما هو فيه عن النظر في العلم، وأما من هو عري عن علم الظاهر والباطن فحقه أن يعلم ما يحتاج إليه في الطريق التي يسلكها فإن أبى واستكبر فإنه بعيد عن الوصول إلى منهج السعادة. اهـ .

(فهذا ونحوه) وفي نسخة: وفنه (مما قد استطار في بعض البلاد شرره وعظم ضرره) فليتنبه الفطن لذلك (ومن تكلم) وفي نسخة: ومن نطق (بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة) لما في إبقاء مثله من لحوق الضرر العظيم والفساد العميم للأمة المحمدية (وأما أبو يزيد البسطامي -رحمه الله- فلا يصح عنه ما يحكى) لجواز أن يكون مدسوسا عليه إما من عدو حاسد مريد شينه بذلك وتنقيصه كما وقع كثيرا للعلماء، وإما من زائغ ملحد أراد ترويج أمره ونصرة معتقده فدس هذا الكلام ليأخذه الناس بالقبول لإحسانهم الظن بهؤلاء الأخيار .

قال السيوطي وقد أخبرني بعض القضاة ممن أثق به أن الشيخ عبد الكبير الحضرمي أحد السادة الكبار وقد اجتمعت أنا به بمكة المشرفة في مرض موته سئل عن بيت من كلام ابن الفارض وهو قوله:

وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى

فقال: ليس هذا من كلامه فإن ابن الفارض عارف والعارف لا يقول مثل هذا (وإن سمع ذلك منه) ، وصح عزوه إليه من طريق صحيح (فلعله كان يحكيه عن الله تعالى في كلام يردده في نفسه كما لو سمع وهو يقول: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فإنه كان ينبغي أن لا يفهم ذلك منه إلا على سبيل الحكاية) .

قال السهروردي في عوارف المعارف في ذكر من انتمى إلى الصوفية وليس منهم ما نصه: ومن [ ص: 252 ] جملة أولئك قوم يقولون بالحلول والاتحاد ويزعمون أن الله تعالى في الأجسام ويسبق إلى مفهومهم قول النصارى في اللاهوت والناسوت، ومنهم من يستبيح النظر إلى المستحسنات إشارة إلى هذا الوهم، ويتخايل له أن من قال كلمات في بعض غلباته كان مضمرا لشيء مما زعموه، مثل قول الحلاج: أنا الحق، وما يحكى عن أبي يزيد من قوله: سبحاني، وحاشى الله أن يعتقد في أبي يزيد أنه يقول ذلك إلا على معنى الحكاية عن الله تعالى، وهكذا ينبغي أن يعتقد في الحلاج قول ذلك، ولو علمنا أنه ذكر هذا القول مضمرا لشيء من الحلول رددناه كما نردهم .

وقد أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشريعة بيضاء نقية يستقيم بها كل معوج وقد دلتنا عقولنا على ما يجوز وصف الله تعالى به وما لا يجوز، والله تعالى منزه أن يحل به شيء أو يحل بشيء، حتى لعل بعض المفتونين يكون عنده ذكاء وفطنة غريزية ويكون قد سمع كلمات تعلقت بباطنه فيتألف له في فكره كلمات ينسبها إلى الله تعالى وإنها مكالمة الله تعالى إياه، مثل أن يقول: قال لي وقلت له: وهذا إما رجل جاهل بنفسه وحديثها جاهل بربه وبكيفية المكالمة والمحادثة وإما عالم ببطلان ما يقول، يحمله هواه على الدعوى بذلك ليوهم أنه ظفر بشيء، وكل هذا ضلال ويكون سبب تجريه على هذا ما سمع من كلام بعض المحققين من مخاطبات وردت عليهم بعد طول معاملات لهم ظاهرة وباطنة، وتمسكهم بأصول القوم من صدق التقوى وكمال الزهد في الدنيا، فلما صفت أسرارهم تشكلت في سرائرهم مخاطبات موافقة للكتاب والسنة نزلت بهم تلك المخاطبات عند استغراق السرائر ولا يكون ذلك كلاما يسمعونه بل كحديث في النفس يجدونه ويرونه موافقا للكتاب والسنة مفهوما عند أهله موافقا للعلم ويكون ذلك مناجاة لسرائرهم إياه فيثبتون لنفوسهم مقام العبودية ولمولاهم الربوبية فيضيفون ما يجدونه إلى نفوسهم وإلى مولاهم، وهم مع ذلك عالمون بأن ذلك ليس كلام الله تعالى وإنما هو علم حادث أحدثه الله تعالى في بواطنهم، فطريق الأصحاء في ذلك الفرار إلى الله تعالى من كل ما تحدث نفوسهم به حتى إذا برئت ساحتهم من الهوى وألهموا في بواطنهم ينسبونه إلى الله تعالى نسبة الحادثات إلى المحدث لا نسبة الكلام إلى المتكلم ليصانوا عن الزيغ والتحريف. اهـ .

وقال السيوطي في تأييد الحقيقة العلية: وأما التأويل فبأمور ثم قال: الثالث أن يكون ما وقع في ألفاظهم مضافا إلى أنفسهم وهو مما يضاف إلى الله تعالى لم يقصدوا به حكاية عن أنفسهم وإنما أوردوه مورد الحكاية عن الله فإن الكلام ينقسم إلى ما يحكيه المتكلم عن نفسه وإلى ما يحكيه عن غيره وإن لم يصرح بالإضافة إليه كحديث البخاري عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة، فهذا إنما قاله -صلى الله عليه وسلم- حكاية عن ربه وإن لم يصرح به، وقال تعالى: وما منا إلا له مقام معلوم فهذا على لسان الملائكة، وقال: وما نتنزل إلا بأمر ربك فهذا على لسان جبريل وهذا نوع لطيف حررت الكلام فيه، في الإتقان، وأما حسن الظن وعدم الوقيعة فذاك هو الذي دلت عليه الآيات والأحاديث والآثار ونصوص العلماء، ولأن يخطئ الإنسان في عدم السب خير من أن يخطئ في السب، وفي الحديث: لأن يخطئ الإنسان في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، والمقصد الشرعي من التحذير حاصل بالتنفير من ذلك الكلام من غير وقيعة فيمن نسب إليه، وقد قال بعض الأئمة لو عاش الإنسان عمره كله لم يلعن إبليس فلا يسأله الله عن ذلك .

وقال السبكي في فتاويه: اعلم أنا نستصعب القول بالتكفير لأنه يحتاج إلى تحرير المعتقد وهو صعب من جهة الاطلاع على ما في القلب وتخليصه عما يشتهيه وتحريره، ويكاد الشخص يصعب عليه تحرير اعتقاد نفسه فضلا عن غيره واعتراف الشخص به هيهات أن يحصل، وأما البينة في ذلك فصعب قبولها لأنها تحتاج إلى ما قدمناه. اهـ .

(الصنف الثاني من الشطح) تلفيق (كلمات غير مفهومة) معانيها (لها ظواهر رائقة) معجبة (وفيها عبارات هائلة) عظيمة تهول سامعها (وليس وراءها طائل) فائدة يستفاد منها (وذلك) لا يخلو من حالين (إما أن تكون غير مفهومة [ ص: 253 ] عند قائلها بل مصدرها) أي منشؤها ( عن خلط في عقله) وجهل في مقامه (وتشويش) أي: تخليط (في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه) ، وهذا هو الجهل بنفسه وحديثها، والجهل بربه كما تقدم في كلام السهروردي (وهذا هو الأكثر) من أحوالهم وإن علم من نفسه جهله بتلك الكلمات وإنما حمله على ذلك هواه ليوهم أنه ظفر بشيء فالمصيبة أعظم (وإما أن تكون) تلك الكلمات (مفهومة له) متحققا بمعانيها (ولكنه لا يقدر على تفهيمها) لغيره (ولا) على (إيرادها) وإلقائها (بعبارة) سهلة (تدل على ضميره) وفحواه وذلك (لقلة ممارسته العلم) ومعاناته فيه (وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني) الدقيقة (بالألفاظ) الرائقة (الرشيقة) فإن العبارة عن المعاني المدركة بالوجدان على ما هي عليه عسيرة جدا ألا ترى أن الشخص لو أراد أن يصف لذة الجماع لمن لم يباشره بعبارة توصل ذلك إلى فهمه على حقيقته لم يستطع ذلك أبدا، وسيأتي للمصنف في الفناء، قال: إن العلماء به قصرت عباراتهم عن إيضاحه وبيانه بعبارة مفهومة موصلة للغرض إلى الإفهام، وكما قال ابن عباد في مراتب الشهود: إن التفرقة بين حقائقها على ما هي تعسر العبارة عنه وإنه زلت بسبب ذلك أقدام كثير من الناس .

وقال صاحب التعرف: مشاهدات القلوب ومشاهدات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق بل تعلم بالمنازلات والمواجيد ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال. اهـ. (و) لكن (لا فائدة لهذا الجنس من الكلام) لما يترتب عليه من الزيغ لكثيرين وهذا في حد ذاته لا بأس به في الجملة (إلا أنه يشوش القلب ويدهش العقول ويحير الأذهان ويحمل) الإنسان (على أن يفهم منها معاني) بتأويلات (ما أريدت بها ويكون فهم كل واحد) منها (على مقتضى هواه وطبعه) ، وهذا كذلك يتسبب لضرر عظيم كيف لا (وقد قال -صلى الله عليه وسلم- ما حدث أحدكم قوما بحديث لا يفهمونه إلا كان فتنة عليهم) .

قال العراقي: أخرجه العقيلي في الضعفاء وابن السني وأبو نعيم في رياضة المتعلمين من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف ولمسلم في مقدمة صحيحه موقوفا على ابن مسعود نحوه، وقال في التخريج الكبير رواه أبو نعيم في رياضة المتعلمين من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عثمان بن داود عن عكرمة عن ابن عباس رفعه بلفظ: ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم فتنة. وقد اختلف فيه عن ابن ثوبان فقال ابن السني في رياضة المتعلمين، والعقيلي في تاريخ الضعفاء من طريق ابن ثوبان، قال: حدثني عثمان بن داود، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله: ما نسمع منك نحدث به كله؟ قال: نعم، إلا أن تحدث قوما لا تضبطه عقولهم فتكون على بعضهم فتنة، قال: ورواه ابن السني أيضا في الكتاب المذكور من رواية عباد بن كثير عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رفعته: من حدث بحديث لا يعلم تفسيره لا هو ولا الذي حدثه فإنما هو فتنة عليه وعلى الذي حدثه، ثم قال: وإنما يصح هذا الحديث موقوفا على ابن مسعود، كما رواه مسلم في مقدمة صحيحه من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال فساقه كسياق حديث ابن عباس بعينه (وقال -صلى الله عليه وسلم-: كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله) .

قال العراقي: أخرجه البخاري موقوفا على علي وهو الصواب بلفظ: حدثوا الناس. والباقي سواء، وهكذا رواه البيهقي في المدخل بتقديم أتريدون على حدثوا، ورفعه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي نعيم وسيأتي في آخر الباب الخامس من حديث ابن عمر موقوفا: أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم، أي: قدر ما تحتمله عقولهم، وهو شاهد جيد ويأتي الكلام عليه هنالك. اهـ .

وقد ورد ما يقاربه من حديث المقدام مرفوعا رواه البيهقي في المدخل بلفظ: إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم بما يغرب عنهم ويشق عليهم. وعند ابن عدي في الكامل بما يفزعهم (وهذا فيما يفهمه صاحبه) ولا يقدر أن يعبره بلسانه لقصوره في التعبير (ولا يبلغه عقل المستمع فكيف فيما لا يفهمه قائله، فإن كان يفهمه القائل دون السامع فلا يحل ذكره، وقال عيسى -عليه السلام- لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا [ ص: 254 ] تمنعوها أهلها فتظلموهم، كونوا كالطبيب الرفيق) الذي (يضع الدواء في موضع الداء) هكذا أخرجه صاحب القوت قال (وفي لفظ آخر: من وضع الحكمة في غير أهلها جهل ومن منعها أهلها ظلم، إن للحكمة حقا وإن لها أهلا فأعط لكل ذي حق حقه) وفي الحلية من طريق سفيان بن عيينة قال عيسى -عليه السلام-: إن للحكمة أهلا فإن وضعتها في غير أهلها ضيعت وإن منعتها من أهلها ضيعت، كن كالطبيب يضع الدواء حيث ينبغي. اهـ .

وفي معنى ذلك روي عن سفيان الثوري، أنه سئل عن العالم من هو؟ قال: من يضع العلم موضعه ويؤتي كل شيء حقه، قال صاحب القوت: وقال بعض العارفين: من كلم الناس مبلغ علمه، وبمقدار عقله ولم يخاطبهم بقدر حدودهم فقد بخسهم حقهم، ولم يقم بحق الله تعالى فيهم وحدثني بعض أشياخنا من هذه الطائفة عن أبي عمران وهو المزين الكبير المكي قال سمعته يقول لأبي بكر الكتاني وكان سمحا بهذا العلم بذولا له لجميع الفقراء، فجعل أبو عمران يعاتبه وينهاه عن بذله وكثرة كلامه فيه إلى أن قال: أنا منذ عشرين سنة أسأل الله -عز وجل- أن ينسيني هذا العلم قال: ولم قال رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام؟ فسمعته يقول: إن لكل شيء عند الله حرمة ومن أعظم الأشياء حرمة الحكمة فمن وضعها في غير أهلها طالبه الله تعالى بحقها ومن طالبه خاصمه .

وأورد أبو نعيم في الحلية في ترجمة محمد بن كعب القرطبي بسنده إليه قال: حدثنا ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن عيسى بن مريم قام في بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموهم ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم .




الخدمات العلمية